صورة تمثل شخصيتي إستراغون وفالديمير في انتظار غودو.
الصورة مأخوذة من مهرجان ستانفورد - سيلا فون تيدرمان
لقراءة المقال من موقع الصحيفة يرجى الضغط هنا
مؤلمٌ هو حال "نخب" المعارضة السورية التي يُفْترض
بها أن تقدم نموذجاً يتجاوز المستبد، أخلاقياً وسياسياً، وأن تطرح بديلاً
قِيَمِياً وطنياً جامعاً وقادراً على الحفاظ على ما تبقى من الدولة والوطن، وترميم
واستعادة ما هشّمه وصادره النظام طيلة عقود.
لكن هذه "النخب" المعارضة لا ترى بأساً في
الارتهان إلى شعبويةٍ مُجَوّفة، والسباحة مع الـمِزاج العام، والحصول على تصفيق
الجماهير، بعد إغراقها بالأمل والوعود، دون اعتبارٍ لما سيُخَلِّفُه كلُّ ذلك من
أثرٍ سلبي، ودون أدنى محاولةٍ لتطوير ثقافةٍ سياسيةٍ تأخذ ظروف الواقع وأدواته
المتاحة في الاعتبار. فقد انحصرتْ مهمة تلك "النخب" عموماً في الظهور الإعلامي
من خارج البلاد، حتى صار حضورها مألوفاً ومكرراً: "معارضٌ سياسيٌ أو عسكريٌّ
أو ميداني" يصرخ على محطةٍ فضائيةٍ وهو يتوعد، ويشْتُم، ويكرّر خطاباً
يتَمَحْوَر حول عرضٍ مسرحيٍ ومُهِينٍ لعدد الشهداء. يُرَوِّجُ هذا الخطاب النَّدْبي
ويتكاملُ، ومنذ المراحل المبكرة للانتفاضة، مع منطق الاستجداء و"انتظار الـمُخَلِّص"؛
علّه يأتي، علّه يفعل، علّه يبادر بالنيابة عنّا، وعلّه يصنع الخلاص لنا، ويعلنه
على مسامعنا، نحن السوريين، الذين يُفْتَرَضُ فينا أن نكون أصحاب المصلحة في هذا
الخلاص.
من الواضح أن هذه "النخب" المعارضة، بترويجها
لمنطق الاستجداء و"انتظار الـمُخَلِّص"، ليست مصابةً فقط بعطالةٍ سياسيةٍ
تمنعها من ابتداع الحلول، بل تعوزها النية للتفكير بمثل هذه الحلول أصلاً. فالـمُنْتَظِر
مُشْبَعٌ قَهْراً بالروح السلبية، غيرُ حرٍّ، وغيرُ قادرٍ على إطلاق المبادرات، أو
الدخول في مواجهاتٍ مباشرةٍ، أو تقديم تنازلاتٍ ذكيةٍ ومرحليةٍ مقابل الوصول إلى
الغايات الكبرى. الـمُنْتَظِرُ مُعْتَمِدٌ على الـمُخَلِّص الـمُنْتَظَر، ومُجَرّدٌ
من القدرة على الفعل السياسي أو غيره. وهذا ما يضع "النخب" الـمُنْتَظِرَة
في موقع "نُخَبَ الاستجداء" التي لا مجال لمقارنتها مع "نخب
السياسة". وهذه النقطة الأخيرة، أي الندرة الشديد في السّاسة ورجالات الدولة
في سوريا، ملمحٌ من ملامح التصَحُّر السياسي المزمن الذي يجثم على كاهل البلاد، وسببٌ
رئيسٌ للوصول إلى الحضيض الذي نعيشه دون أن نتمكن، نحن السوريين، حتى الآن من
تجاوزه في ضوء التدهور السريع للأحداث المأسوية.
من البدهي أن يحمل منطق "انتظار الـمُخَلِّص"،
في ظل النظام العالمي القائم على علاقات المصلحة والانتهازية، جَدَلاً قِيَمِياً وأخلاقياً
حول الكلفة والتبعات المترتبة. لكن بعيداً عن هذا الجدل، فإذا تناولنا منطق
"انتظار الـمُخَلِّص" من زاويةٍ عَمَلِيةٍ وبراغماتيةٍ بحْتةٍ، فإن هذا
المنطق سيبقى بائساً وعاجزاً عن التحقق، ومحكوماً بالفشل. فهل يمكن للدول التي لعِبَتْ
دور المتفرج السلبي (أو الـمُخَرِّب)، في صراعٍ مستمرٍ على مدى ما يقارب ثلاث سنين،
أن تلعب دور "الـمُخَلِّص" الإيجابي الحريص على "الشعب"؟ الجواب
في رأيي سيكون بالنفي، والدلائل على ذلك واضحةٌ وكثيرة، ولعل آخرها فقاعة الضربة
الأمريكية المزعومة، ووعود "أصدقاء" سوريا التي بقيتْ إما حبراً على
ورق، أو تحولّتْ إلى عاملٍ لتحقيق توازنٍ هشٍّ مع النظام (ومن يدعم النظام)، مع تأجيج
نار الصراع العنفي والحرص على عدم تحقيق أي حسم حقيقي.
من سوء حظ السوريين أنهم قد باتوا محاصرين بين نظامٍ
مستبدٍ قاتل، ومعارضةٍ باهتة تنافس النظام استبدادياً، وعنفٍ منفلت العقال، وأوهام
"المـُخَلِّصٍ" التي يصدقها من يودُّ أن ينفصل عن الواقع المليء
بالقباحة. ويطرح ما سبق تساؤلاتٍ كبرى عن فُرَصِ الخروج من الكارثة التي تجتاح
سوريا، ناهيكم عن احتمالات الترميم والبناء.
ولا يكفي في هذا السياق أن نَتَغَنّى بالأمل. فمع
الإقرار بأن الأمل موجودٌ دائماً، إلا أن أحد شروط تحويله إلى حقيقةٍ مرتبطٌ
بالتخلّي عن منطق "انتظار الـمُخَلِّص"، وتبنّي مقاربةٍ إيجابيةٍ
وفاعلةٍ بالاعتماد على الذات وفق ظروف الواقع وقواعد "فن الممكن"، حتى
لو أدّى ذلك إلى تحقيق التغيير في صورةٍ تدريجية، فالعبرة في خواتيم الأمور. عدا
ذلك فإن الساحة السورية ستغدو مثالاً أليماً لما عبّر عنه المسرحي الإيرلندي
"صموئيل بيكيت"، عام 1953، في مسرحيته الشهيرة "انتظار غودو":
"... لا أحد يأتي ... الوضع مقرف! ...". هذا هو حال المشهد السوري إنْ
بقيتْ روح المبادرة على مستوى النخب المعارضة مكبوتةً حتى إشعارٍ آخر، وإنْ بقي مستقبل
الوطن مرتهناً لـمُخَلِّصٍّ ما، يأتينا يوماً ما من مكانٍ ما: حينها لا تغيير في
الأفق سوى في عدّاد الضحايا الذين يرحلون عنا كل يوم، وفي حجم الخراب والتدهور
الذي يستنزفنا ويُبْقِينا على هامش التاريخ.
لقراءة المقال من موقع الصحيفة يرجى الضغط هنا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق