ماذا يمكن أن نفعل من أجل سوريا؟ سؤالٌ يجب على كلِّ سوريٍّ أن يطرحه ليبحث عن إجابة.
معظم
السوريين لجأ إلى الصمت. كثيرٌ منهم شارك في الانتفاضة كحراكٍ شعبيٍّ عفويٍّ وغير منظّم. وبعضهم اختار البقاء كناشطٍ مستقلٍّ، أو التحوُّل إلى "نجمٍ"
استعراضيٍّ على الفيسبوك أو الإعلام. اتبع البعض سلوك التباكي والتأجيج والارتهان إلى حلقةٍ مفرغةٍ من ردّات الفعل. فيما عَمَدَ آخرون، وغالباً في صورةٍ غير
منظمة، إلى إرسال التبرعات والمعونات الإغاثية للسوريين اللاجئين والنازحين والمنكوبين.
لا يمكن لهذه الخيارات أن تكون منتجةً في مجتمعٍ يعيش مرحلة تحوّلاتٍ جذرية لا ندري أين ستكون مآلاتها، بل يمكن النظر إلى هذه الخيارات على أنها، في معظمها، ردّات فعلٍ أسهمت في
شكلٍ غير مباشر في تدهور الأوضاع كونها لم تعالج جذر المشكلة: فالصمت (خلال عقود) كان
السبب الذي أدى إلى مجيء الاستبداد بالأساس واستفحاله فيما بعد، والعمل العفوي اللامنظم
المستند إلى منطق "الفزعة" هو هدرٌ للطاقات وذو أثرٍ آنيٍّ في أحسن
الأحوال، أما المظاهر الفردية (وما تشتمل عليه من أنانيةٍ وإرضاءٍ لغرور الذات)
فهي عِلّةٌ لا يمكن لها أن تخلق عملاً مؤسساتياً حقيقياً أو أن تحدث تغيراً على مستوى دولة ومجتمع.
في رأيي فالمشهد السوري في حاجةٍ، كخطوةٍ على درب التغيير الحقيقي،
إلى عملٍ جماعيٍّ شبابيٍّ منظّم. وتصطدم هذه الخطوة بالظروف العنفية القائمة، وبعدم توفر
الموارد البشرية نتيجةً للخوف أو الإحباط أو انعدام الثقة أو النزوح أو مصاعب الحياة اليومية ومتطلباتها. إذ لم يمنح تسارع
الأحداث الدموية في المشهد السوري الفرصة لثقافة العمل الجماعي (وهي أساس العمل
السياسي) كي تتأسس وتنضج تدريجياً. ولا يجب أنْ ننسى أنَّ المرحلة التي سبقت
الانتفاضة قد شهدتْ غياباً كاملاً للعمل العلني في الشأن العام (لا أحزاب، لا عمل
نقابي، لا عمل طلابي، لا صحافة ولا منابر إعلامية حرة ... إلخ)، وبالتالي فمن الطبيعي ألا تتوفر
ثقافة العمل الجماعي في مجتمعٍ خضع إلى استبدادٍ طويل.
على المخلصين أن ينطلقوا من قراءةٍ واقعية، وأن يدركوا أنهم، هم وغيرهم، غير
قادرين على التحكم بمسارات الأحداث "الآن"، وغير قادرين على إحداث
تغييراتٍ نوعيةٍ ومباشرة "الآن". لكنهم، وإنْ لم يمتلكوا الحاضر، فإن
المستقبل ما زال مفتوحاً أمامهم. وبناءً على ذلك يجب التركيز، وفي صورةٍ تدريجيةٍ
وبعيدة المدى وبلا ضجيج، على جذب وبناء وتمكين "نوى" من الشباب والجيل
الصاعد كي تتبنى ثقافة العمل الجماعي الـمُستدام، والمنظم في بنىً سياسية؛ عملٌ
احترافيٌّ مؤسساتي لا يخضع لتقلّبات المزاج ومشاعر الغضب والحزازات الشخصية
والميول الإرضائية، ويضع المصلحة الوطنية والعامة كأساس.
لا شكَّ في أن ثقافة العمل الجماعي تشتمل على تبدلاتٍ ثقافيةٍ عميقة، وتحتاج
رؤىً سياسية رصينة، وعلاقاتٍ مباشرة بين الأشخاص قائمة على الود والثقة والاحترام،
ما يجعل من ترسيخها مهمةً جسيمةً تحتاج سنواتٍ كي تتضح ملامحها، إذ لم يعد المشهد
السوري مؤهلاً لحصد نتائج سريعة في المدى المنظور. ولهذا فعلى المخلصين أن يستوعبوا
أن كل ما يتم تنفيذه، خلال هذه المرحلة المستعصية والأليمة، لا يهدف إلى قطف
الثمار، بل إلى تأسيس جيلٍ من الموارد البشرية الشابة والمتمكنة. وعلى هذا الجيل أن
يكون الرافعة التي ستحمل المشهد السوري في السنوات القادمة، وتناضل لانتزاع
الحريات الأساسية والحفاظ عليها، بغضِّ النظر عن التغيرات التي ستطرأ على الصراع السلطوي في البلاد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق