رأي: الجنون والعقل في الشرق الأوسط بين القاعدة والاستثناء



 جَرَتِ العادة، حين تندلع مشكلةٌ بين شخصين، أن يسارع العقلاء بما يمتلكونه من حكمةٍ وكَلِمٍ طيّبٍ إلى تهدئة النفوس، والسعي في الصلح بين المتخاصمين، والعمل على التذكير ببدهيات العدالة والأخلاق والقيم الحميدة في الاجتماع الإنساني. ولا تختلف الخلافات التي تنشب بين الجماعات عن تلك التي تنشأ بين الأفراد، فعلى مرِّ التاريخ كان للعقلاء دورٌ وواجبٌ عليهم القيام به درءاً للانزلاق في مآلاتٍ لا تحمد عقباها.
للأسف، ومع غياب هؤلاء العقلاء، أو عدم امتلاكهم للوسائل، غدا المشهد العام في منطقة الشرق الأوسط مفتوحاً ومباحاً لصوت الجنون، وأصبح "الإعلام االكتلي" المتحكم الأول بالمزاج العام، باعتبار أنه ترسانةٌ أيديولوجيةٌ لنشر البروباغندا وفق أهواء من يتحكم به.
زاد تعقيد الوضع مع صعود شريحةٍ من النخب الفكرية الأمية: "مثقفو السلطة" ممن يعيشون على تمجيد السطان على حساب مصالح الأوطان وسكانها، و"المثقفون الشعبويون" الذين يكتفون بترديد خطاب الجموع والسير خلفها دون الاضطلاع بواجبهم بالارتقاء بمجتمعاتهم. يضاف إلى ذلك "رجال دين" و"وعّاظ" يدّعون تمثيلهم للدين، فيعلنون عداءهم للحداثة باعتبارها فتنة وبدعة مستخدمين، في الوقت ذاته، منتجات الحداثة (كالمحطات الفضائية) ليبثوا سمومهم التي لا تزيد أتباعهم إلا اضمحلالاً وتخلفاً وغربةً وهامشيةً في هذا العالم.
وهكذا بات سفك الدم وانتهاك حرمة النفس الآدمية من ضرورات المشهد المريع، حتى وصلنا إلى مرحلةٍ لم يَعُدْ يكتفي فيها تجار الدم بالدعوة إلى القتل، بل لا بد من الفرح بهذا القتل، وتجريم كل من يسعى إلى الوقوف في وجهه أو يتجرأ ويدعو إلى حقن الدماء. ولا ينسى هؤلاء أن يستحضروا الذرائع والتبريرات تحت مسمياتٍ مختلفة: الدفاع عن الوطن و"الكرسي" ضد المؤامرة، الجهاد ضد أعداء الله، الدفاع عن النفس، إبادة الجماعة الفلانية وفق فتاوى بغيضة، القضاء على الإرهابيين والشبيحة والبلطجية والفلول وغيرها كثير.
رأينا ذلك في سوريا، ونرى ذلك اليوم في مصر، ونخشى أن يمتد سعار هذا الجنون ليغدو هو القاعدة قبالة استثناء و"عار" العقل. فأي مستقبلٍ ينتظر الشرق الأوسط؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق