لقراءة المقال من موقع الصحيفة يرجى الضغط هنا
جنودٌ يسجدون جماعةً على التراب، سواعدُ تحمل الرشاشات والسيوف،
أَعْلامٌ بألوانٍ شَتّى ترفرف في ساحات الوغى، شاباتٌ يتباهَيْن بالتقاط الصور
التذكارية مع خُوَذِ العسكر والدبابات: هذا ما يعرضه الإعلام الذي يغطّي الأثير
السوري، الرسمي وغير الرسمي، الموالي والمعارض. يمتزج هذا العرض مع صيحات الله
أكبر واستجداء الرموز الدينية، في محاولةٍ هذيانيةٍ لإضفاء قداسةٍ على العنف، في
سبيل الوصول إلى شرعنةٍ لهذا العنف؛ علّ ذلك يزيل عنه نجاسة الجريمة ودنس الكبائر.
يَضُجُّ المشهد السوري الحالي، بصرياً وسمعياً، بجرعةٍ
عاليةٍ من البروباغندا العنفية التي تُؤَدْلِجُ السلاح، وتقدمه كوسيلةٍ وحيدةٍ بلا
بدائل، كضمانةٍ حصريةٍ للأمل، وكبوصلةٍ تدلنا على الحلم المنشود. لم تكن
البروباغندا العنفية، على مدى عقودٍ من الحكم الاستبدادي، غريبةً عن المشهد
السوري. لكن، مع اندلاع الصراع العنفي الحالي، وصلتْ هذه الروباغندا إلى مستوياتٍ
حَوَّلَتْ معها العنف إلى هدفٍ عبثيٍّ قائمٍ بذاته، وجعلتْ من السلاح وَثَناً يجثم
على جماجم السوريين، ومرجعيةً مطلقةً تحدِّد الفرز والإقصاء وسفك الدم. فقد غَدَتْ
عبادة السلاح/الوثن طقساً يحدِّد الاصطفاف، ويحدِّد عمق الولاء لهذا الاصطفاف (مع
النظام أو الثورة)، كما لم يعد تأييد القتل كافياً كي تكتمل فروض الطاعة للسلاح/الوثن
المتعطش للدم: لا بد من تفريغ القتل من كونه جريمةً، وتحويله إلى حدثٍ سعيدٍ في
سياق جنونٍ جماعي، لا بد أن نعيش البهجة/النشوة بارتكاب القتل!
لهذه البروباغندا العنفية مستلزماتٌ يُوَظِّفُها عرّابو
السلاح من كل الأطراف: الصوت العالي المشفوع بالضرب على الطاولة، الحديث عن الدعس
والحديد والنار، السخرية من كل صوتٍ يدعو لحقن الدم، تأجيج مشاعر الكراهية والثأر،
التحليلات العسكرية ذات الخيال المجنح والمثير للشفقة، التبجُّح المستمر بتحقيق
الانتصارات الميدانية، والضجيج الإعلامي المحيط بكل ما سبق؛ ممارساتٌ تقدِّم في
مجموعها برهاناً على فشل السلاح في تحقيق ما أُريد له أن يحقِّق. ألا يعتبر ارتفاع
منسوب البروباغندا/الأدلجة دليلاً على استعصاء الحلم؟ وعلى عجزه عن التحقق؟ ألا يتخلّى
الحلم حينها عن كونه حلماً؟ هنا يُمْسَخُ الحلم، الساعي إلى رفاهية الإنسان، في
كابوسٍ يغتال هذه الرفاهية ويهمِّشُ الإنسان. يحتجب الكابوس، كي يستمر، خلف قناعٍ سميكٍ
من الكذب الـمَسْبُوك في مصطلحاتٍ خطابيةٍ كبرى (وطن، ممانعة، مقاومة، ثورة، شعب، جيش
إلخ)؛ لا يجمع هذه المصطلحات عملياً سوى استعباد الإنسان، واستخدامه كمجرد شيءٍ،
خدمةً للكابوس.
قد تكون القناعة الـمُضْمَرة لدى كل الأطراف بفشل الخيار
العنفي، وعدم قدرتها على تخيُّل أي خياراتٍ أخرى، من الأسباب التي تدفع إلى عدم
الاعتراف العلني بذلك الفشل، ما يؤدي إلى مزيدٍ من التدهور في كارثةٍ مصبوغةٍ
بالدماء. نظرةٌ سريعةٌ على الإحصائيات المتراكمة كفيلةٌ بتوضيح عمق الكارثة
وفظاعتها. فبين منتصف آذار 2011 وبداية آب 2011، أي في الفترة التي كانت ممارسة العنف
مقتصرةً عموماً على النظام، كان هناك 1668 ضحية بمعدل 374 ضحية شهرياً. وفي
المرحلة الأولى من العسكرة بين آب 2011 ونهاية حزيران 2012 (الذي شهد انعقاد
جنيف1) كان عدد الضحايا 12930، أي 1175 ضحية في الشهر. أما في المرحلة الثانية من
العسكرة، والتي كانت بين تموز 2012 وحتى تاريخ إرسال هذا المقال للنشر، فقد فقدت سوريا
65713 ضحية، أي أكثر من 80% من الضحايا السوريين بمعدل 3865 ضحية شهرياً.
