مقالٌ منشورٌ في صحيفة الحياة بقلم طلال المَيْهَني
بدأتْ معاناة ريف دمشق منذ أكثر من عامٍ حين فرض النظام،
بسلوكه الهمجي، حصاراً خانقاً على بلدات الغوطة، ليعيش سكانها في ظروفٍ لا تتوافق
مع أدنى المعايير الإنسانية. مصادر عدّة تحدّثتْ عن تصعيدٍ من قِبَلِ النظام في
الفترة الأخيرة، ترافق مع منع خروج المدنيين من المناطق المحاصرة (بخاصة من بلدة
المعضمية). حجّة النظام في كلِّ ذلك أنه يدافع عن "الشعب" ضد المؤامرة، وأن
هؤلاء المدنيين (وهم من الشعب) بيئةٌ حاضنةٌ للمسلّحين المناوئين للسلطة.
وسط كلِّ هذا تأتي الأنباء عن استخدام الأسلحة الكيماوية
أو الغازات السامة في ريف دمشق كحلقةٍ أليمةٍ في مسلسلٍ مزكومٍ برائحة الموت
والخراب، حيث يتم الحديث عن مئات الضحايا بينهم نساءٌ وأطفال.
الرعب ملازمٌ لهذا الحدث، يُضاف إليه رعبٌ كامنٌ في
كيفية التعامل مع الحدث. فقد وفّرت مواقع التواصل الاجتماعي، والحوارات اليومية، فرصةً
لمتابعة ردود الأفعال السورية: اتهاماتٌ متبادلة، شماتةٌ وتشفّي، أنباءٌ عن
احتفالاتٍ بحدوث المجزرة، أنباءٌ عن وعيدٍ بثأرٍ كيماويٍّ مماثل، إلخ. ولا نشير
هنا إلى السلطة، بل إلى سوريين عاديين باتوا منقسمين وفق صيغٍ مُفَرَّغَةٍ من
الأبعاد الإنسانية والأخلاقية، ما يحوّل هذه المواقف إلى حاضنٍ إجرامي قبيحٍ
لمزيدٍ من الإجرام.
في خِضَمِّ ذلك كله، يمكن وضع هذه الفظاعات في سياق
إبادةٍ ممنهجةٍ للإنسان السوري، وسعيٍ حثيثٍ لإطفاء بصيص الأمل، وزرع الأحقاد
والنعرات لأجيالٍ قادمة. كيف سيعيش هؤلاء السوريين مع بعضهم؟ وكيف يمكن للسوريين
أن يلوموا الكرة الأرضية إن كانوا هم أنفسهم لا يكترثون، لا بل يفرحون، بمصائب
سوريين آخرين؟ أسئلةٌ مُعَلَّقَةٌ تنتظر الإجابة، لتعكس لنا واقعاً أليماً من
تَفَسُّخِ الإرادة السورية.
وكامتدادٍ لما سبق تتحوّل المجزرة إلى فسحةٍ للتحليلات، وتتحوّل
الضحية إلى أداةٍ لتثبيت آراء من يصرخ. لا يهم الألم، لا يهم العدد، لا يهم الموت،
ما يهم هو تحويل الضحية إلى ضحيةٍ مضاعفةٍ: قبل الموت، وحين الموت، وبعد الموت. ضحيةٌ
مضاعفةٌ تتم المتاجرة بها، لدعم اصطفافاتٍ تفقد قيمتها أمام مأساة الموت واستباحة
الإنسان.
نفى النظام ضلوعه في أيِّ قصفٍ كيماوي (طبعاً دون أن يتنازل
ويُرْسِلَ بالتعازي لذوي السوريين الذين اغتالتهم، على حدِّ قوله، العصابات
الإرهابية)، واتهمت المعارضة النظام، في حين انقسم الرأي العام العالمي. أما على
المستوى الجنائي فكلُّ الاحتمالات ممكنةٌ، وكلُّ الأطراف العنفية، السورية وغيرها،
ممّن استرخصتْ الدم السوري واقعةٌ في دائرة الاتهام، وعلى رأسها السلطة القائمة في
سوريا.
التطور اللافت هو أن هذه المجزرة قد نالتْ "حظوةً إعلاميةً".
ربما يرتبط ذلك بالمجتمع الدولي الذي اعتاد على تصنيف الكيماوي في خانة أسلحة
الدمار الشامل. وعَزَّزَ هذه الحظوة الإعلامية، في السياق السوري، تصريحاتٌ سابقةٌ
للسيد أوباما تحدّث فيها عن "خطوطٍ حمراء". لكن بالنسبة للإنسان السوري
فالأمر سيّان؛ إذ ما الذي يجعل الكيماوي مختلفاً عن صواريخ السكود؟ وبراميل
الديناميت المتفجرة؟ والطائرات الحربية والقنابل؟ هل هناك فرقٌ بين الموت بهذا أو
ذاك؟ تُرى ما هو جواب الأطفال الضحايا إنْ خَيَّرْنَاهُم بالطريقة التي
"يودّون" الموت بها؟ لعلّه ليس من الصعب أن نجزم بأنهم ما كانوا
ليختاروا سوى الحياة، لكن هيهات لتجار الدم أن يستوعبوا.
وقد أعقب هذه الضجّة الإعلامية تهديدٌ "بتدخلٍ
عسكريٍّ ضد النظام السوري"، مع العلم بأنها لم تكن المرة الأولى التي تُرْتَكَبُ
فيها مجزرةٌ همجيةٌ بحقِّ سوريين أبرياء. وعليه فمن الصعب القول، بعد أكثر من مئة
ألف ضحية، بأن التهديد الحالي بالتدخل مستندٌ إلى "صحوة ضميرٍ أخلاقيةٍ"
في المجتمع الدولي.
في الحقيقة فالحديث الإعلامي عن تدخلٍ عسكريٍّ شاملٍ هو
ضَرْبٌ من العَبَث على المستوى العملي، بخاصة مع تعقيدات المشهد السوري الذي لم
يعد منشطراً إلى فريقين. إذ لن يتعدّى التدخل المفترض –إنْ حَصَلَ- بضع ضرباتٍ هنا
وهناك تشمل بعض مواقع النظام (ويقال أيضاً أن الضربة ستشمل مواقع للمعارضة المسلّحة
في الشمال)؛ ضرباتٍ لن "تحمي الشعب"، وبكلِّ تأكيدٍ، فهي لن تؤثر على
بنية النظام، كما أنها ليستْ بقصد إزالته أصلاً حسب التهديدات الغربية ذاتها. إذ ما
زال النظام، حتى اللحظة، الأقل تشتتاً والأقدر على تقديم ضماناتٍ بحفظ الحدود
الشمالية لإسرائيل. وعليه فمن المستبعد أن نرى الولايات المتحدة عازمةً على حسم الوضع
القائم لصالح المعارضة على اختلاف تشكيلاتها. ولهذا فما تريده الولايات المتحدة من
هذه الفقّاعة الإعلامية الهائلة، على الأغلب، هو إعادة التوازن إلى العنف القائم
في المشهد السوري، مع الحرص على منع أيٍّ من الأطراف العنفية من تحقيق انتصاراتٍ
معتبرة.
يمكن المجادلة أيضاً بأن هذه الضربة –إن حصلتْ- ستأتي
بنتائج عكسية؛ عبر شَرْعَنَةِ وجود النظام في عيون مؤيديه، ودفع ملايين السوريين
الصامتين والخائفين والنازحين في مناطق سيطرته للالتفاف حوله، وعبر إدخال النظام
في حالةٍ مضاعفةٍ وهذيانيةٍ من "جنون العظمة" بعد أن يعلن صموده في وجه
الإمبريالية والمؤامرة الكونية، ولا نستبعد رؤية الاحتفالات "بالنصر" وهي
تَعُمُّ المناطق الخاضعة لسيطرته (هذا سلوكٌ اتَّبَعَهُ كثيرٌ من الأنظمة المستبدة
والمؤدلجة في الماضي).
من الصعب التكهُّن، في ضوء ظروف الفوضى الراهنة على
الأقل، بتفاصيل المرحلة القادمة بخاصة في ظل التشكيك الواسع لدى الرأي العام
الغربي، وعدم انتهاء عمل لجنة التحقيق، وعقبة الفيتو في مجلس الأمن، واحتمالات رد
النظام وحلفائه التي قد تُدْخِل المنطقة في أتون حربٍ إقليمية (لا يبدو أن أحداً
مستعدٌّ لها في الوقت الحالي). وبناءً على كل هذه المعطيات فالضربة العسكرية
مستبعدةٌ، على الأرجح، رغم كلِّ التهويل الإعلامي.
أما إنْ حَدَثَ وحَصَلَتْ هذه الضربة فستترك أثراً
سلبيّاً على سوريا والسوريين، ليس فقط على مستوى تفتيت الحس الوطني/السيادي (الذي
غدا هشاً ومستباحاً وبكلِّ أسفٍ)، بل على المستوى العَمَلي البراغماتي؛ فالتهديدات
لا تشير إلى أيِّ رغبةٍ في تغيير النظام، كما أن سوابق التدخل في المنطقة ليست
بالتجارب المبشرة بالخير على الإطلاق.
يبقى احتمالٌ قويٌّ يشير إلى أن "التهديد
بالضربة" مشروطٌ كجزءٍ من لعبة عضِّ الأصابع بين القوى العظمى، ويقع في سياق
ضغوطاتٍ جِدِّيَةٍ للدفع باتجاه حلٍّ تفاوضيٍّ ما، حيث يُسْتَشْهَدُ هنا بالنشاط
الديبلوماسي الحثيث، وبالتصريحات حول جنيف 2 (أو نيويورك 1) على هامش الضجّة
الإعلامية السائدة.
في كلِّ الأحوال يجب التأكيد على أن كلَّ تأخيرٍ في وضع
حدٍّ لهذه الحرب العبثية، والدخول في جرعةٍ إضافيةٍ من التصعيد العنفي، يعني
حُكْماً سقوط مزيدٍ من الضحايا الأبرياء وتعقيد الأمور: ستتابع الأطراف السورية
ذبح بعضها، ليبقى السوريون المدنيون ينتظرون موتهم وهم يترقّبون مجزرةً جديدة، وتستمر
المأساة في حالةٍ من الاستعصاء الأليم.
أخيراً، وفقط للتذكير: "لو" أن السلطة الفاشلة
لم تُقْدِمْ، منذ البداية، على القمع والقتل لما حصل ما حصل، ولما وصلتِ البلاد
إلى هذا الوضع الكارثي. أقول "لو" وعَمَلُ الشيطان، في هذه الأيام
الكالحة، مفتوحٌ على مصراعيه ليعيث قتلاً وتخريباً، فقد تعدّدت الأسباب، والأطراف،
في سوريا والقتل واحد: سواء كان "بالسكود" من قوات النظام، أو "بالهاوِن"
من المعارضة المسلحة، أو "بالتوماهوك" من التدخل الأمريكي.
رابط المقال: