رأس السنة بتوقيت قاسيون




إلهي؛
سنةٌ عنّا ترحلُ،
وسنةٌ جديدةٌ تأتي،
بتوقيت قاسيون الأشم،
سنةٌ حُبْلَى بأحلامٍ صغيرة،
نفتح لها أيدينا كالأطفال ونقفز، 
عَلَّنا نَنْحتُ، من ذا السّواد، قوس قزحٍ جميل

سورٌ يحيط بحديقة حيوانٍ أو جهنم

عمل للفنانة سلافة حجازي

يوماً ما سيقومون بتَسْوير المنطقة المسماة بالشرق الأوسط. سيكون سوراً عظيماً يضاهي سور الصين. سوراً مُحَصَّناً تعلوه الأسلاك الشائكة، وتتخلله أبراج الحرس، وكاميرات المراقبة.
سيحشدون وراء هذا السور كل ما أُنْتج من همجية. الشائعات تنتشر كالهشيم. هناك من يقول أن وراء السور أكبر حديقة حيوان في العالم. هناك من يقول أن وراء السور قومٌ ما زالوا يعيشون في زمنٍ انتهى، ويسفكون دماءهم لخلافٍ وقع على كرسي السلطة قبل 14 قرناً. هناك من يقول أن وراء السور أبرياء لكنهم مجرد كومبارس وظيفتهم الموت، أو انتظار الموت. هناك من يقول أن وراء السور نموذجٌ واقعيٌّ من جهنم: مكانٌ لا مكان فيه للحياة الآدمية، مكانٌ يختنق فيه الهواء، وتنتحر فيه الأحلام، مكانٌ يموت فيه الإنسان هكذا لا لشيء، فقط لأنه صَدَفَ ومرَّ في المكان الخطأ في اللحظة الخطأ، وصَدَفَ أن شخصاً قذراً بلا قِيَمٍ أو أخلاق قد أرسل، في ذلك المكان وتلك اللحظة، الرصاص أو الصواريخ أو الهاون أو أحزمة المتفجرات.
سيأتي السيّاح من أصقاع الأرض، وهم يحملون النواظير، كي يتأملوا معنى التخلف، كي يضحكوا على هذا العالم الغريب، كي يقهقهوا على الحماقة المغروسة في هذا المكان، كي يراقبوا الزمن وهو يقفز نحو الوراء. لكن على السيّاح أن يتذكروا، أنهم مُتَوَرِّطُون في الموت الـمُقيم وراء السور؛ فقوانين هذه الحياة الظالمة تقول: على المنطقة أن تموت، أن تتعمَّد بدمائها، أن تحترق بغباء أبنائها، كي يحيى أولئك السياح؛ أولئك الذين يعيشون خارج السور! 

حين يغني "الفن السوري" في أوسلو! مقالٌ جديدٌ منشورٌ في صحيفة الحياة


لقراءة المقال من موقع الصحيفة يرجى الضغط هنا

اجتمع في أوسلو، بتاريخ 11 كانون الأول/ديسمبر، عددٌ من "الفنانين الموهوبين" من أنحاء العالم للمشاركة في إحياء حفلٍ على شرف الفائزين بجائزة نوبل للسلام. مفاجأة هذا العام كانتْ في حضور فنانٍ سوريٍّ (عمر سليمان) "كممثّلٍ" عن النتاج الفني السوري.
هذا الفنان واحدٌ من أمثلةٍ كثيرةٍ لأقطاب "الفن الشعبوي" الذي اكتسح سوريا تدريجياً خلال العقود الأخيرة. فقد انتشر هذا النمط الموسيقي/الغنائي في الأثير العام السوري، ليحتل موقع الصدارة مع رصيدٍ من الشيوع، حتى أضحى المرور تحت "جسر الرئيس" في دمشق أو الركوب في وسائط النقل العامة، على سبيل المثال، مكافئاً لجلسة تعذيبٍ وذبحٍ علنيٍّ للذائقة الفنية.
تعكس موجة "الفن الشعبوي" المذكورة تقلّصاً في المساحة الجمالية على المستوى الفَرْدي والجمعي، البصري والسمعي. وبرزتْ، قبالة هذا "الفن الشعبوي"، ظاهرة "النقد الشعبوي للفن": نقدٌ فنيٌّ لا علاقة له بالنقد، نقدٌ يتَّسم بالكَيْدية، يُـؤَجِّجُ الهويات ما قبل الحداثية، ويمزجها، في صورةٍ فصاميةٍ، مع نسبوية ما بعد الحداثة. ينتج من ذلك تفريغٌ للفن من محتواه الجمالي، وزجٌّ للفن في صراعٍ قبيحٍ للهويات المتقاتلة. ولعل ما يجمع مواقف النقد الشعبوية، سواء كانت مديحاً أو ذمّاً، هو استنادها في العمق إلى تَمَذْهُبٍ فني: أي إلى التماهي مع الطائفة والمنطقة والطبقة الاجتماعية والاقتصادية التي ينتمي إليها الفنان.
قد يكون الفن معبّراً عن هويةٍ ثقافيةٍ ما، لكنه حين يَتَمَذْهَب، مُتَحَوِّلاً إلى أداةٍ للتقوقع و/أو التقوقع المضاد، فإنه يفقد رسالته العابرة للحدود، ليغدو مُجَرَّدَ وسيلةٍ للفرز العنصري وتثبيت الحدود. حينها تتم إزاحة النقد الجاد لهذا "الفن المتقوقع" من الحقل الجمالي إلى حقل الانتماءات الضيقة. هنا يصبح "عمر سليمان" القادم من المنطقة الشمالية الشرقية، النظير المناقض "لعلي الديك" القادم من المنطقة الساحلية. نقد أداء "عمر سليمان" انتقاصٌ من الطائفة/الطبقة التي ينتمي إليها، وكذلك نقد أداء "علي الديك" انتقاصٌ من الطائفة/الطبقة التي ينتمي إليها. أما المديح الفني لكلٍّ من "عمر سليمان وعلي الديك" فتعبيرٌ عن كيديةٍ ريفيةٍ ضد برجوازية المدينة، في حين أن التباكي الفني الذي ينقد كليهما تعبيرٌ عن كيديةٍ برجوازيةٍ تنتقصُ من ريفية اللامدينة!
لا بدَّ من الإشارة، بعيداً عن هذا التَّمَذْهُب الفني البائس والسَّاذج والرَّجعي، إلى أن العمل الفني الذي يقدّمه أي فنان، وينشره على الملأ، جزءٌ من الشأن العام (وليس حِكْراً على الشأن الشخصي)، وبالتالي فلا مناعة له ضد النقد. وبالتأكيد لا علاقة للنقد الفني الرصين بانتماء الفنان إلى الريف أو المدينة، أو إلى طائفةٍ أو قوميةٍ معينة. وكَوْن "الفنان" من الفقراء والكادحين أو من خلفيةٍ اجتماعيةٍ "بسيطة" لا يعطيه، على الإطلاق، صكّاً بالإبداع الفني (أو العكس)، حتى لو امتلك قاعدةً شعبيةً واسعة (لا يصح هنا توظيف الديمقراطية في صورةٍ بائسةٍ ومشوّهة، أو إقحام الميول الماركسية قَسْراً في السياق الجمالي). وعلى النقيض من ذلك، فالإلصاق الساذج "للفن الراقي" بالبرجوازية، و"الفن الهابط" بما هو خارج هذه البرجوازية أيضاً لا يصح، بخاصة في الحالة السورية التي تمتاز بعطالة وهشاشة البرجوازية المدينية وميْلها إلى الاستكانة.
لكن هذا لا يعني أن كلَّ ما يسمى "فنّاً" يستحق التسمية، أو أن كلَّ "أداءٍ فنيٍّ" يستدعي التقدير والاحتفاء بالتساوي. فالتقييم جزءٌ أصيلٌ من النقد الفني، ومن استقبال وإدراك الجمال من قِبَلِ الذائقة الفنية.
بالعودة إلى ظاهرة "عمر سليمان" و"علي الديك"، فلا بد من وضعها في سياق تراجعٍ مستفحلٍ على كل المستويات الفنية: المسرح، العمارة، النتاج الأدبي النثري، النتاج الشعري، وغيرها. ولا بد، في سبيل تفسيرها، من التنقيب في التراكم الـمُزْمِن لعلاقات التشنّج الطبقي/الاجتماعي/الاقتصادي على امتداد الجغرافيا السورية، وتفكيك الإرث القمعي الذي اعتاد مصادرة الحريات ومعاداة الفن، إضافةً إلى أخذ السجل "الوطني"، الحافل بالانكسارات والهزائم، في الاعتبار. وتجدر الإشارة إلى دور الاختلاط الرضّي للفنون الشعبية مع مُفْرَزَاتِ الحداثة، في ظلِّ القمع السلطوي/الديني. فقد أدّى هذا الاختلاط إلى إغراق هذه الفنون مادياً وإفقارها روحياً، إتخامها استهلاكياً وتفريغها جمالياً، تشويهها وتدشين موجة "الفن الشعبوي": كما في الاعتماد شبه المطلق على "الأورغ" والإيقاعات الجاهزة وتنويعات "التِّكنو"، والاستخدام المفرط للأضواء "الفلاشية" اللامعة، والميكروفونات ذات الصوت العالي، والكراسي المصفوفة في خطوطٍ متوازيةٍ وكأننا في اجتماعٍ حزبيٍّ، مع محاولةٍ لاستنساخ الكاباريه الباريسي عبر ذكوريةٍ فاقعة تدمج، على مستوى المشهد، غَنَجَ "الراقصات الشرقيات" بالفنان ذي الملابس المحافظة. العامل الأساسي في هذا "الفن الشعبوي" هو الضحالة في الأداء الفردي (في العزف والغناء والهارموني) على حساب استبداد الآلة الكهربائية، والفقر الشديد في روح الإبداع/التجديد، مع اقتلاع وتهميش الإنسان من فَحْوى العملية الفنية، ويضاف إلى ذلك قاعدةٌ شعبيةٌ عريضةٌ تستسيغ هذه الركاكة الموسيقية ذات الحضور البلاستيكي المصطنع.
قد يكون "الغرب" مُولَعاً بالترويج لصورٍ نمطيةٍ مختزلةٍ تنسجم مع نظرته المسبقة: السوريون قومٌ يقتتلون تحت راية داعش وبشار الأسد، أو يغنّون كعمر سليمان وعلي الديك! لكن القضية لا تُخْتَصَرُ في تآمرٍ غربيٍّ، أو في التباكي النوستالجي على نماذج جماليةٍ معينة، أو في إنكار القاعدة الشعبية "للفن الشعبوي"، بل في الاعتراف بوجود هذه القاعدة التي تشمل شرائح واسعة من السوريين. يتلو ذلك مواجهةٌ شجاعةٌ لدلالات هذا التراجع في الذائقة الفنية، كعلامةٍ على وضعٍ بائسٍ على المستوى الجمالي: فالمنطقة غارقةٌ في أزمةٍ جماليةٍ مزمنةٍ بدأت تتفاقم، منذ عقود، في صورةٍ حادة؛ أزمةٌ تَشُلُّ المنطقة، وتُجَـرِّدُ نسبةً من أبنائها من القدرة على استقبال وإدراك وإنتاج الجمال. ولا تقتصر هذه الأزمة الجمالية على المجال الفني، بل تتجاوزه إلى مجالات الفكر والثقافة والسياسة والحياة الاجتماعية. يكفي أن ننظر حولنا، بشيءٍ من التجرُّد، لندرك مدى التقلّص الـمُريع الذي أصاب المساحة الجمالية، ومدى القباحة التي بَاتَتْ تحاصرنا من كل الاتجاهات: بدءاً بالتراجع المؤسف على مستوى اللباقة في العلاقات اليومية، وانكماش المساحات الخضراء وغياب النظافة، مروراً باستبداد الأنظمة الحاكمة واستبداد من يعارضها، ورفع خطاب الكراهية وانتهاك النفس البشرية إلى مستوى الحدث الاعتيادي، وانتهاءً بتغوُّل صناعة الموت على حساب إرادة الحياة! 

لقراءة المقال من موقع الصحيفة يرجى الضغط هنا


حول معادلة الصراع في سوريا - مقال منشور في صحيفة القدس العربي

لوحة للفنانة عبير أربيد
لقراءة المقال من موقع الصحيفة يرجى الضغط هنا

يُفْتَرَض أن يستند جوهر الصراع في سوريا إلى نضالٍ ضد الاستبداد الذي يمارسه نظامٌ قمعيٌّ، وإلى رفض ما يرتبط به من فسادٍ وتكبيلٍ للحريات ومصادرةٍ للحقوق. ويمكن التعبير عن هذا الصراع في معادلةٍ تختلف من حيث التسميات، ومن حيث الدقة وقابلية التعميم: نظام ضد معارضة، نظام ضد ثورة، نظام ضد انتفاضة، نظام ضد شعب، إلخ. لكن مهما تعدّدتْ صِيَغُ هذه المعادلة فإن القاسم المشترك الذي يجمع بينها هو وجود النظام منفرداً في طرفٍ من طرفَيْها، في مقابل العناصر الأخرى التي تعارض النظام وتثور عليه.
إلا أن التعقيدات والتغيّرات الذاتية والمتسارعة التي طرأتْ على المشهد السوري، ودخول لاعبين خارجيين إقليميين ودوليين، جرّد هذه المعادلة الـمُـبَسَّطة من فعاليتها، ومن قدرتها على توصيف المشهد وتحليله، فضلاً عن جعلها عاجزةً عن توقع مآلاته. إذْ لم تعد القضية مُقْتَصِرَةً على نضالٍ ضد النظام وحده، فقد تكاثرت الفرق المستبدة في الساحة، بتحالفاتها المتشابكة، وولاءاتها المتغيرة والمتعددة. وللأسف، فعوضاً عن تطوير معادلة الصراع من قِبَلِ مثقفي الشأن العام السوري، وعوضاً عن إخضاعها إلى مراجعةٍ مستمرةٍ تِبَعاً للظروف والأحداث، فقد أُسْدِلَ عليها شيءٌ من الجمود: جمودٌ يحافظ على حالة الفصل الـمُطْلَق بين النظام الذي يُوضَعُ في حَيِّزٍ، وبين "كلِّ" من يقف في وجه هذا النظام من الأطراف التي تُوضع بدورها، على اختلافها الجذْري وتناقض سلوكياتها وأهدافها، في حيّزٍ آخر.
يَدُلُّ الجمود في هذه المعادلة، وما يؤدي إليه هذا الجمود من قصورٍ وعجزٍ، على أزمةٍ عميقةٍ في العقلية الثقافية السائدة، وعلى تشوُّشٍ وتشوُّهٍ في المرجعيات التي تستند إليها. حيث تنطلق هذه العقلية من شَخْصَنَةِ المشهد السوري، ومقاربته على مستوى المظاهر الخارجية والتصريحات العاطفية والهويات ما قبل الحداثية، بدلاً من مقاربته موضوعياً على مستوى المناهج التي تُبْنى عليها هذه المظاهر والتصريحات والهويات. العقلية الثقافية السائدة، وبسبب تاريخٍ طويلٍ من القمع، مبنيةٌ على منطقٍ ثنائي الحد: أبيض أو أسود، إما خير مطلق أو شر مطلق، إما معي أو ضدي (ولهذا المنطق أسسٌ فِطْريةٌ ممتزجةٌ مع الإرث المقدّس والتقليدي). يَتَّصِفُ هذا المنطق بالخلو من العمق والتَّدَبُّر، وينعكس على العقلية السائدة، حتى لو كانت بعيدةً عن دائرة الألم المباشر، ويجعلها مُولَعَةً بالصورة على حساب ما هو كامنٌ وراء الصورة، وأسيرةً للحدث الآني بدلاً من الأثر البعيد، ومنغمسةً في اصطناع "الآخر"، والبحث عن مواطن التمايز عنه، عوضاً عن السَّعْي إلى التلاقي معه.
لقد أخذتْ هذه العقلية حضوراً صارخاً في خِضَم الألم الذي يكتسح سوريا، وغياب (أو تغييب) أيِّ صوتٍ عاقلٍ وفعّال. وهذا ما قد يفسر تهميش القِيَم والفضائل العليا (كحق الحياة، والحفاظ على النفس البشرية)، وعدم اتخاذها كمرجعياتٍ ترسم خطوط الصراع القائم، ليحل مكانها، كنتيجةٍ للاسترخاص الـمُزْمِنِ للإنسان في المنطقة، اصطفافاتٌ سياسيةٌ تَتَمَحْوَرُ حول كراهية/حب "شخصٍ" أو "جماعة". ومع جمود معادلة الصراع، طَرَأَ انزياحٌ خاطئٌ في طبيعة هذا الصراع؛ فابتعد عن الحقوق والحريات، وغدا صراعاً عَبَثِيّاً بين قوىً عنفيةٍ متقاتلةٍ ظاهراً، لكنها متشابهةٌ منهجاً (لدرجةٍ يخيَّلُ فيها للمراقب بأن هذه القوى العنفية متحالفة!).
تكمن خطورة هذا الانزياح في أن الحالة الثأرية الآنيّة تأخذ أولويةً على الحالة الأخلاقية الوطنية طويلة الأمد، حيث يتم تجاوز الأخيرة، أو التضحية بها أو غضُّ النظر عنها، بناءً على "ضرورات المرحلة"، وفي سبيل الحصول على دعمٍ مؤقت. وهكذا تَخَلّتْ معظم الأطراف العنفية عن قضايا الحرية والكرامة ذات البعد الوطني والإنساني الجامع، جاعلةً غايتها محصورةً فقط في معاداة النظام، والوصول إلى حالةٍ من النِّدِّية الـمُنَاقِضَةِ له، حتى لو أفضى ذلك إلى تَقَمُّصٍ كاملٍ لنهج وسلوك النظام الذي تم الانتفاض في وجهه.
يدفع هذا الانزياح الخاطئ، على سبيل المثال، قطاعاتٍ ممن يعارض النظام إلى إبرام تحالفاتٍ مع كل الأطراف التي تعلن قولاً و/أو فعلاً عن عدائها للنظام، حتى لو كانتْ هذه الأطراف غير مؤمنةٍ بأيِّ قيمٍ تنعكس إيجاباً على سوريا وعموم السوريين. ومما يؤسف له هو الاستمرار بهذه التحالفات حتى بعد أن أثبتت التجربة عدم اكتراث هذه الأطراف بالشعب وبعدالة قضيته (مثلاً: ما يسمى بأصدقاء سوريا، والجماعات المتطرفة). طبعاً قلّلَ الخطاب الغوغائي الذي احتلَّ المنابر الإعلامية من كارثيّة هذا النهج العقيم والمراهق، ولم يمتلك الشجاعة للإشارة إلى أن هذه التحالفات ستلوِّث الحراك الشعبي، عاجلاً أم آجلاً، وستأخذه في مساراتٍ بعيدةٍ كل البعد عن مصالح الشعب والوطن.
لا جدوى من تبرير هذا الانزياح الخاطئ، أو شتم النظام ولَوْمه، أو التعظيم من صمود الشعب: فهذه الممارسات ليستْ سوى محاولاتٍ للتخدير في ظلِّ فداحة الخطب. كما لا يكفي العمل على تحليل الأسباب التي أدتْ إلى هذا الانزياح، بل لا بُدَّ من التركيز على الواقع الحالي، وتدْشين وإقحام معادلةٍ جديدةٍ كلّياً: في أحد طرفي المعادلة الجديدة كلُّ من يعارض الاستبداد قبالة "كافة الأطراف الأخرى" التي تتبنّى الاستبداد مهما كانت صورتها أو التسمية التي تختبئ وراءها (نظام، عسكر، تطرف، معارضة سياسية إلخ).
سوريا في حاجةٍ إلى معادلةٍ جديدةٍ ومرنةٍ تنطلق من المناهج والمبادئ، لا إلى معادلةٍ جامدةٍ تختزل الصراع بالارتهان إلى معسكراتٍ ثابتة. سوريا في حاجةٍ إلى العودة إلى القيم الوطنية والأخلاقية الجامعة، وليس إلى اصطفافاتٍ متعاكسةٍ ظاهراً، ومتشابهةٍ ضِمْناً بالمنهج والوسيلة. ولا شكَّ في أن تحقيق مثل هذا الطموح وترجمته على أرض الواقع يتطلّب وقتاً وجهداً وتراكماً، ويستدعي تغييراتٍ جذريةً على مستوى الفكر والثقافة، وعلى مستوى العقلية السائدة والمرجعيات: وهذه التغييرات الجذرية هي تماماً روح الثورة، وبدونها فالثورةُ لا يمكن لها أصلاً أن تكون.

لقراءة المقال من موقع الصحيفة يرجى الضغط هنا






أشلاءُ الطفلِ المَرْمِيَّةُ تحت السرير



صدقاً لم يعد هناك ما يُكتب، لم يعد هناك معنىً لما سيكتب. فالموت يُعَرْبِدُ في كلِّ الأركان، ويقفز مَرَحاً على الأطراف المقطَّعة. يحصد عبادَ الله كبيدرٍ من الشعير، ويتجشأ قيحاً، وينظر صوب السماء ليستهزئ بالله. أما الدمعُ الجاف فيصبغُ وجه السماء العارية، ويمزق خرقةً باليةً تستر عورة الفضيلة، وقباحة البشر.
في حلب، دفاتر الإجرام مُتْخَمَةٌ بالإجرام، بسطورٍ ثَمِلَةٍ بالدماء، بالأخبار العاجلة ذات الشريط الأحمر، بأرقامٍ تتسابق مع عدد شواهد القبور. في حلب، تتجلّى بهائمية نظامٍ بدائيّ. براميل الحقد الأسود؛ همجيةٌ تمحو كلَّ ما يمكن أن يُكتب، تهدم كلَّ ما يمكن أن يُبنى، وتجبر الإنسان على التساؤل عن أفق القذارة الذي لا ينتهي.
في حلب، الأزقة الفارغة تبكي. المدارس المهشمة تبكي. أبواب البيوت المدمرة تبكي. فناجين القهوة بآذانها المكسورة تبكي. المصاحف والأناجيل والصُّحف، وكتب الملحدين المقدسة تبكي. لا يمكن لسلطةٍ أو نظامٍ أو ثورةٍ أو جاهٍ أو منصبٍ أو إلهٍ أن يستحق كل هذا البكاء. كيف؟ إلى أين؟ ولماذا؟ لا أعرف. لكن الكلفة التي تدفعها سوريا بكيانها وتاريخها وفقرائها ومعذبيها وعاشقيها أكبر بكثيرٍ من كلِّ المسمّيات، ومن كلِّ الأقنعة، ومن كلِّ الأكاذيب والتُّرَّهَات ...
وسط هذا الألم الذي لا يهدأ، وسط آهات المعذّبين من فقراء وبسطاء الوطن، أدركُ حقيقةً أولى: البلاء القادم أشدُّ وَطْأةً. الموت مُصِرٌّ على الانتقام من هذه البقعة من الأرض، ربما لأن الله قد تخلّى عنها. أدرك حقيقةً ثانية: كلُّ تأخيرٍ في إيقاف هذا الجنون، كلُّ مزاودةٍ، وكلُّ ندْبٍ وتهليلٍ أجوف للإبقاء على هذا الجنون، يعني أن مزيداً من الأرواح البريئة ستُزْهَقُ مجّاناً في مذبح هذا الهُراء العبثي، وأن مهرجانات الدم لن تتوقف: سادية المتفرج البعيد مستمرةٌ في نشوتها بنقل الخبر، وبالتفاخر بعدد الشهداء، وبالغوص في مستنقع الانتصار الذي لا يمكن أن يكون إلا هزيمة.
لا أدري كيف ينام دُعاة الدم والحقد. كيف لهم أن يضعوا رؤوسهم على الوسادة بعد كل هذا؟ ألا يختنقون بالدم المتخثر في أنوفهم؟ متى ستهزهم دموع الطفل اليتيم؟ متى سيفكرون بالانتحار؟ أطلبُ منهم، من كلِّ دُعاة الدم والحقد (في النظام أولاً والمعارضة ثانياً)، أن يكفّوا عن التباكي، أن يكفّوا عن ذَرْفِ دموع النفاق. أطلب منهم أن يمتلكوا الشجاعة لمرةٍ واحدة، ليقفوا قبالة المرآة ويبصقوا في صُوَرِهِم، ويصرخوا في أنفسهم: نحن مجرمون، نعم. نحن قَتَلَة، ولنا من أرواح الضحايا نصيب. أما البرهان ففي الدماء التي تسيل على سواعدنا، وأشلاءِ الطفلِ الـمَرْمِيَّةِ تحت السرير.  

في إصلاح ما لا يُرْتَجى: حركات الإسلام السياسي في زمن الركود الفكري



الإنجاز الوحيد الذي حققته (وستستمر في تحقيقه) حركات الإسلام السياسي هو تشويه الدين الإسلامي في شكلٍ لم يسبق له مثيلٌ في التاريخ: طالبان - النظام الإيراني - معظم الدويلات الخليجية - حزب الله - حماس - النصرة - داعش - القاعدة ... وما زالت القائمة تطول وتطول لتضم في ثناياها مزيداً من التنظيمات التي تحترف صناعة الموت والكراهية وتدّعي، في الوقت نفسه، أنها تنتمي إلى دينٍ أُنْزِلَ "رحمةً للعالمين" ...
أيُّ رحمةٍ تلك التي يمكن أن يستوعبها هؤلاء القوم الجلف؟ أي خُلُقٍ يحملونه، وأين هم من مكارم الأخلاق؟ألم يقرؤوا الآية: "ولو كنتَ فظّاً غليظ القلب لانفضّوا من حولك"؟ بل لعلّهم قرؤوا وما تَدَبَّرُوا لأن في النفس هوىً وشهوةُ سلطةٍ وكِبَر ...
طالما أن الفكر الديني الإسلامي يعيش ركوداً منذ قرون، وطالما أن القائمين عليه منشغلون في تطويل لحاهم، ومنكبون على إبقاء العامة في حالةٍ من الجهل والـخَدَر المقدس، وطالما أن الجموع تستطيب عيش القطيع على هامش الحضارة، فلا أمل يُرْتَجَى من إصلاح ما لا يُصْلَح ...
رحم الله أبا الطيب المتنبي حين قال: ما لجرحٍ بميّتٍ إيلامُ.
لم تعد الثورة الفكرية "من داخل" المنظومة الدينية موضوعاً للترف والتساؤل، بل قضية حياةٍ أو موت يتوقف عليها مستقبل الجنس البشري الذي يقطن منطقتنا البائسة.

على هامش الألم


كنتُ وما زلتُ أكرر موقفي وموقف التيار الذي أنتمي إليه بأن أي "حل" في سوريا هو حل سياسي حكماً، وأن مثل هذا الحل لن يهبط من السماء، ولن يصنعه لنا الآخرون، بل يحتاج إرادةً سوريةً بالحد الأدنى لدى من يحتل المنابر الإعلامية وغيرها ... وأن أي تعويل على السلاح هو فقط زيادة عبثية ومجانية في المقتلة والخراب دون أن تنعكس إيجاباً على الشعب والوطن ... وأن أي تعويل على ما يسمى "أصدقاء سوريا" ليس سوى كذبةٍ سمجةٍ لا يصدقها سوى السُّذج أو الأغبياء أو اللصوص ... وأن الشأن السوري يحتاج حنكةً في قراءة المتغيرات الإقليمية السريعة خاصة مع إشباع الساحة بالتطرف الإسلاموي (وهو بالنسبة "لأصدقاء سوريا" أولوية تعلو على سوريا وشعبها). لكن كثيراً من "المعارضين الثوار" كانوا مشغولين بالتباكي والندب على الضحايا الذين أسهموا في جعلهم ضحايا. كانوا مشغولين في تخوين كل صوت عاقل. كانوا مشغولين في حقن المكلومين بجرعاتٍ زائدةٍ من الحقد والغضب (وكأن ما حلَّ بهم لا يكفيهم). كانوا مشغولين في تشكيل شبكات من التسلق والسرقة والعبث وشراء الذمم ... كانوا مشغولين بكل شيءٍ إلا الوطن ... فهم، بمعظم أطيافهم السياسية والمسلحة، مجرد صورةٍ مرآتيةٍ للنظام المنحط الذي انتفضنا في وجهه ...

الآن وزير خارجية إحدى أهم الدول الإقليمية التي رَعَتْ أطيافاً محددة من المعارضة التلفيزيونية يقول إن "الحل في سوريا سياسي" ... الآن ستبدأ الجوقة التي كانت تشتم وتخوّن السوريين الذين قالوا هذا الكلام قبل هذا الخراب العميم، الآن ستبدأ هذه الجوقة ذاتها بتمسيح الجوخ لأولياء النعمة ... نوع من النفاق وتهافت الحس الوطني (باعتبار أن كلمة وطنجي أصبحت شتيمة في عرف هؤلاء).

فعلاً كما يقال مزمار الحي لا يطرب، والجموع القطيعية ومن يقودها من "رعاع ربطات العنق والفنادق" لا يملكون سوى ذاكرة مثقوبة كالسمك، ويفتقدون أبسط شروط المحاكمة في أمور الوطن والناس ... لكن تذكروا أن التاريخ يسجل ... وأن سوريا تسجل ... وأنكم ستدخلون مزبلة هذا التاريخ مع هذا النظام المستبد المنحط، حتى لو جلستم مناصفةً على كراسي الحكم أنتم وميليشياتكم بكل مسمياتها ...

عرّابو السلاح وفصام التحرير والتطهير

صورة أليمة من مجازر حلب المرتكبة من قِبَل قوات النظام ببراميل الديناميت

تمنيتُ لو أن المنافقين من عرّابي سلاح التحرير أو التطهير كانوا، للحظاتٍ، متصالحين مع أنفسهم: فدعوات التحرير والتطهير بهذه الطرق الهمجية والوحشية، ووسط تجمعات المدنيين، تعني حتماً أن أرواحاً بريئةً ستُحصد بالمجان. لسان حال عرّابي السلاح: هذه حربٌ، وللحرب ضريبةٌ يجب أن تدفع (هكذا)! وعليه فتشجيع التحرير والتطهير هو موافقةٌ ضمنيةٌ على هذه الضريبة: مُجَرَّد خسائر بشرية خدمةً لضرورات المعركة؛ أشلاءٌ ممزقة، أطرافٌ مُقَطَّعَة، مخيمات اللجوء، قوارب الموت، تشرد ونزوح، خراب عميم، جيلٌ ضائع.
طالما تدركون ضمنياً كل هذا، فلماذا بربكم التباكي على الدماء يا من كنتم، سبباً مباشر أو غير مباشر، في سفك الدماء؟ تَبَاكِيكُم على الضحايا مقرفٌ، وندبكم أجوف، ودموعكم كاذبة، ومواقفكم مزيجٌ من الحقد والفصام. المراهقة والحماقة داءٌ مدمرٌ حين تعلو فوق صوت العقل، حين تنطق في شأن الناس، وحين تعطي رأياً فاسداً في مصير الوطن.
هل أوقف السلاح المقتلة؟ هل حقن السلاح الدماء؟ هل خفّض السلاح عدد الضحايا؟ هل بنى السلاح الوطن؟ هل خلصنا من الفساد والفقر والتخلف؟ هل رفع مكانة سوريا؟ هل أعاد للإنسان السوري مكانته التي يستحقها؟ هل أسقط السلاح المؤامرة الكونية أو أسقط النظام؟ ما هي هذه السلطة التي تستحق كل هذا؟ ما هي هذه الثورة التي تستحق كل هذا؟
اصمتوا، إلى أن تمتلكوا الشجاعة للإجابة عن هذه الأسئلة. اصمتوا، ودعوا الضحايا من المدنيين البسطاء والفقراء يرحلون عنا. اصمتوا. ولا تلوثوا ذكراهم بصراخكم الكريه، فمن القباحة والنفاق نَدْبُ ضحيةٍ أسهمتم في ذبحها.  

في استعصاء الكارثة السورية والبحث عن حلول - مادة منشورة في مركز البناء الإخباري




نشرت هذه المادة في مركز البناء الإخباري
وهي معدلة عن مقالٍ منشورٍ سابقاً بتاريخ 8 شباط 2013

لقراءة المادة في موقع البناء الإخباري على الفيسبوك يرجى الضغط هنا

بات واضحاً، بعد ما يقرب من ثلاث سنواتٍ من الصراع، أنه لا يوجد حلٌّ سحريٌّ للكارثة التي تجتاح سوريا. فالتعويل على استنساخ سيناريوهاتٍ طُبِّقَتْ في بلدانٍ مجاورة، أو استدعاء التدخلات العسكرية المباشرةـ، أو ضخ السلاح والمقاتلين من كل الأطراف لم يكن له أيُّ أثرٍ إيجابيٍّ في تقريب السوريين من الخلاص، أو إنهاء الاستبداد والفساد. بل على العكس فقد خسرت سورية ما يزيد على مئة ألف ضحية، مع تهجير وتشريد الملايين، وتعميم الخراب والدمار، وإشعال فتيل الاقتتال الأهلي والانشطار المجتمعي في طول البلاد وعرضها. 
لا يمكن للحل في سوريا أن يكون وصفةً جاهزةً مؤلفةً من بنودٍ يُتَّفَقُ على تنفيذها خلال بضعة شهور، بل هو عمليةٌ مستمرةٌ ومجهدة تستند على أساسٍ سياسيٍّ تفاوضي. ومع التسليم بعدم وجود حلولٍ كاملةٍ وخاليةٍ من العيوب، فإن المعيار يبقى في قدرة "الحل" على: الانطلاق من قراءةٍ مُعَمّقَةٍ للمشهد المتغير، وتحديد الغايات التي يجب تحقيقها، مع مراعاة خصوصية الوضع السوري، والتخفيف قدر الإمكان من الكلفة البشرية والمادية (أو ما بقي منها).
حتى هذه اللحظة يبدو أن شروط المخرج السياسي التفاوضي غير محققة. إذ يمتلئ المشهد السوري بأطرافٍ عنفية (على رأسها السلطة القائمة والجماعات المتطرفة) تؤمن بالسلاح كمخرجٍ وحيدٍ من الكارثة، دون أن تدرك أن ذلك لن يجلب سوى مزيداً من الاستنزاف المؤلم والمـجّاني، مع تهديدٍ حقيقيٍّ بانهيار الدولة وتفتّت البلاد. ويتمازج هذا الارتهان الأعمى للعنف مع غياب النية في اجتراح حلولٍ بديلةٍ، ليعكس مراهقةً سياسيةً أليمةً يدفع ثمنها السوريون دماً ودماراً.
يضاف إلى ذلك فإن العملية التفاوضية التي يكثر الحديث عنها ستصطدم، عاجلاً أم آجلاً، بعوائق تقنيةٍ يأتي على رأسها عدم وجود أطرافٍ واضحة البنية وقادرةٍ على الدخول في أي تفاوضٍ مُفْتَرَض. ولهذا فمن الصعب التنبؤ بتفاصيل التفاوض الذي سيحتاج وقتاً لتحديد الأطراف الفاعلة والفاعلة وأجنداتها. لكن تُمْكِنُ الإشارة إلى أن أي "حلٍّ" تفاوضيٍ يجب أن يُراعي، قدر الإمكان، الأساسيات التالية:
-         التوجه إلى السوريين كافة كشركاء في وطنٍ واحدٍ سواءً كانوا موالاةً أو معارضةً أو صامتين. فالتوجه إلى شريحةٍ من السوريين على حساب شرائح أخرى، أو ترسيخ صيغة "غالبٍ ومغلوبٍ" بين المكونات السكانية السورية، هو إقصاءٌ وتحييدٌ وانكسارٌ لقسمٍ من "المجتمع السوري" (لا نتحدث هنا عن السلطة).
-         التوازن بين السيادة واللاقطبية: فأي ارتهانٍ لقطبٍ دوليٍ معينٍ يعني مباشرةً تشنج القطب الدولي الآخر. ولهذا يجب أن تتوفر جبهةٌ ناضجةٌ سياسياً قادرةٌ على فرضِ احترامها والتعامل مع مختلف الأقطاب دون وصايةٍ أو ارتهانٍ أو عداوة.
-         القدرة على تحقيق توافقٍ دوليٍ على ظروف الحل: يحتاج ذلك إرادةً سوريةً بالحد الأدنى، ويشمل ضغوطاتٍ حقيقيةً لوقف العنف (تدريجياً ومناطقياً)، مع ضماناتٍ ووساطاتٍ دولية، وغيرها.
التفاوض لا يهدف إلى مُجَرَّد التفاوض، بل إلى تغييرٍ جذريٍ في النظام السياسي: ويشمل هذا موقع رئاسة الجمهورية، وإعادة هيكلة القوى الأمنية، والدستور، والمصالحة الوطنية، وتشكيل حكومةٍ كاملة الصلاحيات إلخ.
بكل أسف فقد دخلت سوريا في حلقةٍ مفرغة: استمرار الكارثة يبعدنا عن توفير الشروط المذكورة أعلاه، وتغييب هذه الشروط يسمح للكارثة بالاستمرار. وهذا ما يجعل من احتمالات الخروج محكومةً بدعمٍ إيجابيٍّ من الدول الإقليمية في ظلِّ توافقٍ دوليٍّ محكومٍ بالمصلحة والانتهازية الدولية. أخيراً، لا داعي للتذكير بأن مثل هذا التوافق، إن تحقّق، لن يكون دون كلفةٍ وتبعاتٍ ستدفعها سوريا على مدى عقودٍ قادمة سنقضيها في "إعادة إعمار" ما خربناه، ومحاولة رأب الصدوع التي باتت تقسم المجتمع السوري الهش أصلاً.  

لقراءة المادة من موقع مركز البناء الإخباري على الفيسبوك يرجى الضغط هنا



السلاح: وَثَنٌ جاثمٌ على جماجم السوريين - مقالٌ منشورٌ في صحيفة الحياة




لقراءة المقال من موقع الصحيفة يرجى الضغط هنا
جنودٌ يسجدون جماعةً على التراب، سواعدُ تحمل الرشاشات والسيوف، أَعْلامٌ بألوانٍ شَتّى ترفرف في ساحات الوغى، شاباتٌ يتباهَيْن بالتقاط الصور التذكارية مع خُوَذِ العسكر والدبابات: هذا ما يعرضه الإعلام الذي يغطّي الأثير السوري، الرسمي وغير الرسمي، الموالي والمعارض. يمتزج هذا العرض مع صيحات الله أكبر واستجداء الرموز الدينية، في محاولةٍ هذيانيةٍ لإضفاء قداسةٍ على العنف، في سبيل الوصول إلى شرعنةٍ لهذا العنف؛ علّ ذلك يزيل عنه نجاسة الجريمة ودنس الكبائر.

يَضُجُّ المشهد السوري الحالي، بصرياً وسمعياً، بجرعةٍ عاليةٍ من البروباغندا العنفية التي تُؤَدْلِجُ السلاح، وتقدمه كوسيلةٍ وحيدةٍ بلا بدائل، كضمانةٍ حصريةٍ للأمل، وكبوصلةٍ تدلنا على الحلم المنشود. لم تكن البروباغندا العنفية، على مدى عقودٍ من الحكم الاستبدادي، غريبةً عن المشهد السوري. لكن، مع اندلاع الصراع العنفي الحالي، وصلتْ هذه الروباغندا إلى مستوياتٍ حَوَّلَتْ معها العنف إلى هدفٍ عبثيٍّ قائمٍ بذاته، وجعلتْ من السلاح وَثَناً يجثم على جماجم السوريين، ومرجعيةً مطلقةً تحدِّد الفرز والإقصاء وسفك الدم. فقد غَدَتْ عبادة السلاح/الوثن طقساً يحدِّد الاصطفاف، ويحدِّد عمق الولاء لهذا الاصطفاف (مع النظام أو الثورة)، كما لم يعد تأييد القتل كافياً كي تكتمل فروض الطاعة للسلاح/الوثن المتعطش للدم: لا بد من تفريغ القتل من كونه جريمةً، وتحويله إلى حدثٍ سعيدٍ في سياق جنونٍ جماعي، لا بد أن نعيش البهجة/النشوة بارتكاب القتل!
لهذه البروباغندا العنفية مستلزماتٌ يُوَظِّفُها عرّابو السلاح من كل الأطراف: الصوت العالي المشفوع بالضرب على الطاولة، الحديث عن الدعس والحديد والنار، السخرية من كل صوتٍ يدعو لحقن الدم، تأجيج مشاعر الكراهية والثأر، التحليلات العسكرية ذات الخيال المجنح والمثير للشفقة، التبجُّح المستمر بتحقيق الانتصارات الميدانية، والضجيج الإعلامي المحيط بكل ما سبق؛ ممارساتٌ تقدِّم في مجموعها برهاناً على فشل السلاح في تحقيق ما أُريد له أن يحقِّق. ألا يعتبر ارتفاع منسوب البروباغندا/الأدلجة دليلاً على استعصاء الحلم؟ وعلى عجزه عن التحقق؟ ألا يتخلّى الحلم حينها عن كونه حلماً؟ هنا يُمْسَخُ الحلم، الساعي إلى رفاهية الإنسان، في كابوسٍ يغتال هذه الرفاهية ويهمِّشُ الإنسان. يحتجب الكابوس، كي يستمر، خلف قناعٍ سميكٍ من الكذب الـمَسْبُوك في مصطلحاتٍ خطابيةٍ كبرى (وطن، ممانعة، مقاومة، ثورة، شعب، جيش إلخ)؛ لا يجمع هذه المصطلحات عملياً سوى استعباد الإنسان، واستخدامه كمجرد شيءٍ، خدمةً للكابوس.
قد تكون القناعة الـمُضْمَرة لدى كل الأطراف بفشل الخيار العنفي، وعدم قدرتها على تخيُّل أي خياراتٍ أخرى، من الأسباب التي تدفع إلى عدم الاعتراف العلني بذلك الفشل، ما يؤدي إلى مزيدٍ من التدهور في كارثةٍ مصبوغةٍ بالدماء. نظرةٌ سريعةٌ على الإحصائيات المتراكمة كفيلةٌ بتوضيح عمق الكارثة وفظاعتها. فبين منتصف آذار 2011 وبداية آب 2011، أي في الفترة التي كانت ممارسة العنف مقتصرةً عموماً على النظام، كان هناك 1668 ضحية بمعدل 374 ضحية شهرياً. وفي المرحلة الأولى من العسكرة بين آب 2011 ونهاية حزيران 2012 (الذي شهد انعقاد جنيف1) كان عدد الضحايا 12930، أي 1175 ضحية في الشهر. أما في المرحلة الثانية من العسكرة، والتي كانت بين تموز 2012 وحتى تاريخ إرسال هذا المقال للنشر، فقد فقدت سوريا 65713 ضحية، أي أكثر من 80% من الضحايا السوريين بمعدل 3865 ضحية شهرياً.
لا تشمل هذه الأرقام المأخوذة من مركز توثيق الانتهاكات (وهو من المصادر الـمُتَحَفِّظَة والدقيقة نسبياً في جمع المعلومات) آلاف الأجانب الذين يتوافدون كي يدعموا الأطراف العنفية تحت مسمّياتٍ مختلفة. أما فيما يتعلق بالضحايا السوريين المحسوبين على النظام فقد أورد مركز توثيق الانتهاكات أسماء 11742 ضحية. وعلى خلاف ذلك يذكر ديفيد كول، في مقالٍ عن سوريا نشرته مجلة نيويورك لمراجعة للكتب في الذكرى الخمسين لتأسيسها، يذكر إحصائيةً، بالاعتماد على المرصد السوري لحقوق الإنسان، عن "تصنيف" الضحايا السوريين الذين سقطوا خلال الصراع العنفي في سوريا: حيث يشكل السوريون المحسوبون على النظام (جيش نظامي وميليشيات غير نظامية) 41%، في حين تشكل المعارضة السورية المسلحة 20%، والمدنيون السوريون 39% من مجموع الضحايا الذين تجاوزوا 115000 حتى خريف 2013.
مرعبةٌ هي هذه الأرقام الـمُشْبَعَةُ برائحة الموت، لكنها أضعف من أن تملك القدرة على دفع عرّابي السلاح إلى مراجعة مواقفهم وتبريراتهم (مع أن تفسير الميل الفظيع نحو ممارسة العنف يحتاج دراسةً نفسيةً وثقافيةً معمّقة، تتجاوز التبريرات السطحية التي اعتاد عليها صنّاع الخطاب السائد في النظام والمعارضة). وتأتي الوقائع على الأرض، لمن يَوَدُّ أن يراها دون تحيّزٍ أيديولوجي، لتعرّي قباحة المشهد: علاقاتٌ نفعيةٌ بين المسلّح والسلاح وتاجر السلاح، تواطؤٌ على استمرار الأزمة والـمَقْتَلَة، تكاثرٌ للتجمعات العنفية المحسوبة على النظام والمعارضة، فتح البلاد أمام المقاتلين الأجانب والمتطرفين من كل الأطراف، مع ما يفرزه كل ذلك من انشطاراتٍ في المجتمع الهش، وهدرٍ ودمارٍ وخسائر. ولهذا يبدو أن المركز السوري لبحوث السياسات لم يجانب الصواب حين اختار عبارة "حرب على التنمية" عنواناً لتقريره الأخير حول تطورات الأزمة.
أما على المستوى "الثوري" فقد أسهم السلاح في تهميش الحقوق في معادلة الصراع: ففي سياق العنف المجنون لا تكون الغلبة عادةً لصاحب الحق، بل للأقوى تسليحاً وسطوة. يضاف إلى ذلك دفع التطرف إلى واجهة الحدث والاهتمام الدولي، باعتبار أن محاربة التطرف له الأولوية على حساب الحراك الشعبي.
أخيراً، قد يكون هجاء العنف مدعاةً لسخرية أمراء الحرب وعرّابي السلاح ومن يتبعهم في النظام والمعارضة، لكن من المؤكد أن استمرار هذا العنف، وعدم السعي نحو وقفه، وتخوين صوت العقل وإرادة الحياة، سيجعل من النماذج الدموية التي شهدها التاريخ القريب (لبنان، العراق، يوغسلافيا، الكونغو إلخ) نزهةً قبالة ما يحدث وسيحدث في سوريا. وبعيداً عن كل المخاوف والتحليلات، تبرز حقيقةٌ أليمةٌ؛ حقيقةٌ ندركها، مع أننا مولعون بالكذب على أنفسنا كي لا نصدقها: في هذه الأرض، وفي ظل هذه الأزمة العنفية، كلُّ السوريين خاسرون. وحتى إشعارٍ آخر: لا انتصار في سوريا سوى انتصار الموت.