لا تشمل هذه الأرقام المأخوذة من مركز توثيق الانتهاكات (وهو
من المصادر الـمُتَحَفِّظَة والدقيقة نسبياً في جمع المعلومات) آلاف الأجانب الذين
يتوافدون كي يدعموا الأطراف العنفية تحت مسمّياتٍ مختلفة. أما فيما يتعلق بالضحايا
السوريين المحسوبين على النظام فقد أورد مركز توثيق الانتهاكات أسماء 11742 ضحية. وعلى
خلاف ذلك يذكر ديفيد كول، في مقالٍ عن سوريا نشرته مجلة نيويورك لمراجعة للكتب في
الذكرى الخمسين لتأسيسها، يذكر إحصائيةً، بالاعتماد على المرصد السوري لحقوق
الإنسان، عن "تصنيف" الضحايا السوريين الذين سقطوا خلال الصراع العنفي
في سوريا: حيث يشكل السوريون المحسوبون على النظام (جيش نظامي وميليشيات غير
نظامية) 41%، في حين تشكل المعارضة السورية المسلحة 20%، والمدنيون السوريون 39%
من مجموع الضحايا الذين تجاوزوا 115000 حتى خريف 2013.
مرعبةٌ هي هذه الأرقام الـمُشْبَعَةُ برائحة الموت،
لكنها أضعف من أن تملك القدرة على دفع عرّابي السلاح إلى مراجعة مواقفهم
وتبريراتهم (مع أن تفسير الميل الفظيع نحو ممارسة العنف يحتاج دراسةً نفسيةً
وثقافيةً معمّقة، تتجاوز التبريرات السطحية التي اعتاد عليها صنّاع الخطاب السائد
في النظام والمعارضة). وتأتي الوقائع على الأرض، لمن يَوَدُّ أن يراها دون تحيّزٍ أيديولوجي،
لتعرّي قباحة المشهد: علاقاتٌ نفعيةٌ بين المسلّح والسلاح وتاجر السلاح، تواطؤٌ
على استمرار الأزمة والـمَقْتَلَة، تكاثرٌ للتجمعات العنفية المحسوبة على النظام والمعارضة،
فتح البلاد أمام المقاتلين الأجانب والمتطرفين من كل الأطراف، مع ما يفرزه كل ذلك
من انشطاراتٍ في المجتمع الهش، وهدرٍ ودمارٍ وخسائر. ولهذا يبدو أن المركز السوري
لبحوث السياسات لم يجانب الصواب حين اختار عبارة "حرب على التنمية"
عنواناً لتقريره الأخير حول تطورات الأزمة.
أما على المستوى "الثوري" فقد أسهم السلاح في
تهميش الحقوق في معادلة الصراع: ففي سياق العنف المجنون لا تكون الغلبة عادةً لصاحب
الحق، بل للأقوى تسليحاً وسطوة. يضاف إلى ذلك دفع التطرف إلى واجهة الحدث
والاهتمام الدولي، باعتبار أن محاربة التطرف له الأولوية على حساب الحراك الشعبي.
أخيراً، قد يكون هجاء العنف مدعاةً لسخرية أمراء الحرب
وعرّابي السلاح ومن يتبعهم في النظام والمعارضة، لكن من المؤكد أن استمرار هذا
العنف، وعدم السعي نحو وقفه، وتخوين صوت العقل وإرادة الحياة، سيجعل من النماذج
الدموية التي شهدها التاريخ القريب (لبنان، العراق، يوغسلافيا، الكونغو إلخ) نزهةً
قبالة ما يحدث وسيحدث في سوريا. وبعيداً عن كل المخاوف والتحليلات، تبرز حقيقةٌ
أليمةٌ؛ حقيقةٌ ندركها، مع أننا مولعون بالكذب على أنفسنا كي لا نصدقها: في هذه
الأرض، وفي ظل هذه الأزمة العنفية، كلُّ السوريين خاسرون. وحتى إشعارٍ آخر: لا
انتصار في سوريا سوى انتصار الموت.
لقراءة المقال من موقع الصحيفة يرجى الضغط هنا
لقراءة المقال من موقع الصحيفة يرجى الضغط هنا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق