احتلَّ النقاشُ حول كيفية عمل الجهاز البصري (أو ما يسمى بآلية الإبصار) مساحةً مهمةً من كتاب "الشكوك على جالينوس"، ويعكس ذلك أهمية هذه القضية التي أثارت كثيراً من الجدل. فقد ظلت مسألة الإبصار وآليته من المبهمات التي أعيت الفلاسفة والأطباء على حدٍّ سواء، وعلى مدى قرونٍ من الزمان، حيث ناقشها البابليون والصينيون والهنود في شكلٍ أولي[1]، ثم جاء الإغريق وأسسوا النقاش وفق قواعد فلسفية مُحْكَمَة.
(صفحة من كتاب تنقيح المناظر لذوي الأبصار والبصائر، تأليف كمال الدين الفارسي (ت 709 هـ). حيث يعرض المؤلف صورةً توضيحيةً للجهاز البصري. والصورة منسوخةٌ عن كتاب المناظر لابن الهيثم الذي طوّر عمل الرازي. المخطوطة محفوظة في مكتبة متحف طوبكابي في إستنبول تحت الرقم 3340)
ونتج من ذلك كثيرٌ من الآراء المتباينة والفرضيات، حيث كان لكلِّ فريقٍ حججه التي استند إليها في
تأييد الفرضية التي تبنّاها. وكانت التفسيرات في معظمها نظريةً أو مبنيةً على أسسٍ
فلسفيةٍ تأملية، وذلك على عادة علماء ذاك الزمان، حيث كانت الفلسفة متغلغلةً في
مختلف العلوم والمعارف. ويمكن إدراج هذه الآراء المتباينة في فرضيتين[2]:
·
فرضية الشعاع: وتتلخّص في أن هناك
ما يسمى بالجوهر أو الروح النوراني. حيث ينزل هذا الجوهر من الدماغ إلى العين،
ليخرج منها كما يخرج الشعاع من المصباح. ويتشكل الإبصار، حسب هذه النظرية، حين يصل
هذا الشعاع إلى الشيء المـُبصَر (الشيء الذي تتم رؤيته). وكان جالينوس من أنصار هذه النظرة (وهي خاطئةٌ حسب
المعايير العلمية في العصر الحديث)
·
فرضية الانطباع: وهي مماثلةٌ –من حيث
المبدأ- للنظرية القائمة حالياً؛ حيث ينطبعُ خيالُ الجسم الـمُبصَر (الشيء الذي تتم رؤيته) في عين
الـمُبصِر (الشخص الذي يرى). وكان الرازي من أنصار هذه الفرضية التي أسهب
في الحديث عنها، فها هو يقول: (وقد أفردتُ للنظر في هذا الرأي مقالةً ضخمةً،
وبيّنتُ أن الإبصار يكون بتشبّح الأشباح في البصر)، أي بانطباع أخيلة الأجسام.
لقد قَدَّم الرازي
فيما كتبه تفسيراً منطقياً وأقرب إلى النظرية المتوافق عليها حالياً، حيث رفض فرضية
الشعاع وأقرَّ فرضية الانطباع، وقَدَّم عدة حجج لنقضِ الأولى وإظهارِ بطلانها،
ودعمِ الثانية وإقرارها. وكان تفسيره –مع ما فيه من الزخم الفلسفي- ذا صبغةٍ علمية
متميزة (وفق المعايير السائدة في ذلك الزمان). فقد اعتمد في تفسيره على مجموعةٍ من
الملاحظات والدلائل التجريبية الحسية، بدلاً من الاكتفاء بالدلائل النظرية كما
جَرَتِ العادة.
إلا أن الرازي من
ناحيةٍ أخرى لم يأت بالصواب كله، فقد أوضح بأن أشباح الأجسام المُبْصَرَة تنطبع في
الجليدية (الجسم الزجاجي) في الحجرة الخلفية من العين، ومنه تنتقل عبر العصب البصري إلى الدماغ! وهذا مخالفٌ
لما هو متعارفٌ عليه الآن من أن انطباع الأخيلة إنما يكون في الشبكية التي تشكل
البطانة الداخلية في كرة العين.
وبكل الأحوال لم يكن
الرازي أول من قال بفرضية الانطباع، فقد ذكرها قبله أرسطو. إلا أن كتابات
الرازي أعطتْ زَخَماً لهذه الفرضية، وأنقذتها من تسلط آراء جالينوس التي كانتْ سائدة على مدى قرون.
وقد أتاح الرازي لمن أتى بعده أن يأخذ هذه الفرضية على عاتقه ويطوّرها، ليخرج منها بأفكارٍ
وملاحظاتٍ مدعمة لها؛ كما فعل ابن سينا في دعمه وتفسيره الهندسي لنظرية الإبصار. مع
الإشارة إلى أن هذه النظرية لن تأخذ حظّها من النضج المعقول، في العصور الوسطى، إلا مع
كتابات ابن الهيثم (ت 430 هـ)، أي بعد وفاة الرازي بحدود قرنٍ من الزمان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق