حول الأسلحة الكيماوية والاغتيال الممنهج للإنسان السوري - مقالٌ منشورٌ في صحيفة القدس العربي




مقالٌ منشورٌ في القدس العربي بقلم: طلال الـمَيْهَني

أنباءٌ مريعةٌ تتحدّث عن قصفٍ بغازاتٍ سامةٍ أو سلاحٍ كيماويٍّ ضربَ ريف دمشق، وسَقَطَ ضحيته مئاتٌ من المدنيين بينهم نساءٌ وأطفال؛ كارثةٌ أليمةٌ تضافُ إلى سلسلةٍ من عمليات التدمير الممنهج للإنسان السوري، وتدقُّ إسفيناً جديداً في مجتمعٍ مُنْهَكٍ وبلدٍ مدمّر.
ومع انتشار الخبر الأليم سارع المحللون السوريون وغيرهم إلى توزيع الاتهامات، بعد أن حوّلوا الجريمة النكراء إلى "فرصة"، والضحايا إلى مجرَّد "شيء". ومما يؤسف له أن تلك التحليلات، في معظمها، لم تكن بهدف الوصول إلى الحقيقة، أو منع تكرار المجزرة، أو نابعةً من رغبةٍ في إرساء العدالة، بل نكايةً كَيْدِيّةً "بالشيطان" المختلف عنهم (مع تبادل المواقع حسب الاصطفافات التافهة أمام الموت وفداحة الخَطْب).
لا تمكن مقاربة مثل هذه الكارثة الـمُريعة عن طريق الاختباء وراء ما يعجبنا من الآراء الفيسبوكية، أو أحاديث المقاهي، أو التصريحات الإعلامية من أطرافٍ لها مصالح شتّى ومتناقضة في طمْس الحقائق أو تشويهها سواء من قبل النظام ومن يدعمه، أو ممن يدّعي معارضة النظام ومن يدعم تلك المعارضة. فما حدث ويحدث وسيحدث هو تكرارٌ بائسٌ للمتاجرة الرخيصة بالضحايا، وتحويلٌ قذرٌ للكارثة البشرية إلى "ساحةٍ" لإثبات الأهواء ووجهات النظر، ولحقنِ الذات المتضخّمة بجرعاتٍ مُتَوَهَّمَةٍ من صوابية الرأي (أو الاعتقاد الخُرافي بتلك الصوابية). وحدهم الضحايا يبقون، وسط هذا الضجيج الكريه، شاهداً على قذارة ووضاعة من يتاجر بهم ويستغل رحيلهم كأداةٍ لتحقيق بعض المكاسب الدنيئة.
بفَتْحِ باب "التخمينات" فكلُّ شيءٍ ممكنٌ ومحتمل، ولا أحد من الأطراف العنفية الداخلية والخارجية خارج دائرة الاتهام. ولعلّه من البدهي أن تتجه الأصابع لتشير أولاً إلى النظام (وللنظام سلوكٌ قاتلٌ واضحٌ في قصف الأحياء السكنية بالطائرات والمدفعية والبراميل المتفجرة بحجّة وجود مسلّحين مناوئين للسلطة). كما لا يمكن تبرئة المعارضة المسلحة (وهي شتاتٌ واسعٌ من المجموعات المتباينة)، إضافةً إلى أيادٍ خارجيةٍ إقليميةٍ ودوليةٍ باتتْ تعبثُ في البلاد طولاً وعرضاً دون أن يكون للأطراف السورية، على اختلافها، قدرةٌ على السيطرة عليها. ولهذا فطَرْحُ سؤالٍ من قبيل: "هل يُعْقَل من فلانٍ وفلان أن يقوم بكذا أو كذا؟" هو طرحٌ عديمُ القيمة، ولا يَصُبُّ إلا في سياق التشتيت الدّعائي؛ فهل ما حدث طيلة سنتين مندرجٌ أصلاً في باب "ما يُعْقَل"؟
من الناحية الأخلاقية، لا أعتقد أن هناك رادعاً يمنع أيّاً من الأطراف العنفية المذكورة من ارتكاب هذه المجزرة الرهيبة (متابعةٌ بسيطةٌ لسلوكها تُظْهِرُ أن استرخاص الإنسان السوري هو سمةٌ مشتركةٌ بينها). وما هو مؤكدٌ هو أن مَنْ أقْدَمَ على هذا الفعل الشنيع والخبيث قد أراد خلط الأوراق، وتعقيد المشهد أكثر وأكثر، وإدخال البلاد في مزيدٍ من الدم والخراب، بخاصة مع التصريحات الإعلامية التي تتحدث عن ضربةٍ عسكريةٍ وشيكة. ومع أن مثل هذه الضربة مستبعدة بسبب تعقيدات المشهد السوري، إلا أنها –إنْ حصلتْ- ستكون محدودةً وذات أثرٍ سلبيٍّ رغم كل التهويل، ما سيجعل منها استكمالاً لمسلسل الاستباحة السافرة لحقِّ الحياة عند عددٍ كبيرٍ من السوريين الأبرياء.
وإنْ أردنا البقاء في دائرة "التخمينات"، والتبادل المراهق للاتهامات دون سعيٍ نحو العدالة، فإن السؤال عن الجاني سيغدو شأناً عبثياً، مع ما يتلوه من نشرٍ للخوف والإحباط، وتمييعٍ للحقيقة، وتفريغٍ للجريمة من قباحتها، ومَنْحِ رخصةٍ، غير مباشرة، بمزيدٍ من المجازر التي باتتْ، وبكل أسفٍ، حَدَثاً عادياً في المشهد السوري.
وأخيراً فمن النافل والـمُكَرَّرِ القول بأن الخطوة الأولى، لأيِّ حلٍّ ناجعٍ وحقيقي، ليستْ في رفع سويّة العنف العبثي، بل في إيقاف ناره التي تلتهم سوريا والسوريين. أما كلُّ ما عدا ذلك، من الحلول الاجتزائية أو ردود الأفعال اليائسة أو التصعيدية، فهي مُجَرَّدُ تسكينٍ عَرَضِيٍّ موقت، وفرصةٌ لزيادةِ المقتلة السورية، واستمرارِ الكابوس الأليم الذي سيشهد المزيد من الفظاعات؛ لكن هل من مجيب؟

رابط المقال: 
http://www.alquds.co.uk/?p=78920




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق