تَتَصَدَّرُ بَهْوَ العمادة في
كلية طب جامعة حلب لوحةٌ زيتيةٌ لطبيبٍ يفحص طفلاً مصاباً بمرضٍ جلدي. وتقدم اللوحة تصويراً متخيلاً للرازي، أبو بكر محمد بن زكريا، الذي يعتبر واحداً
من رموز الطب في العصور الوسطى. فمن هو الرازي؟
عاش الرازي بين (251ه-313هـ؟)
(865م-925م؟)[1]
ونسبته إلى مدينة الري من خراسان، حيث قضى معظم شبابه في بلاد فارس، وغادر بعد
أن جاوز الثلاثين قاصداً بغداد، وكان في بادئ أمره مشتغلاً الأدب والشعر والفن،
ومجيداً العزف بالعود، وهناك مصادر تتحدث عن أنه كان في البداية صيرفياً وأنه عمل
في مجال الخيمياء، والروايات في ذلك عديدةٌ مسطورةٌ في بطون الكتب.
وجد الرازي في نفسه
توقاً إلى العلم والحكمة وتحصيلها، فعمد إلى الكتب يقرؤها ويدرسها، حتى اشتغل
بالكيمياء، وقرأ الطب على ابن ربن الطبري[2]،
كما جرّب حظه في الفلسفة، التي مالت إلى الفلسفة المشرقية على حساب الإغريقية، بعد أن أخذها عن البلخي[3].
إلا أنه لم يشتهر باشتغاله في الفلسفة شهرته بالطب؛ فمطالعةٌ لأسماء مؤلفاته تكشف
لنا أن الرازي كان طبيباً أكثر من كونه فيلسوفاً، وذلك على عكس ابن سينا، ما جعل
الأخير ينتقص من عمل الرازي في الفلسفة، حتى أن هناك من ينسب إلى ابن سينا قوله:
"كان حَرِيّاً به –أي بالرازي- أن ينظر في قوارير مرضاه –أي قوارير البول- من
أن يصنف في الحكمة –أي الفلسفة-".
برع الرازي في مجال
الطب حتى صار فيه علماً مبرزاً طبقت شهرته أرجاء البلاد وامتدت إلى أوروبة حيث كان يعرف باسمه اللاتيني Rhazes. عالج الملوك والأمراء ورجالات البلاط في عصره، واستلم
وظائف طبية إدارية كرئاسة بيمارستان الري[4]،
ومن بعده البيمارستان العضدي[5].
ومن المهم التنويه بأن البيمارستان العضدي قد افتتح علم 372هـ، أي بعد وفاة الرازي
بأكثر من خمسين سنة، وعليه فإني أعتقد بأن الرازي قد رأس هذا البيمارستان الذي كان
موجوداً قبل عصر الحكم البويهي إلا أنه أخذ اسمه بعد تجديده من قِبَل عضد الدولة
البويهي. كما تُرْوى قصةٌ عن لقاءٍ تم بين عضد الدولة البويهي وبين الرازي، وقد
نقلها ابن أبي أصيبعة في كتابه (عيون الأنباء) عن كمال الدين بن أبي تراب البغدادي[6]،
وهي محض خيال.
واشتهر الرازي بمنهجه
العقلي التجريبي ووصفه السريري الدقيق، وتحليله التشخيصي السليم، ونقده للسابقين
والمتقدمين من الأطباء، وحثه على النظر والتعقل، وتشنيعه لممارسات المشعوذين
والدجالين[7]؛
وإن دل ما ذكر على حقيقة ما فإنما يدل على عقليةٍ علميةٍ متفتحة، كانت قليلة من
نوعها في ذلك الزمان، حتى أني أستطيع القول بأنه كان واحداً من أوائل من شقوا طريق
هذا المنهج الذي وسم فيما بعد عقلية التفكير التجريبي.
تروي لنا كتب التاريخ
مناظرةً بين أبي بكر الرازي وأبي حاتم الرازي والكرماني حول مفهوم النبوة وضرورتها.
ولم يكن أبو حاتم والكرماني وحيدين في طعنهم في اعتقاد الرازي وإيمانه وتدينه بل
شاركهم في ذلك كثيرون، حيث كان يوصف "ازدراءً" بالزنديق، بخاصة وأنه قد صنف
كتاباً في (نقض النبوة)، وقد كتب الراحل عبد الرحمن بدوي فصلاً عن هذا الموضوع في
كتابه (من تاريخ الإلحاد في الإسلام). وهناك من دافع عن الرازي كالبيروني وابن أبي
أصيبعة بحجة أن الكتاب المذكور منحولٌ وأنه قد نسب إليه خطأً، إلا أن مثل هذه
الحجة مستبعدةٌ وغير دقيقة. وبغضِّ النظر عن التقييم الإيماني –وهو شأنٌ خاصٌ في
نهاية المطاف- فقد كان الرازي، وغيره من أعلام تلك الفترة، يعيشون في مناخٍ فكريٍّ يتّسم بالاضطراب والصراع الفكري، ما كان يشجع على طرح
التساؤلات بجرأةٍ ومناقشها، وقد قدّم ذلك نموذجاً أوليّاً للأنسنة في القرون الوسطى، ومثالاً
مبكراً لظاهرة المفكرين الأحرار.
ذكر أبو الريحان
البيروني[8]
في رسالة خاصة بمؤلفات الرازي[9]
أنه قد ترك نحواً من 237 مصنفاً ما بين مقالةٍ صغبرةٍ وموسوعةٍ شاملة، هذا عدا ما
ضاع وفُقِدَ، أو ما حال حائلٌ دون إظهاره، ومن أشهر كتبه: (الحاوي) وهو مؤلفٌ من
ثلاثين مجلداً، و(المنصوري) ويقع في عشر مجلداتٍ وقد ألفه لمنصور بن إسحق بن
إسماعيل بن أحمد صاحب خراسان، و(الطب الروحاني)، و(الشكوك على جالينوس) وكتاب
(الجدري والحصبة)، ويعتبر هذا الأخير من أثمن كتبه من ناحية القيمة العلمية.
وللرازي حكمٌ وأمثالٌ
كثيرةٌ تصلح لأن تكون نصائح طبية أخلاقية، وكانت قد جمعتْ في كتاب (الأمثال
والحكم)، ومن يطلع عليها فإنه يجد أنها، وغيرها من الآثار، مستحقةٌ لأن تُخْضَعَ
إلى قراءةٍ تاريخيةٍ سياقية في مؤسساتنا العلمية التي تعنى بتاريخ العلوم.
ملاحظة:
هذا المقال معدلٌ عن بحثٍ علميٍّ أنجزته أثناء دراستي في معهد التراث العلمي العربي في جامعة حلبعام 2004م. تم البحث بإشراف الدكتورة بثينة جلخي.
المصادر والمراجع
[2]
ابن ربن الطبري، أبو الحسن علي بن سهل بن ربن
الطبري (ت 247هـ) (ت 861م)، نشأ في طبرستان وأقام ببغداد، ألف كتاب (فردوس
الحكمة)، وهو موسوعةٌ كبيرةٌ في الطب جمعها من مصادر عديدة فارسية وهندية ويونانية.
[3]
البلخي، أبو زيد أحمد بن سهل (235-322هـ)
(849-934م)، تلميذ الكندي الفيلسوف المشهور، وواحد من أفذاذ العلماء، جمع
بين الفقه والفلسفة والأدب والفنون والجغرافية. يذكر أنه أول من رسم الأراضي
والخرائط من المسلمين وذلك في كتابه (صور الأقاليم الإسلامية). له من الكتب الكثير
نذكر منها: (أقسام العلوم)، و(كتاب السياسة الكبير)، و(كتاب السياسة الصغير)، و(كتاب
(شرائع الأديان)، وكتاب (الشطرنج). انظر الأعلام 1: 134.
[4]
بيمارستان الري، ذكر وجوده ياقوت الحموي في معجم
البلدان والقفطي نقلاً عن ابن جلجل. ولم يذكر اسم من أنشأه أو تاريخ إنشائه، والري
مدينةٌ في خراسان بالقرب من بحر الخزر، فتحها المسلمون صلحاً عام 20 هـ، كانت من
أعظم مدن الشرق بعد بغداد، خربها التتار وهي اليوم مدينةٌ صغيرة.
[5]
البيمارستان العضدي افتتح عام 372 هـ. وسمي بذلك
نسبةً إلى عضد الدولة أبو شجاع فناخسرو بن ركن الدولة البويهي الديلمي، كان القائم
بأمر الدولة. كان أول من تسمى بشاهنشاه، وأول من خُطِبَ له مع الخليفة على المنابر.
أصبح له شأنٌ عظيمٌ وكان ذا هيبةٍ وسطوة. مدحه المتنبي والأرجاني. توفي بعلّة الصرع.
[8]
البيروني، أبو الريحان محمد بن أحمد (362-440هـ)
(973-1048م) المنسوب إلى بيرون من إقليم السند. أقام بخوارزم، وكان مشتغلاً
بالعلوم الحكمية، ذا نظرٍ جيدٍ في الطب، عاصر ابن سينا وكانت بينهما مراسلات. راجع عيون
الأنباء 459، الأعلام
[9]
نُشِرَتْ هذه الرسالة من قبل كراوس في باريس باللغة
الفرنسية تحت عنوان Le repertoir des ouvrages de M
Zakariyya Razi وذلك في عام
1936.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق