ضد الاستبداد وضد التدخل العسكري


(عملٌ نحتـيٌّ للفنان خالد ضوا)

 موقفي الشخصي مما يجري في بلادنا (وموقف التيار الذي أنتمي إليه) معروفٌ لمعظم الأصدقاء والزملاء باعتباري "وطنجي" (على حدِّ قول البعض استهزاءً)، ولكن لا بأس من التوثيق، لأننا مسؤولون في هذه الدنيا عن مواقفنا أمام أنفسنا، وأمام أهلينا، وأمام وطننا، وأمام التاريخ الذي يسجل هذه الحقبة الأليمة التي نمرُّ بها.
منذ البداية وموقفي واضحٌ وضد سفك الدم في سوريا. ولأني منسجمٌ مع مبدئي، ولأني لا أعيش حالة نفاقٍ مضاعفة، فإن موقفي لا يتبدَّل تبعاً لهوية القاتل الذي يسفك الدم؛ سواءً كان بشار الأسد ونظامه، أو المعارضة المسلحة، أو التدخل الأمريكي، فقد تعددت الأسباب والقتل واحد على يد القَتَلَة على حساب دماء شعبنا وخراب بلادنا.
منذ البداية وموقفي واضحٌ وضد التدخل العسكري الخارجي في سوريا. ولأني منسجمٌ مع مبدئي، ولأني لا أعيش حالة نفاقٍ مضاعفة، فإن موقفي لا يتبدَّل تبعاً لهوية من يتدخل؛ سواءً كانت إيران أو حزب الله أو الخليج أو تركيا أو روسيا أو الولايات المتحدة أو مجاميع الشيشان والأفغان والليبيين والميليشيات العراقية وغيرها. ويعْضُدُ هذا الموقف، المستند إلى القِيَمِ السيادية، موقفٌ براغماتيٌّ واقعيٌّ ينطلق من حقيقةٍ أليمةٍ تقول: بأن هذا التدخل الخارجي لن يكون "حلاً" كما يروّج له البعض، ولن يردع النظام المجرم أو غيره من المجرمين، بل إن أثره سيكون سلبياً، حيث سيزيد من تعقيد المشهد، وسيزيد المقتلة السورية العَبَثِيّة التي تطحن سوريا والسوريين.
مواقفي هذه نابعةٌ من رفضٍ مطلقٍ لانتهاك واستباحة السيادة السورية. مع التأكيد على أن السيادة لا تقتصر فقط على مظاهرها الخارجية (مثلاً عدم وجود أجانب يستبيحون الحدود)، بل ترتبط أيضاً، وفي شكلٍ جوهريٍّ، بتحقيق "إنسانية المواطن" الذي يعيش في ظل هذه السيادة (حفظ حقوقه الأساسية ومنع انتهاكها والدفاع عنها). وعليه فبقاء الاستبداد والتدخل الخارجي هما وجهان لعملةٍ واحدة، ووصفةٌ خبيثةٌ لانتهاك السيادة واستباحتها. أما النضال ضد أحدهما فلا يستقيم دون نضالٍ موازٍ ضد الآخر، وكلُّ ما عدا ذلك فهو دورانٌ في حلقةٍ مفرغةٍ من العَبَثْ (بغض النظر عن كلِّ التبريرات التي قد يسوقها أصحاب الآراء العنفية وعرابّو الحلول مسبقة الصنع).

سوريا: تعددت الأسباب والقتل واحد - مقالٌ منشورٌ في صحيفة الحياة


مقالٌ منشورٌ في صحيفة الحياة بقلم طلال المَيْهَني

بدأتْ معاناة ريف دمشق منذ أكثر من عامٍ حين فرض النظام، بسلوكه الهمجي، حصاراً خانقاً على بلدات الغوطة، ليعيش سكانها في ظروفٍ لا تتوافق مع أدنى المعايير الإنسانية. مصادر عدّة تحدّثتْ عن تصعيدٍ من قِبَلِ النظام في الفترة الأخيرة، ترافق مع منع خروج المدنيين من المناطق المحاصرة (بخاصة من بلدة المعضمية). حجّة النظام في كلِّ ذلك أنه يدافع عن "الشعب" ضد المؤامرة، وأن هؤلاء المدنيين (وهم من الشعب) بيئةٌ حاضنةٌ للمسلّحين المناوئين للسلطة.
وسط كلِّ هذا تأتي الأنباء عن استخدام الأسلحة الكيماوية أو الغازات السامة في ريف دمشق كحلقةٍ أليمةٍ في مسلسلٍ مزكومٍ برائحة الموت والخراب، حيث يتم الحديث عن مئات الضحايا بينهم نساءٌ وأطفال.
الرعب ملازمٌ لهذا الحدث، يُضاف إليه رعبٌ كامنٌ في كيفية التعامل مع الحدث. فقد وفّرت مواقع التواصل الاجتماعي، والحوارات اليومية، فرصةً لمتابعة ردود الأفعال السورية: اتهاماتٌ متبادلة، شماتةٌ وتشفّي، أنباءٌ عن احتفالاتٍ بحدوث المجزرة، أنباءٌ عن وعيدٍ بثأرٍ كيماويٍّ مماثل، إلخ. ولا نشير هنا إلى السلطة، بل إلى سوريين عاديين باتوا منقسمين وفق صيغٍ مُفَرَّغَةٍ من الأبعاد الإنسانية والأخلاقية، ما يحوّل هذه المواقف إلى حاضنٍ إجرامي قبيحٍ لمزيدٍ من الإجرام.
في خِضَمِّ ذلك كله، يمكن وضع هذه الفظاعات في سياق إبادةٍ ممنهجةٍ للإنسان السوري، وسعيٍ حثيثٍ لإطفاء بصيص الأمل، وزرع الأحقاد والنعرات لأجيالٍ قادمة. كيف سيعيش هؤلاء السوريين مع بعضهم؟ وكيف يمكن للسوريين أن يلوموا الكرة الأرضية إن كانوا هم أنفسهم لا يكترثون، لا بل يفرحون، بمصائب سوريين آخرين؟ أسئلةٌ مُعَلَّقَةٌ تنتظر الإجابة، لتعكس لنا واقعاً أليماً من تَفَسُّخِ الإرادة السورية.
وكامتدادٍ لما سبق تتحوّل المجزرة إلى فسحةٍ للتحليلات، وتتحوّل الضحية إلى أداةٍ لتثبيت آراء من يصرخ. لا يهم الألم، لا يهم العدد، لا يهم الموت، ما يهم هو تحويل الضحية إلى ضحيةٍ مضاعفةٍ: قبل الموت، وحين الموت، وبعد الموت. ضحيةٌ مضاعفةٌ تتم المتاجرة بها، لدعم اصطفافاتٍ تفقد قيمتها أمام مأساة الموت واستباحة الإنسان.
نفى النظام ضلوعه في أيِّ قصفٍ كيماوي (طبعاً دون أن يتنازل ويُرْسِلَ بالتعازي لذوي السوريين الذين اغتالتهم، على حدِّ قوله، العصابات الإرهابية)، واتهمت المعارضة النظام، في حين انقسم الرأي العام العالمي. أما على المستوى الجنائي فكلُّ الاحتمالات ممكنةٌ، وكلُّ الأطراف العنفية، السورية وغيرها، ممّن استرخصتْ الدم السوري واقعةٌ في دائرة الاتهام، وعلى رأسها السلطة القائمة في سوريا.
التطور اللافت هو أن هذه المجزرة قد نالتْ "حظوةً إعلاميةً". ربما يرتبط ذلك بالمجتمع الدولي الذي اعتاد على تصنيف الكيماوي في خانة أسلحة الدمار الشامل. وعَزَّزَ هذه الحظوة الإعلامية، في السياق السوري، تصريحاتٌ سابقةٌ للسيد أوباما تحدّث فيها عن "خطوطٍ حمراء". لكن بالنسبة للإنسان السوري فالأمر سيّان؛ إذ ما الذي يجعل الكيماوي مختلفاً عن صواريخ السكود؟ وبراميل الديناميت المتفجرة؟ والطائرات الحربية والقنابل؟ هل هناك فرقٌ بين الموت بهذا أو ذاك؟ تُرى ما هو جواب الأطفال الضحايا إنْ خَيَّرْنَاهُم بالطريقة التي "يودّون" الموت بها؟ لعلّه ليس من الصعب أن نجزم بأنهم ما كانوا ليختاروا سوى الحياة، لكن هيهات لتجار الدم أن يستوعبوا.
وقد أعقب هذه الضجّة الإعلامية تهديدٌ "بتدخلٍ عسكريٍّ ضد النظام السوري"، مع العلم بأنها لم تكن المرة الأولى التي تُرْتَكَبُ فيها مجزرةٌ همجيةٌ بحقِّ سوريين أبرياء. وعليه فمن الصعب القول، بعد أكثر من مئة ألف ضحية، بأن التهديد الحالي بالتدخل مستندٌ إلى "صحوة ضميرٍ أخلاقيةٍ" في المجتمع الدولي.
في الحقيقة فالحديث الإعلامي عن تدخلٍ عسكريٍّ شاملٍ هو ضَرْبٌ من العَبَث على المستوى العملي، بخاصة مع تعقيدات المشهد السوري الذي لم يعد منشطراً إلى فريقين. إذ لن يتعدّى التدخل المفترض –إنْ حَصَلَ- بضع ضرباتٍ هنا وهناك تشمل بعض مواقع النظام (ويقال أيضاً أن الضربة ستشمل مواقع للمعارضة المسلّحة في الشمال)؛ ضرباتٍ لن "تحمي الشعب"، وبكلِّ تأكيدٍ، فهي لن تؤثر على بنية النظام، كما أنها ليستْ بقصد إزالته أصلاً حسب التهديدات الغربية ذاتها. إذ ما زال النظام، حتى اللحظة، الأقل تشتتاً والأقدر على تقديم ضماناتٍ بحفظ الحدود الشمالية لإسرائيل. وعليه فمن المستبعد أن نرى الولايات المتحدة عازمةً على حسم الوضع القائم لصالح المعارضة على اختلاف تشكيلاتها. ولهذا فما تريده الولايات المتحدة من هذه الفقّاعة الإعلامية الهائلة، على الأغلب، هو إعادة التوازن إلى العنف القائم في المشهد السوري، مع الحرص على منع أيٍّ من الأطراف العنفية من تحقيق انتصاراتٍ معتبرة.
يمكن المجادلة أيضاً بأن هذه الضربة –إن حصلتْ- ستأتي بنتائج عكسية؛ عبر شَرْعَنَةِ وجود النظام في عيون مؤيديه، ودفع ملايين السوريين الصامتين والخائفين والنازحين في مناطق سيطرته للالتفاف حوله، وعبر إدخال النظام في حالةٍ مضاعفةٍ وهذيانيةٍ من "جنون العظمة" بعد أن يعلن صموده في وجه الإمبريالية والمؤامرة الكونية، ولا نستبعد رؤية الاحتفالات "بالنصر" وهي تَعُمُّ المناطق الخاضعة لسيطرته (هذا سلوكٌ اتَّبَعَهُ كثيرٌ من الأنظمة المستبدة والمؤدلجة في الماضي).
من الصعب التكهُّن، في ضوء ظروف الفوضى الراهنة على الأقل، بتفاصيل المرحلة القادمة بخاصة في ظل التشكيك الواسع لدى الرأي العام الغربي، وعدم انتهاء عمل لجنة التحقيق، وعقبة الفيتو في مجلس الأمن، واحتمالات رد النظام وحلفائه التي قد تُدْخِل المنطقة في أتون حربٍ إقليمية (لا يبدو أن أحداً مستعدٌّ لها في الوقت الحالي). وبناءً على كل هذه المعطيات فالضربة العسكرية مستبعدةٌ، على الأرجح، رغم كلِّ التهويل الإعلامي.
أما إنْ حَدَثَ وحَصَلَتْ هذه الضربة فستترك أثراً سلبيّاً على سوريا والسوريين، ليس فقط على مستوى تفتيت الحس الوطني/السيادي (الذي غدا هشاً ومستباحاً وبكلِّ أسفٍ)، بل على المستوى العَمَلي البراغماتي؛ فالتهديدات لا تشير إلى أيِّ رغبةٍ في تغيير النظام، كما أن سوابق التدخل في المنطقة ليست بالتجارب المبشرة بالخير على الإطلاق.
يبقى احتمالٌ قويٌّ يشير إلى أن "التهديد بالضربة" مشروطٌ كجزءٍ من لعبة عضِّ الأصابع بين القوى العظمى، ويقع في سياق ضغوطاتٍ جِدِّيَةٍ للدفع باتجاه حلٍّ تفاوضيٍّ ما، حيث يُسْتَشْهَدُ هنا بالنشاط الديبلوماسي الحثيث، وبالتصريحات حول جنيف 2 (أو نيويورك 1) على هامش الضجّة الإعلامية السائدة.
في كلِّ الأحوال يجب التأكيد على أن كلَّ تأخيرٍ في وضع حدٍّ لهذه الحرب العبثية، والدخول في جرعةٍ إضافيةٍ من التصعيد العنفي، يعني حُكْماً سقوط مزيدٍ من الضحايا الأبرياء وتعقيد الأمور: ستتابع الأطراف السورية ذبح بعضها، ليبقى السوريون المدنيون ينتظرون موتهم وهم يترقّبون مجزرةً جديدة، وتستمر المأساة في حالةٍ من الاستعصاء الأليم.
أخيراً، وفقط للتذكير: "لو" أن السلطة الفاشلة لم تُقْدِمْ، منذ البداية، على القمع والقتل لما حصل ما حصل، ولما وصلتِ البلاد إلى هذا الوضع الكارثي. أقول "لو" وعَمَلُ الشيطان، في هذه الأيام الكالحة، مفتوحٌ على مصراعيه ليعيث قتلاً وتخريباً، فقد تعدّدت الأسباب، والأطراف، في سوريا والقتل واحد: سواء كان "بالسكود" من قوات النظام، أو "بالهاوِن" من المعارضة المسلحة، أو "بالتوماهوك" من التدخل الأمريكي.

 رابط المقال:





حول الأسلحة الكيماوية والاغتيال الممنهج للإنسان السوري - مقالٌ منشورٌ في صحيفة القدس العربي




مقالٌ منشورٌ في القدس العربي بقلم: طلال الـمَيْهَني

أنباءٌ مريعةٌ تتحدّث عن قصفٍ بغازاتٍ سامةٍ أو سلاحٍ كيماويٍّ ضربَ ريف دمشق، وسَقَطَ ضحيته مئاتٌ من المدنيين بينهم نساءٌ وأطفال؛ كارثةٌ أليمةٌ تضافُ إلى سلسلةٍ من عمليات التدمير الممنهج للإنسان السوري، وتدقُّ إسفيناً جديداً في مجتمعٍ مُنْهَكٍ وبلدٍ مدمّر.
ومع انتشار الخبر الأليم سارع المحللون السوريون وغيرهم إلى توزيع الاتهامات، بعد أن حوّلوا الجريمة النكراء إلى "فرصة"، والضحايا إلى مجرَّد "شيء". ومما يؤسف له أن تلك التحليلات، في معظمها، لم تكن بهدف الوصول إلى الحقيقة، أو منع تكرار المجزرة، أو نابعةً من رغبةٍ في إرساء العدالة، بل نكايةً كَيْدِيّةً "بالشيطان" المختلف عنهم (مع تبادل المواقع حسب الاصطفافات التافهة أمام الموت وفداحة الخَطْب).
لا تمكن مقاربة مثل هذه الكارثة الـمُريعة عن طريق الاختباء وراء ما يعجبنا من الآراء الفيسبوكية، أو أحاديث المقاهي، أو التصريحات الإعلامية من أطرافٍ لها مصالح شتّى ومتناقضة في طمْس الحقائق أو تشويهها سواء من قبل النظام ومن يدعمه، أو ممن يدّعي معارضة النظام ومن يدعم تلك المعارضة. فما حدث ويحدث وسيحدث هو تكرارٌ بائسٌ للمتاجرة الرخيصة بالضحايا، وتحويلٌ قذرٌ للكارثة البشرية إلى "ساحةٍ" لإثبات الأهواء ووجهات النظر، ولحقنِ الذات المتضخّمة بجرعاتٍ مُتَوَهَّمَةٍ من صوابية الرأي (أو الاعتقاد الخُرافي بتلك الصوابية). وحدهم الضحايا يبقون، وسط هذا الضجيج الكريه، شاهداً على قذارة ووضاعة من يتاجر بهم ويستغل رحيلهم كأداةٍ لتحقيق بعض المكاسب الدنيئة.
بفَتْحِ باب "التخمينات" فكلُّ شيءٍ ممكنٌ ومحتمل، ولا أحد من الأطراف العنفية الداخلية والخارجية خارج دائرة الاتهام. ولعلّه من البدهي أن تتجه الأصابع لتشير أولاً إلى النظام (وللنظام سلوكٌ قاتلٌ واضحٌ في قصف الأحياء السكنية بالطائرات والمدفعية والبراميل المتفجرة بحجّة وجود مسلّحين مناوئين للسلطة). كما لا يمكن تبرئة المعارضة المسلحة (وهي شتاتٌ واسعٌ من المجموعات المتباينة)، إضافةً إلى أيادٍ خارجيةٍ إقليميةٍ ودوليةٍ باتتْ تعبثُ في البلاد طولاً وعرضاً دون أن يكون للأطراف السورية، على اختلافها، قدرةٌ على السيطرة عليها. ولهذا فطَرْحُ سؤالٍ من قبيل: "هل يُعْقَل من فلانٍ وفلان أن يقوم بكذا أو كذا؟" هو طرحٌ عديمُ القيمة، ولا يَصُبُّ إلا في سياق التشتيت الدّعائي؛ فهل ما حدث طيلة سنتين مندرجٌ أصلاً في باب "ما يُعْقَل"؟
من الناحية الأخلاقية، لا أعتقد أن هناك رادعاً يمنع أيّاً من الأطراف العنفية المذكورة من ارتكاب هذه المجزرة الرهيبة (متابعةٌ بسيطةٌ لسلوكها تُظْهِرُ أن استرخاص الإنسان السوري هو سمةٌ مشتركةٌ بينها). وما هو مؤكدٌ هو أن مَنْ أقْدَمَ على هذا الفعل الشنيع والخبيث قد أراد خلط الأوراق، وتعقيد المشهد أكثر وأكثر، وإدخال البلاد في مزيدٍ من الدم والخراب، بخاصة مع التصريحات الإعلامية التي تتحدث عن ضربةٍ عسكريةٍ وشيكة. ومع أن مثل هذه الضربة مستبعدة بسبب تعقيدات المشهد السوري، إلا أنها –إنْ حصلتْ- ستكون محدودةً وذات أثرٍ سلبيٍّ رغم كل التهويل، ما سيجعل منها استكمالاً لمسلسل الاستباحة السافرة لحقِّ الحياة عند عددٍ كبيرٍ من السوريين الأبرياء.
وإنْ أردنا البقاء في دائرة "التخمينات"، والتبادل المراهق للاتهامات دون سعيٍ نحو العدالة، فإن السؤال عن الجاني سيغدو شأناً عبثياً، مع ما يتلوه من نشرٍ للخوف والإحباط، وتمييعٍ للحقيقة، وتفريغٍ للجريمة من قباحتها، ومَنْحِ رخصةٍ، غير مباشرة، بمزيدٍ من المجازر التي باتتْ، وبكل أسفٍ، حَدَثاً عادياً في المشهد السوري.
وأخيراً فمن النافل والـمُكَرَّرِ القول بأن الخطوة الأولى، لأيِّ حلٍّ ناجعٍ وحقيقي، ليستْ في رفع سويّة العنف العبثي، بل في إيقاف ناره التي تلتهم سوريا والسوريين. أما كلُّ ما عدا ذلك، من الحلول الاجتزائية أو ردود الأفعال اليائسة أو التصعيدية، فهي مُجَرَّدُ تسكينٍ عَرَضِيٍّ موقت، وفرصةٌ لزيادةِ المقتلة السورية، واستمرارِ الكابوس الأليم الذي سيشهد المزيد من الفظاعات؛ لكن هل من مجيب؟

رابط المقال: 
http://www.alquds.co.uk/?p=78920




لا يوجد تدخلٌ عسكريٌّ في سوريا


المؤلم في المأساة السورية أن من يتباكى على الدّم الـمُراق لا يسعى، ولا يعنيه أصلاً أن يسعى، إلى حقن الدم. ينطبق هذا على النظام، وعلى معظم المعارضة، وعلى من يدعم النظام، وعلى من يدعم معظم المعارضة. إذ لا يتقن تجار الدم سوى التصعيد واستجلاب دمٍ إضافي. هذا المنطق الأعوج والبهائمي الذي يتبعه كلُّ هؤلاء هو ما يسير بسوريا إلى الدرك الأسفل، وهو ما يدخل الشعب السوري في كارثةٍ حقيقية تزيد استفحالاً.
أما بخصوص الحديث عن "تحرّكٍ أمريكيٍّ ضد النظام السوري"، فهو تصعيدٌ سيبقى محصوراً على الأرجح في سياق الزوبعة الإعلامية حالياً. ولعلّه من الممكن أن نجزم أن مثل هذا التدخل العسكري لن يحصل (رغم كل ما يحكى). قد تكون هناك ضرباتٌ محدودةٌ، لكن حتى ذلك مستبعدٌ في ظلِّ الوضع الهش والحرج القائم في سوريا.
وفي حال حصلتْ مثل هذه الضربات فهي بالتأكيد تصبُّ في مصلحة النظام، حيث ستكون محدودةً، ولن تؤثر على بنيته، بل على العكس ستكون بمثابة جرعةٍ للنظام كي يتبجَّحَ بأنه يهاجَمُ من قِبَلِ "القوى الاستعمارية"، وكي يُصابَ بجنون العظمة باعتباره قد "صَدَّ العدوان عن أسوار دمشق". من ناحيةٍ أخرى سيلتصق المؤيدون بالنظام، وسيلتف حوله الصامتون (وهم الأغلبية). وهكذا سيصبح معظم المعارضين، في نظر غالبية السوريين، خَوَنَةً وبشكلٍ رسميٍّ، ودون الحاجة لرمي أيِّ اتهاماتٍ باطلة. ولهذا فمن الـمُرَجَّحْ أن تبدأ ماكينة النظام الإعلامية، بالتحالف في شكلٍ غير مباشر، مع الدعاية السائدة حالياً كي تتاجرَ وتُضَخِّمَ بهذه القضية.
انتصارٌ مرحليٌّ وخبيثٌ للنظام القاتل بمساعدة "ماما" أمريكا، في معركة عضِّ الأصابع، وسط بعيق وصراخ كثيرٍ من المعارضين السذّج والأذلاء من عديمي الكرامة، ووسط نزيفٍ مستمرٍّ لدماء شعبنا السوري. 

لا عزاء لنا فالوطن في عُهْدَة البعير




(صورة مؤلمة لجانبٍ من الخراب الذي أصاب طلعة خان الوزير في حلب القديمة)

أنا العبد الفقير "الوطنجي" السوري أسأل؛ هل يفيد الاكتفاء بالقول: "قلنا لكم"؟
منذ أن انطلقت الأحداث في سوريا قلنا لبعير النظام أن القتل لن يوقف الانتفاضة، بل سيؤدي إلى حربٍ أهلية وضياع سوريا، ولكن البعير لا يمكن أن يفقه. ومع تطور الأحداث قلنا لبعير المعارضة أن العنف المضاد لن يُسقط النظام بل سيسهم في حربٍ أهلية وضياع سوريا ولكن البعير مصنوعٌ من طينةٍ واحدة، ولا يمكن أن يفقه.
لكن هل يفيد الاكتفاء بالقول: "قلنا لكم"؟ فقد كان البعير من الطرفين، وما زال، يبعق ويثقب آذاننا بأنه لا توجد حربٌ أهليةٌ في سوريا، وأن الثورة أو ممانعة المؤامرة والإرهاب (حسب اصطفاف البعير الذي يتحدّث) مستمرةٌ حتى آخر طفلٍ سوريٍّ، وستنتصر (يبقى تعريف الانتصار مجهولاً لدى البعير).
الآن يبدو جليّاً للعيان أن البعير من عديمي الأخلاق والرؤية، من الشوارعجية ورعاع المثقفين وحثالات الإعلام والمخابرات، من الطرفين، لا يستحقون أن يتشدّقوا بأنهم سيقودون هذا البلد. وبما أن لكلِّ بعيرٍ بعيرٌ يصفق له، فماذا تتوقعون؟ ما هو مستقبلُ بَلَدٍ الكلمةُ فيها للبعير؟
منذ اللحظة الأولى كنا ضد سفك الدم السوري. لكن بعير النظام لم يستوعبوا ذلك. وبعير المعارضة لم يستوعبوا ذلك. معظمهم أدْمَنَ لون الدّم، معظمهم أدْمَنَ منظر الضحايا، أما الانحطاط فيتجلّى حين يتحدّث هؤلاء البعير عن الحرية والكرامة والوطن.
لكن هل يفيد الاكتفاء بالقول: "قلنا لكم"؟ هل ارتكبنا ذنباً ما؟ هل قصّرنا نحن الذين قلنا وكَرَّرْنا كلَّ ما سبق؟ نعم بالتأكيد. إذ لم نملك القوة والأدوات، ولم نستطع أن نترك أثراً  يقف في وجه البعير. حاولنا بناء شيءٍ هنا وهناك، لكن الأحداث كانت دائماً أسرع منا. فما يُبْنَى بأسابيع ينهارُ في لحظةٍ برصاصة غدرٍ أو قذيفة. أؤنبُ نفسي؟ ربما نعم، فتأنيب الذات سبيلٌ لتقويمها (إن بات في المشهد مساحةٌ للتقويم).
لا عزاء لنا في مصابنا السوري، لا عزاء لنا فيما حلَّ ويحلُّ وسيحلُّ بوطننا. ولكن لا مناص من أن نكمل. فلهذه الأرض حقٌّ علينا. 
ووسط كلِّ هذا أُذَكِّرُ نفسي بأن أولادي يوماً ما سيسألونني، يوماً ما سيلومونني، وعليَّ أن أكون على قدر ذاك السؤال واللوْم. ومن يدري؟ فلعله سلوانٌ لهم في أن أباهم لم يكن خَوّاناً أثيماً، ولم يتاجر بوطنه وأهله.
أخيراً أُذَكِّرُ نفسي بأني يوماً ما سأموت، وبأن هذا الجسد سيتوسَّدُ مكاناً ما تحت التراب، وأنني سأقف بين يديّ ربٍّ عظيمٍ كيْ أُسْأَلَ عمّا قدّمَتْ يداي: إلهي؛ أُشْهِدُكَ بأني ما دعوتُ يوماً إلى إراقة الدم، وأُشْهِدُكَ أني سعيتُ جهدي، مع تقصيري، في حقن الدم، وأني أخافُ اللهَ ربَّ العالمين.

الكيماوي خط أحمر - مقالٌ قديمٌ منشورٌ في موقع ألف


(تصميم للفنان أحمد علي بعنوان: ياسمين كيميائي) 


يحدثني وهو يرقص في حالة نشوة:
-
يقولون أن الكيماوي خطٌ أحمر ... ألم تسمع؟ 
-
من هم هؤلاء الذين يقولون هذا الكلام؟ 
-
أشخاصٌ يلبسون ربطات عنق، ويتحدثون لغاتٍ أجنبية! 
-
أجانب؟ 
-
نعم أجانب ... جماعة من الفهمانين!
-
ولكن لحظة ... هل لنا أن نستنتج، إنْ كان الكيماوي خطاً أحمر، فبراميل الـ TNT خط بنفسجي؟ 
-
عفواً؟
-
وماذا مثلاً عن الرصاص أو الدبابات أو طائرات الميغ؟ هل هو خطٌ أبيض؟ رمادي؟ أو ربما أخضر؟ 
-
برأيي أصفر
-
لا ... برأيي أخضر ...
-
عبرتُ عن رأيي وقلتُ أنه ... أصفر
-
الاختلاف في الرأي لا يفسد الود الذي بيننا ... أليس كذلك؟ 
-
تحيا الديمقراطية
-
هل تعتقد ذلك؟
-
طبعاً ... 
-
ربي يسر ... وماذا يقولون أيضا؟
-
يقولون أيضاً أن الكيماوي من الأسلحة غير التقليدية 
-
تباً
-
لماذا تشتم؟
-
لأن هناك يا صديقي ما هو أهم مما يقولون! 
-
مثل ماذا؟
-
هل خطر لك ان تسأل: هل هناك فرقٌ أصلاً بين السلاح التقليدي والسلاح غير التقليدي؟
-
أفترض أن هناك فرق ...
-
أقصد: هل هناك فرق أصلاً بين الموت بسلاح تقليدي أو غير تقليدي؟ بالبندقية أو بالكيماوي؟ 
-
يا أخي بالله عليك لماذا تتعبنا بهذه الأسئلة؟ ... أنت من ذلك الصنف من الناس الذين يحبون تعقيد الأمور! الأجانب يقفون إلى جانب الشعب السوري! وها أنت تشق الصف!
-
السؤال بسيط يا صديقي ... في رأيي فالموت واحد ... وفي كلتا الحالتين يُقتل "الإنسان" ... الخسارة واحدة ... ربما الفارق في حجم الفقاعات الإعلامية وفي التصنيف!
-
التصنيف؟
-
نعم ... التصنيف ... 
-
الأجانب قالوا أن الكيماوي خط أحمر ... إذن هو خط أحمر ... الأجانب قالوا أنه لا يجوز استخدام الكيماوي ضد الشعب السوري ... إذن لا يجوز ...
-
السلام عليكم
-
إلى أين؟ الغداء سيجهز بعد قليل
-
لا بأس أنا على عجلةٍ من أمري ... تذكرتُ شيئاً هاماً ...
-
رافقتك السلامة
تركتُه ومضيتُ في حال سبيلي، فاستنشاق الهواء مفيدٌ في هذه الحالات، ولا رغبة عندي في الخوض أكثر في هذا النقاش ... 
كم هي واضحةٌ عورات هذا العالم السخيف ... "عالم الإنسان" ... إتقانٌ تافهٌ للكلام والتصنيف ... وابتداعٌ مُبْتَذَلٌ للفوارق بين أمورٍ متشابهة ... فالأسلحة "كلها"، وإن اختلفتِ التفاصيل والتصريحات، وإن اختلفتِ البهرجة والفقاقيع، تتفق في ذات النتيجة: القتل! 
حتى الهواء ... صار له لون الدم ... ألا ترى؟ ... لون الدم أحمر ... ليس شفافاً ... هذا يعيق الرؤية بعض الشيء ... وإلى أن "ترى" أتمنى لك كل الخير ... مع المودة.

رابط المقال:

ضحيةٌ سوريةٌ: فرحٌ سوريٌّ، وحزنٌ إسرائيلي!

(عملٌ نحتيٌّ للفنان الكوري سيونتشون ليم)

 نَشَرَتْ صحيفة القدس العربي ترجمةً لمقالٍ كتبه الصحفي الاسرائيلي آري شبيط في صحيفة هآرتز بعنوان: "نهاية العالم في دمشق". المقال وصمةُ عارٍ ستلاحق السوريين وسوريا والسلطة الكريهة القذرة التي ما زالت متشبثةً بكل حقارةٍ بكرسيِّ الحكم. أما نحن السوريين فنمضي أوقاتنا في البحث بأظافرنا، او بالأحرى بمخالبنا، عن كلِّ ما يجعلنا نتشفّى به من بعضنا، لنفرِّغَ فيه همجيتنا وتخلفنا وانحطاطنا، ونَصُبَّ جامَ حقدنا على الضحايا السوريين؛ بالبقلاوة والرصاص والمدافع والكيماوي والكلمات التي تقطر حقداً وبغضاً وكراهية.
ربما كان من الأفضل، في هذا الزمن الحقير، أن ننعي أنفسنا كسوريين، كشعبٍ، كأمةٍ، كوطن؛ أن ننعي كل المفاهيم المثقوبة، وكلَّ الأفكار الصفراء، أن ننعي هذه المنطقة الملعونة الـمُتْخَمَة بدماء أبنائها، والمشبعة بأكاذيب التاريخ، والغارقة في الجهل والذل والتخلف. يجب علينا أن ننعي كلَّ ذلك قبل أن نتجرأ، بكل صفاقةٍ، على لعن هذا العالم.
أخيراً لا بد أن نتذكر أن من لا يحترم نفسه، ولا يحترم حقَّ أخيه في "الوطن" في أن يعيش، لا يتوقع أن يحترمه أو يحزن لموته أحد.

مقتطفات من المقال الصحفي الإسرائيلي:
((تنزف جارتنا الشمالية منذ سنتين، كما لم ينزف الاسرائيليون والفلسطينيون في مدة 100 سنة صراع. وقد وقعت حادثة كيميائية في الماضي لم يشأ العالم ان يعلم بها في الحقيقة. ووقعت كما يبدو حوادث كيميائية اخرى لم يشأ العالم أن يعلم بها ايضا. لكن من المحتمل كثيرا الآن أن تكون حادثة كيميائية مخيفة لم يسبق لها مثيل قد حدثت شرق دمشق.
اذا كان ذلك قد حدث حقا فان بشار الاسد قد تجاوز الخط الاسود، واذا كان ذلك حقا فان الربيع العربي قد تجاوز الخط الاسود. وقد تحولت الانتفاضة العربية المجيدة، التي حملها الغرب على راحتيه الى واقعة من أحداث آخر الزمان تُحدث واقعا من أحداث آخر الزمان.
لم يعد الانسان النزيه يستطيع ان يتجاهل ما يحدث، ولا يستطيع عالم يُفترض ان يكون عالما متنورا ان يصم اذنيه. ومن يوم الى آخر يصير للحرب الأهلية في سورية ذاك المعنى المثير للقشعريرة الذي كان للحرب الأهلية في اسبانيا. فهي تبشر بنهاية عصر، وهي ترسم خطوط صورة العصر الجديد الذي سيحل محله.
لا يؤتى بضحايا أبرياء فقط ليُدفنوا في دمشق، بل يؤتى ايضا بمصطلح القومية العربية المتنورة ليُدفن. ولا يُدفن اليوم في دمشق الأبرياء فقط، بل الأمل في وجود غرب ذي ضمير. ويُدفن في دمشق اليوم اولاد يبدو أنهم أُميتوا بغاز، ونساء يبدو أنهن أُمتن بغاز، وفكرة مجتمع دولي ووهم قانون دولي.
اذا كان يمكن قتل مواطنين بغاز في سنة 2013 فهذه نهاية العالم. إنها نهاية العالم الذي ادعى أنه أخلاقي، ونهاية العالم الذي ادعى أنه مستنير ونهاية العالم الذي طمح الى انشاء نظام دولي يقبله العقل ويكون الشرق الاوسط جزءً منه.))

رابط المقال كاملاً:
http://www.alquds.co.uk/?p=77035

حين يغدو البقاءُ على قيْدِ الحياةِ ذنباً


(لوحة الغارقون بدمائهم للفنان وسام الجزائري)

"كيف يموت غيرنا ونحن هنا؟"
يصرخُ بعض أعزِّ أصدقائي ممن يعيش في الداخل السوري. يشعرون بتأنيب الضمير. يجتاحهم إحساسٌ مريرٌ بالذنب لأنهم، وفقط لأنهم، ما زالوا على قيد الحياة! أيعقلُ أن يغدو البقاء على قيد الحياة ذنباً؟ يأتي الجواب مباشرةً من سوريا، بلادنا الجميلة التي باتَتْ موطناً للجنون واللامعقول: حين يصبح الموت هو القاعدة، تصبح الحياة قضيةً للترف.
أغلق سماعة الهاتف. أتأملُ عجزي، أتنهدُ، وأسمحُ للعين بأن تدمع. يا إلهي؛ بتنا نقيس الأشياء بقربها أو بعدها عن الموت، عن رائحة الموت، عن لون الموت، حتى صار انتشار الموت معادلاً لكراهية الحياة.
وسط كلِّ ذلك أُذَكِّرُ نفسي بأن البقاء على قيد الحياة ليس ذنباً على الإطلاق، فالأصل في الأشياء إعمارُ هذه الأرض. لكن الذنبَ كلُّ الذنبِ في الفشل في منع الموت عمّن رحل، والفشل في الحفاظ على حياة من بقي. الذنبُ، وبكلِّ اختصارٍ،  خصلةٌ قبيحةٌ نتشارك بها كلنا، الذنب عبارةٌ عن مأساةٍ تلاحقنا، مأساةٍ ملازِمَةٍ لاستمرار هذه الحرب المجنونة والحقيرة. وإن أردنا التكفير عن الذنب فلا بدَّ من إيقاف الحرب: معادلةٌ بسيطةٌ لا تروق لتجار الدم، معادلةٌ بسيطة لا يستوعبها صُنّاع الموت، معادلةٌ بسيطةٌ كلُّ تأخيرٍ في تحقيقها إمعانٌ في كراهية الحياة، وإمعانٌ في الذنب.

مقالٌ قديمٌ بعنوان: بين العسكرة ومطلب التدويل - تمهيدٌ لإزالة النظام؟ أم ضمانٌ لاستمراره؟

(أوقفوا القتل - من عمل الفنانة يارا النجم)

 كتبتُ في نهاية عام 2011، وبالتحديد بُعَيْدَ تشكيل ما عُرِفَ باسم المجلس الوطني، مقالاً بعنوان "بين العسكرة ومطلب التدويل: تمهيدٌ لإزالة النظام؟ أم ضمانٌ لاستمراره؟" وقد نُشِرَ المقال في مطلع عام 2012، في موقع أَلِفْ.
يناقش المقال فكرةً في غاية البساطة: إن ما يبدو "ظاهرياً" وكأنه وسيلةٌ لدعم الانتفاضة وإسقاط النظام، سيغدو "عملياً" وسيلةً لسرقة الانتفاضة واستمرار النظام.  

مقتطفات من المقال:
((يجب أن نعلم أن النظام منهكٌ على مستوى القواعد، واقتصاد الوطن في حالة تدهور، ومعنويات غلاة المؤيدين منخفضة. ولكن هذا كله لا يهم النظام الذي لم يعر تاريخياً الوضع الداخلي أي اهتمام، بل على العكس فقد اعتاد النظام النظر إلى الخارج في رسم سياساته والحفاظ على استمراره. وبناء على ذلك لا يجب أن نقع في فخ استغباء النظام السوري خاصة من ناحية مهارته في قراءة التوازنات الخارجية، فلديه رصيد عميق في التعامل مع الملفات الإقليمية، وخبرة أمنية كبيرة تمتد على مدى أربعة عقود من الزمان. 
فيما يتعلق بعسكرة الحراك فمن المعروف أن النظام السوري لن يسلم بسهولة، وسيواجه العسكرة الداخلية ويستمر بالقمع الذي سيكون أكثر استشراساً! صحيح أن عسكرة الحراك ستوقع بعض الخسائر في صفوف الجيش والأمن، ولكن ميزان القوى سيبقى في مصلحة النظام، وبالتالي فالعسكرة لن تشكل خطراً حقيقياً يتهدده. وبالعكس تماماً فقد سعى النظام وبشكل حثيث ونشط إلى عسكرة الحراك، ويتبين ذلك جلياً من خلال إقدامه على استعمال العنف غير المبرر، والاعتقال والتنكيل بآلاف الناشطين الميدانيين المتنورين ممن كان لهم دور في سلمية الحراك، والتغاضي عن تهريب السلاح في الأشهر الأولى من الحراك، أو توفيره للمتظاهرين بطرق مباشرة أو غير مباشرة.
كما أن النظام لن يتوانى عن استغلال مطلب التدويل كورقة ثمينة يلعب بها على المستوى الداخلي للإيقاع بالحراك الشعبي بحجة ارتهانه للخارج! ومرة أخرى سيجند آلته الإعلامية، ويقوم بالتباكي على السيادة الوطنية، وسيحشد لذلك كل الشعارات التي ما فتئ يرددها مدعومة بدلائل واقعية هذه المرة. ولعله من الطبيعي أن يكون لذلك صدى لدى فئات كثيرة من الشعب السوري الرافضة للتدويل والتدخل الأجنبي بطبيعتها. 
أما على المستوى الخارجي، فسيتعامل النظام مع مطلب التدويل (أو حتى التدويل في حال حصوله) بهامشٍ عالٍ من المناورة، لأنه يدرك تماماً أن القوى العظمى تنظر إليه كورقة للابتزاز، وبرأيي فهو مستعد لأن يجعل نفسه خاضعاً لهذا الابتزاز ويدخل في لعبة طويلة من الأخذ والرد والمساومة والمراوغة.))

تمكن قراءة كامل المقال على الرابط التالي:

رأي: في العقلية التقليدية الطائفية واضطرابها

(صورة مأخوذة عن موقع المندسة السورية)

 تعيش العقلية التقليدية الطائفية في تقوقعٍ على انتماءاتٍ ما قبل حداثية؛ إلى الدين أو المذهب أو القبيلة أو العشيرة إلخ. ولا تقيّم هذه العقلية الأحداث والأشياء بناءً على مرجعياتِ الأخلاق والقِيَمِ الـمُتَعَارَفِ عليها بين البشر في العصر الحديث (كحقّ الحياة أو الحريات الفردية أو غيرها)، بل بناءً على نظرةٍ مُسْبَقَةٍ ومتحيّزةٍ ومغلوطةٍ: حيث يُشْطَرُ العالم، بما فيه من أشياء وأحداث ومفاهيم وأفكار، إلى شطرين: شطرٌ يتصف بالخير المطلق، وشطرٌ يشغله "الآخرون" ليتصف حُكْماً بالشرِّ المطلق.
يستند هذا الانشطار على أسسٍ مقدسةٍ متعالية، وكأنه مشيئة الله، ما يجعل الانشطار وجودياً، ويعطيه حضوراً أزلياً/أبدياً، كانشطارٍ ثابتٍ ومستمرٍ عبر الزمن؛ وبالتالي فهو غير قابلٍ للتراجع أو الاندمال أو المعالجة.
لقد ترعرعتْ هذه العقلية، في منطقتنا المسمّاة بالشرق الأوسط، مع التراكم البائس للهزائم والإخفاقات خلال قرون الانحطاط التي نعيشها. ولا علاقة لهذه العقلية بمستوى التحصيل العلمي أو العيش في الشرق الأوسط أو خارجه، فهي ظاهرةٌ ثقافيةٌ مرتبطةٌ بمحتوى التربية والتلقين والنيّة بالانفتاح الحداثي؛ على مستوى الأسرة والجماعة والأقران، والمحيط الاجتماعي المحلّي، ومصادر الأخبار والتحيّز المعرفي وغيرها.
تنتج هذه العقلية التقليدية الطائفية، وما تخلقه من انشطار، من أسبابٍ عديدة: كالجهل بالآخر والخوف منه، والـجُبْنِ وغياب الشجاعة في الانفتاح عليه، والإحساس الذاتي والضمني بالانكسار واهتزاز الثقة، وسيادة منطق الغَلَبَةِ والقَهْر والروح الثأرية. وعليه تغدو هذه العقلية غير قادرةٍ على تقييم أخطائها، أو إدراك الكوارث التي تخلّفُها، كما أنها تغدو عرضةً للتلاعب بها عاطفياً وِفْقَ خطابٍ يداعب ويوافق هواها!
وعليه يوفّرُ شطر العالم إلى شطرين صورةً بسيطةً وساذجةً على مبدأ أبيض/أسود؛ صورةً تتلقفُ كلَّ قولٍ يتوافق معها، وتنبذ كلَّ قولٍ يخالفها، ما يمنح هذه العقلية المهزوزة والمصدومة جرعةً تخديريةً من العزاء والأمل الكاذب، وفرصةً للتنصُّل من المسؤولية والهروب من مواجهة الحقيقة، فتغرق أكثر وأكثر في حلقةٍ مفرغةٍ ترسِّخُ الانشطار. فعلى سبيل المثال: بدلاً من بحث المسلمين عن مكامن التخلف الثقافي والفشل العلمي والتقني عندهم، تَعْمَدُ هذه العقلية إلى الاكتفاء باتهام "الآخرين" الذين يتآمرون على الإسلام، وإلى الاستمتاع بكلِّ من يتحدث بمنطق نظرية المؤامرة هذا!
نلحظُ الشيء ذاته، في صورةٍ صارخةٍ، في سياق المشهد السوري حيث تم حقن وإشباع هذه العقلية التقليدية الطائفية إعلامياً، بعد أن وقعت فريسةً لكمٍّ هائلٍ وممنهجٍ من الصور النمطية التي توافق هواها: حيث يتصور كثيرٌ من السوريين حالةً من الانشطار الوجودي بناءً على المذهب؛ فالمذهب (أ) هو الحقّ الذي لا يشوبه باطلٌ لأني، وفقط لأني، أنتمي إلى المذهب (أ)، أما المذهب (ب) الذي ينتمي إليه "الآخرون" فهو سببٌ للشرور لأني، وفقط لأني، لا أنتمي إليه، وعليه فهو يستحق الإبادة!
وحين تواجه العقلية ذاتها ما يجري في المشهد المصري فإنها تدخل في حالةٍ من الاضطراب، لأن كلا الطرفين في مصر ينتمون إلى مكوّنٍ مذهبيٍّ واحد! قد تؤدي حالة الاضطراب المذكورة إلى ردِّ فعلٍ مراهقٍ يعمد إلى إعادة توزيع الانشطار في محاولةٍ بائسةٍ لتثبيته (هذه المرّة ليس بناءً على المذهب، بل بناءً على الثنائية المغلوطة: إسلاموي/علماني). ولكن حين لا يستقيمُ إخراج كل "الآخرين" من الإسلام، فإن العقلية التقليدية الطائفية تخطو خطوتها الأولى لزعزعة المسلّمات التي تتبناها، ولإعادة تشكيل نظرتها إلى العالم بناءً على معايير قِيَمِيّة وسياسية.
أخيراً يبدو جَلِـيّـاً أن الحراك الشعبي في المنطقة لم يترافق بعد مع حراكٍ موازٍ على مستوى العقلية التقليدية الطائفية، ولعلّه من النافل القول بأن التخلّي عن حشر المقدس في خلافات الصراع على السلطة، وإبعاد الانشطار الوجودي المتصف بالثبات عن السياق السياسي المتصف بالتغير، وتجاوز التأثيرات السلبية المتراكمة، وإخضاع العقلية إلى ثورةٍ ثقافيةٍ شاملة، شرطٌ أساسيٌّ لمسير المنطقة وشعوبها إلى الأمام. 

رأي: ماذا يمكن أن نفعل من أجل سوريا؟



ماذا يمكن أن نفعل من أجل سوريا؟ سؤالٌ يجب على كلِّ سوريٍّ أن يطرحه ليبحث عن إجابة.
معظم السوريين لجأ إلى الصمت. كثيرٌ منهم شارك في الانتفاضة كحراكٍ شعبيٍّ عفويٍّ وغير منظّم. وبعضهم اختار البقاء كناشطٍ مستقلٍّ، أو التحوُّل إلى "نجمٍ" استعراضيٍّ على الفيسبوك أو الإعلام. اتبع البعض سلوك التباكي والتأجيج والارتهان إلى حلقةٍ مفرغةٍ من ردّات الفعل. فيما عَمَدَ آخرون، وغالباً في صورةٍ غير منظمة، إلى إرسال التبرعات والمعونات الإغاثية للسوريين اللاجئين والنازحين والمنكوبين.
لا يمكن لهذه الخيارات أن تكون منتجةً في مجتمعٍ يعيش مرحلة تحوّلاتٍ جذرية لا ندري أين ستكون مآلاتها، بل يمكن النظر إلى هذه الخيارات على أنها، في معظمها، ردّات فعلٍ أسهمت في شكلٍ غير مباشر في تدهور الأوضاع كونها لم تعالج جذر المشكلة: فالصمت (خلال عقود) كان السبب الذي أدى إلى مجيء الاستبداد بالأساس واستفحاله فيما بعد، والعمل العفوي اللامنظم المستند إلى منطق "الفزعة" هو هدرٌ للطاقات وذو أثرٍ آنيٍّ في أحسن الأحوال، أما المظاهر الفردية (وما تشتمل عليه من أنانيةٍ وإرضاءٍ لغرور الذات) فهي عِلّةٌ لا يمكن لها أن تخلق عملاً مؤسساتياً حقيقياً أو أن تحدث تغيراً على مستوى دولة ومجتمع.
في رأيي فالمشهد السوري في حاجةٍ، كخطوةٍ على درب التغيير الحقيقي، إلى عملٍ جماعيٍّ شبابيٍّ منظّم. وتصطدم هذه الخطوة بالظروف العنفية القائمة، وبعدم توفر الموارد البشرية نتيجةً للخوف أو الإحباط أو انعدام الثقة أو النزوح أو مصاعب الحياة اليومية ومتطلباتها. إذ لم يمنح تسارع الأحداث الدموية في المشهد السوري الفرصة لثقافة العمل الجماعي (وهي أساس العمل السياسي) كي تتأسس وتنضج تدريجياً. ولا يجب أنْ ننسى أنَّ المرحلة التي سبقت الانتفاضة قد شهدتْ غياباً كاملاً للعمل العلني في الشأن العام (لا أحزاب، لا عمل نقابي، لا عمل طلابي، لا صحافة ولا منابر إعلامية حرة ... إلخ)، وبالتالي فمن الطبيعي ألا تتوفر ثقافة العمل الجماعي في مجتمعٍ خضع إلى استبدادٍ طويل.
على المخلصين أن ينطلقوا من قراءةٍ واقعية، وأن يدركوا أنهم، هم وغيرهم، غير قادرين على التحكم بمسارات الأحداث "الآن"، وغير قادرين على إحداث تغييراتٍ نوعيةٍ ومباشرة "الآن". لكنهم، وإنْ لم يمتلكوا الحاضر، فإن المستقبل ما زال مفتوحاً أمامهم. وبناءً على ذلك يجب التركيز، وفي صورةٍ تدريجيةٍ وبعيدة المدى وبلا ضجيج، على جذب وبناء وتمكين "نوى" من الشباب والجيل الصاعد كي تتبنى ثقافة العمل الجماعي الـمُستدام، والمنظم في بنىً سياسية؛ عملٌ احترافيٌّ مؤسساتي لا يخضع لتقلّبات المزاج ومشاعر الغضب والحزازات الشخصية والميول الإرضائية، ويضع المصلحة الوطنية والعامة كأساس.
لا شكَّ في أن ثقافة العمل الجماعي تشتمل على تبدلاتٍ ثقافيةٍ عميقة، وتحتاج رؤىً سياسية رصينة، وعلاقاتٍ مباشرة بين الأشخاص قائمة على الود والثقة والاحترام، ما يجعل من ترسيخها مهمةً جسيمةً تحتاج سنواتٍ كي تتضح ملامحها، إذ لم يعد المشهد السوري مؤهلاً لحصد نتائج سريعة في المدى المنظور. ولهذا فعلى المخلصين أن يستوعبوا أن كل ما يتم تنفيذه، خلال هذه المرحلة المستعصية والأليمة، لا يهدف إلى قطف الثمار، بل إلى تأسيس جيلٍ من الموارد البشرية الشابة والمتمكنة. وعلى هذا الجيل أن يكون الرافعة التي ستحمل المشهد السوري في السنوات القادمة، وتناضل لانتزاع الحريات الأساسية والحفاظ عليها، بغضِّ النظر عن التغيرات التي ستطرأ  على الصراع السلطوي في البلاد.

رأي: الجنون والعقل في الشرق الأوسط بين القاعدة والاستثناء



 جَرَتِ العادة، حين تندلع مشكلةٌ بين شخصين، أن يسارع العقلاء بما يمتلكونه من حكمةٍ وكَلِمٍ طيّبٍ إلى تهدئة النفوس، والسعي في الصلح بين المتخاصمين، والعمل على التذكير ببدهيات العدالة والأخلاق والقيم الحميدة في الاجتماع الإنساني. ولا تختلف الخلافات التي تنشب بين الجماعات عن تلك التي تنشأ بين الأفراد، فعلى مرِّ التاريخ كان للعقلاء دورٌ وواجبٌ عليهم القيام به درءاً للانزلاق في مآلاتٍ لا تحمد عقباها.
للأسف، ومع غياب هؤلاء العقلاء، أو عدم امتلاكهم للوسائل، غدا المشهد العام في منطقة الشرق الأوسط مفتوحاً ومباحاً لصوت الجنون، وأصبح "الإعلام االكتلي" المتحكم الأول بالمزاج العام، باعتبار أنه ترسانةٌ أيديولوجيةٌ لنشر البروباغندا وفق أهواء من يتحكم به.
زاد تعقيد الوضع مع صعود شريحةٍ من النخب الفكرية الأمية: "مثقفو السلطة" ممن يعيشون على تمجيد السطان على حساب مصالح الأوطان وسكانها، و"المثقفون الشعبويون" الذين يكتفون بترديد خطاب الجموع والسير خلفها دون الاضطلاع بواجبهم بالارتقاء بمجتمعاتهم. يضاف إلى ذلك "رجال دين" و"وعّاظ" يدّعون تمثيلهم للدين، فيعلنون عداءهم للحداثة باعتبارها فتنة وبدعة مستخدمين، في الوقت ذاته، منتجات الحداثة (كالمحطات الفضائية) ليبثوا سمومهم التي لا تزيد أتباعهم إلا اضمحلالاً وتخلفاً وغربةً وهامشيةً في هذا العالم.
وهكذا بات سفك الدم وانتهاك حرمة النفس الآدمية من ضرورات المشهد المريع، حتى وصلنا إلى مرحلةٍ لم يَعُدْ يكتفي فيها تجار الدم بالدعوة إلى القتل، بل لا بد من الفرح بهذا القتل، وتجريم كل من يسعى إلى الوقوف في وجهه أو يتجرأ ويدعو إلى حقن الدماء. ولا ينسى هؤلاء أن يستحضروا الذرائع والتبريرات تحت مسمياتٍ مختلفة: الدفاع عن الوطن و"الكرسي" ضد المؤامرة، الجهاد ضد أعداء الله، الدفاع عن النفس، إبادة الجماعة الفلانية وفق فتاوى بغيضة، القضاء على الإرهابيين والشبيحة والبلطجية والفلول وغيرها كثير.
رأينا ذلك في سوريا، ونرى ذلك اليوم في مصر، ونخشى أن يمتد سعار هذا الجنون ليغدو هو القاعدة قبالة استثناء و"عار" العقل. فأي مستقبلٍ ينتظر الشرق الأوسط؟