لقراءة المقال من موقع الصحيفة يرجى الضغط هنا




المعارضة السورية وانتظار "غودو" المُخَلِّص - مقالٌ منشورٌ في صحيفة القدس العربي




صورة تمثل شخصيتي إستراغون وفالديمير في انتظار غودو. 
الصورة مأخوذة من مهرجان ستانفورد - سيلا فون تيدرمان

لقراءة المقال من موقع الصحيفة يرجى الضغط هنا

مؤلمٌ هو حال "نخب" المعارضة السورية التي يُفْترض بها أن تقدم نموذجاً يتجاوز المستبد، أخلاقياً وسياسياً، وأن تطرح بديلاً قِيَمِياً وطنياً جامعاً وقادراً على الحفاظ على ما تبقى من الدولة والوطن، وترميم واستعادة ما هشّمه وصادره النظام طيلة عقود.
لكن هذه "النخب" المعارضة لا ترى بأساً في الارتهان إلى شعبويةٍ مُجَوّفة، والسباحة مع الـمِزاج العام، والحصول على تصفيق الجماهير، بعد إغراقها بالأمل والوعود، دون اعتبارٍ لما سيُخَلِّفُه كلُّ ذلك من أثرٍ سلبي، ودون أدنى محاولةٍ لتطوير ثقافةٍ سياسيةٍ تأخذ ظروف الواقع وأدواته المتاحة في الاعتبار. فقد انحصرتْ مهمة تلك "النخب" عموماً في الظهور الإعلامي من خارج البلاد، حتى صار حضورها مألوفاً ومكرراً: "معارضٌ سياسيٌ أو عسكريٌّ أو ميداني" يصرخ على محطةٍ فضائيةٍ وهو يتوعد، ويشْتُم، ويكرّر خطاباً يتَمَحْوَر حول عرضٍ مسرحيٍ ومُهِينٍ لعدد الشهداء. يُرَوِّجُ هذا الخطاب النَّدْبي ويتكاملُ، ومنذ المراحل المبكرة للانتفاضة، مع منطق الاستجداء و"انتظار الـمُخَلِّص"؛ علّه يأتي، علّه يفعل، علّه يبادر بالنيابة عنّا، وعلّه يصنع الخلاص لنا، ويعلنه على مسامعنا، نحن السوريين، الذين يُفْتَرَضُ فينا أن نكون أصحاب المصلحة في هذا الخلاص.
من الواضح أن هذه "النخب" المعارضة، بترويجها لمنطق الاستجداء و"انتظار الـمُخَلِّص"، ليست مصابةً فقط بعطالةٍ سياسيةٍ تمنعها من ابتداع الحلول، بل تعوزها النية للتفكير بمثل هذه الحلول أصلاً. فالـمُنْتَظِر مُشْبَعٌ قَهْراً بالروح السلبية، غيرُ حرٍّ، وغيرُ قادرٍ على إطلاق المبادرات، أو الدخول في مواجهاتٍ مباشرةٍ، أو تقديم تنازلاتٍ ذكيةٍ ومرحليةٍ مقابل الوصول إلى الغايات الكبرى. الـمُنْتَظِرُ مُعْتَمِدٌ على الـمُخَلِّص الـمُنْتَظَر، ومُجَرّدٌ من القدرة على الفعل السياسي أو غيره. وهذا ما يضع "النخب" الـمُنْتَظِرَة في موقع "نُخَبَ الاستجداء" التي لا مجال لمقارنتها مع "نخب السياسة". وهذه النقطة الأخيرة، أي الندرة الشديد في السّاسة ورجالات الدولة في سوريا، ملمحٌ من ملامح التصَحُّر السياسي المزمن الذي يجثم على كاهل البلاد، وسببٌ رئيسٌ للوصول إلى الحضيض الذي نعيشه دون أن نتمكن، نحن السوريين، حتى الآن من تجاوزه في ضوء التدهور السريع للأحداث المأسوية.
من البدهي أن يحمل منطق "انتظار الـمُخَلِّص"، في ظل النظام العالمي القائم على علاقات المصلحة والانتهازية، جَدَلاً قِيَمِياً وأخلاقياً حول الكلفة والتبعات المترتبة. لكن بعيداً عن هذا الجدل، فإذا تناولنا منطق "انتظار الـمُخَلِّص" من زاويةٍ عَمَلِيةٍ وبراغماتيةٍ بحْتةٍ، فإن هذا المنطق سيبقى بائساً وعاجزاً عن التحقق، ومحكوماً بالفشل. فهل يمكن للدول التي لعِبَتْ دور المتفرج السلبي (أو الـمُخَرِّب)، في صراعٍ مستمرٍ على مدى ما يقارب ثلاث سنين، أن تلعب دور "الـمُخَلِّص" الإيجابي الحريص على "الشعب"؟ الجواب في رأيي سيكون بالنفي، والدلائل على ذلك واضحةٌ وكثيرة، ولعل آخرها فقاعة الضربة الأمريكية المزعومة، ووعود "أصدقاء" سوريا التي بقيتْ إما حبراً على ورق، أو تحولّتْ إلى عاملٍ لتحقيق توازنٍ هشٍّ مع النظام (ومن يدعم النظام)، مع تأجيج نار الصراع العنفي والحرص على عدم تحقيق أي حسم حقيقي.
من سوء حظ السوريين أنهم قد باتوا محاصرين بين نظامٍ مستبدٍ قاتل، ومعارضةٍ باهتة تنافس النظام استبدادياً، وعنفٍ منفلت العقال، وأوهام "المـُخَلِّصٍ" التي يصدقها من يودُّ أن ينفصل عن الواقع المليء بالقباحة. ويطرح ما سبق تساؤلاتٍ كبرى عن فُرَصِ الخروج من الكارثة التي تجتاح سوريا، ناهيكم عن احتمالات الترميم والبناء.
ولا يكفي في هذا السياق أن نَتَغَنّى بالأمل. فمع الإقرار بأن الأمل موجودٌ دائماً، إلا أن أحد شروط تحويله إلى حقيقةٍ مرتبطٌ بالتخلّي عن منطق "انتظار الـمُخَلِّص"، وتبنّي مقاربةٍ إيجابيةٍ وفاعلةٍ بالاعتماد على الذات وفق ظروف الواقع وقواعد "فن الممكن"، حتى لو أدّى ذلك إلى تحقيق التغيير في صورةٍ تدريجية، فالعبرة في خواتيم الأمور. عدا ذلك فإن الساحة السورية ستغدو مثالاً أليماً لما عبّر عنه المسرحي الإيرلندي "صموئيل بيكيت"، عام 1953، في مسرحيته الشهيرة "انتظار غودو": "... لا أحد يأتي ... الوضع مقرف! ...". هذا هو حال المشهد السوري إنْ بقيتْ روح المبادرة على مستوى النخب المعارضة مكبوتةً حتى إشعارٍ آخر، وإنْ بقي مستقبل الوطن مرتهناً لـمُخَلِّصٍّ ما، يأتينا يوماً ما من مكانٍ ما: حينها لا تغيير في الأفق سوى في عدّاد الضحايا الذين يرحلون عنا كل يوم، وفي حجم الخراب والتدهور الذي يستنزفنا ويُبْقِينا على هامش التاريخ.  

لقراءة المقال من موقع الصحيفة يرجى الضغط هنا