رأي: في العقلية التقليدية الطائفية واضطرابها

(صورة مأخوذة عن موقع المندسة السورية)

 تعيش العقلية التقليدية الطائفية في تقوقعٍ على انتماءاتٍ ما قبل حداثية؛ إلى الدين أو المذهب أو القبيلة أو العشيرة إلخ. ولا تقيّم هذه العقلية الأحداث والأشياء بناءً على مرجعياتِ الأخلاق والقِيَمِ الـمُتَعَارَفِ عليها بين البشر في العصر الحديث (كحقّ الحياة أو الحريات الفردية أو غيرها)، بل بناءً على نظرةٍ مُسْبَقَةٍ ومتحيّزةٍ ومغلوطةٍ: حيث يُشْطَرُ العالم، بما فيه من أشياء وأحداث ومفاهيم وأفكار، إلى شطرين: شطرٌ يتصف بالخير المطلق، وشطرٌ يشغله "الآخرون" ليتصف حُكْماً بالشرِّ المطلق.
يستند هذا الانشطار على أسسٍ مقدسةٍ متعالية، وكأنه مشيئة الله، ما يجعل الانشطار وجودياً، ويعطيه حضوراً أزلياً/أبدياً، كانشطارٍ ثابتٍ ومستمرٍ عبر الزمن؛ وبالتالي فهو غير قابلٍ للتراجع أو الاندمال أو المعالجة.
لقد ترعرعتْ هذه العقلية، في منطقتنا المسمّاة بالشرق الأوسط، مع التراكم البائس للهزائم والإخفاقات خلال قرون الانحطاط التي نعيشها. ولا علاقة لهذه العقلية بمستوى التحصيل العلمي أو العيش في الشرق الأوسط أو خارجه، فهي ظاهرةٌ ثقافيةٌ مرتبطةٌ بمحتوى التربية والتلقين والنيّة بالانفتاح الحداثي؛ على مستوى الأسرة والجماعة والأقران، والمحيط الاجتماعي المحلّي، ومصادر الأخبار والتحيّز المعرفي وغيرها.
تنتج هذه العقلية التقليدية الطائفية، وما تخلقه من انشطار، من أسبابٍ عديدة: كالجهل بالآخر والخوف منه، والـجُبْنِ وغياب الشجاعة في الانفتاح عليه، والإحساس الذاتي والضمني بالانكسار واهتزاز الثقة، وسيادة منطق الغَلَبَةِ والقَهْر والروح الثأرية. وعليه تغدو هذه العقلية غير قادرةٍ على تقييم أخطائها، أو إدراك الكوارث التي تخلّفُها، كما أنها تغدو عرضةً للتلاعب بها عاطفياً وِفْقَ خطابٍ يداعب ويوافق هواها!
وعليه يوفّرُ شطر العالم إلى شطرين صورةً بسيطةً وساذجةً على مبدأ أبيض/أسود؛ صورةً تتلقفُ كلَّ قولٍ يتوافق معها، وتنبذ كلَّ قولٍ يخالفها، ما يمنح هذه العقلية المهزوزة والمصدومة جرعةً تخديريةً من العزاء والأمل الكاذب، وفرصةً للتنصُّل من المسؤولية والهروب من مواجهة الحقيقة، فتغرق أكثر وأكثر في حلقةٍ مفرغةٍ ترسِّخُ الانشطار. فعلى سبيل المثال: بدلاً من بحث المسلمين عن مكامن التخلف الثقافي والفشل العلمي والتقني عندهم، تَعْمَدُ هذه العقلية إلى الاكتفاء باتهام "الآخرين" الذين يتآمرون على الإسلام، وإلى الاستمتاع بكلِّ من يتحدث بمنطق نظرية المؤامرة هذا!
نلحظُ الشيء ذاته، في صورةٍ صارخةٍ، في سياق المشهد السوري حيث تم حقن وإشباع هذه العقلية التقليدية الطائفية إعلامياً، بعد أن وقعت فريسةً لكمٍّ هائلٍ وممنهجٍ من الصور النمطية التي توافق هواها: حيث يتصور كثيرٌ من السوريين حالةً من الانشطار الوجودي بناءً على المذهب؛ فالمذهب (أ) هو الحقّ الذي لا يشوبه باطلٌ لأني، وفقط لأني، أنتمي إلى المذهب (أ)، أما المذهب (ب) الذي ينتمي إليه "الآخرون" فهو سببٌ للشرور لأني، وفقط لأني، لا أنتمي إليه، وعليه فهو يستحق الإبادة!
وحين تواجه العقلية ذاتها ما يجري في المشهد المصري فإنها تدخل في حالةٍ من الاضطراب، لأن كلا الطرفين في مصر ينتمون إلى مكوّنٍ مذهبيٍّ واحد! قد تؤدي حالة الاضطراب المذكورة إلى ردِّ فعلٍ مراهقٍ يعمد إلى إعادة توزيع الانشطار في محاولةٍ بائسةٍ لتثبيته (هذه المرّة ليس بناءً على المذهب، بل بناءً على الثنائية المغلوطة: إسلاموي/علماني). ولكن حين لا يستقيمُ إخراج كل "الآخرين" من الإسلام، فإن العقلية التقليدية الطائفية تخطو خطوتها الأولى لزعزعة المسلّمات التي تتبناها، ولإعادة تشكيل نظرتها إلى العالم بناءً على معايير قِيَمِيّة وسياسية.
أخيراً يبدو جَلِـيّـاً أن الحراك الشعبي في المنطقة لم يترافق بعد مع حراكٍ موازٍ على مستوى العقلية التقليدية الطائفية، ولعلّه من النافل القول بأن التخلّي عن حشر المقدس في خلافات الصراع على السلطة، وإبعاد الانشطار الوجودي المتصف بالثبات عن السياق السياسي المتصف بالتغير، وتجاوز التأثيرات السلبية المتراكمة، وإخضاع العقلية إلى ثورةٍ ثقافيةٍ شاملة، شرطٌ أساسيٌّ لمسير المنطقة وشعوبها إلى الأمام. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق