أشلاءُ الطفلِ المَرْمِيَّةُ تحت السرير



صدقاً لم يعد هناك ما يُكتب، لم يعد هناك معنىً لما سيكتب. فالموت يُعَرْبِدُ في كلِّ الأركان، ويقفز مَرَحاً على الأطراف المقطَّعة. يحصد عبادَ الله كبيدرٍ من الشعير، ويتجشأ قيحاً، وينظر صوب السماء ليستهزئ بالله. أما الدمعُ الجاف فيصبغُ وجه السماء العارية، ويمزق خرقةً باليةً تستر عورة الفضيلة، وقباحة البشر.
في حلب، دفاتر الإجرام مُتْخَمَةٌ بالإجرام، بسطورٍ ثَمِلَةٍ بالدماء، بالأخبار العاجلة ذات الشريط الأحمر، بأرقامٍ تتسابق مع عدد شواهد القبور. في حلب، تتجلّى بهائمية نظامٍ بدائيّ. براميل الحقد الأسود؛ همجيةٌ تمحو كلَّ ما يمكن أن يُكتب، تهدم كلَّ ما يمكن أن يُبنى، وتجبر الإنسان على التساؤل عن أفق القذارة الذي لا ينتهي.
في حلب، الأزقة الفارغة تبكي. المدارس المهشمة تبكي. أبواب البيوت المدمرة تبكي. فناجين القهوة بآذانها المكسورة تبكي. المصاحف والأناجيل والصُّحف، وكتب الملحدين المقدسة تبكي. لا يمكن لسلطةٍ أو نظامٍ أو ثورةٍ أو جاهٍ أو منصبٍ أو إلهٍ أن يستحق كل هذا البكاء. كيف؟ إلى أين؟ ولماذا؟ لا أعرف. لكن الكلفة التي تدفعها سوريا بكيانها وتاريخها وفقرائها ومعذبيها وعاشقيها أكبر بكثيرٍ من كلِّ المسمّيات، ومن كلِّ الأقنعة، ومن كلِّ الأكاذيب والتُّرَّهَات ...
وسط هذا الألم الذي لا يهدأ، وسط آهات المعذّبين من فقراء وبسطاء الوطن، أدركُ حقيقةً أولى: البلاء القادم أشدُّ وَطْأةً. الموت مُصِرٌّ على الانتقام من هذه البقعة من الأرض، ربما لأن الله قد تخلّى عنها. أدرك حقيقةً ثانية: كلُّ تأخيرٍ في إيقاف هذا الجنون، كلُّ مزاودةٍ، وكلُّ ندْبٍ وتهليلٍ أجوف للإبقاء على هذا الجنون، يعني أن مزيداً من الأرواح البريئة ستُزْهَقُ مجّاناً في مذبح هذا الهُراء العبثي، وأن مهرجانات الدم لن تتوقف: سادية المتفرج البعيد مستمرةٌ في نشوتها بنقل الخبر، وبالتفاخر بعدد الشهداء، وبالغوص في مستنقع الانتصار الذي لا يمكن أن يكون إلا هزيمة.
لا أدري كيف ينام دُعاة الدم والحقد. كيف لهم أن يضعوا رؤوسهم على الوسادة بعد كل هذا؟ ألا يختنقون بالدم المتخثر في أنوفهم؟ متى ستهزهم دموع الطفل اليتيم؟ متى سيفكرون بالانتحار؟ أطلبُ منهم، من كلِّ دُعاة الدم والحقد (في النظام أولاً والمعارضة ثانياً)، أن يكفّوا عن التباكي، أن يكفّوا عن ذَرْفِ دموع النفاق. أطلب منهم أن يمتلكوا الشجاعة لمرةٍ واحدة، ليقفوا قبالة المرآة ويبصقوا في صُوَرِهِم، ويصرخوا في أنفسهم: نحن مجرمون، نعم. نحن قَتَلَة، ولنا من أرواح الضحايا نصيب. أما البرهان ففي الدماء التي تسيل على سواعدنا، وأشلاءِ الطفلِ الـمَرْمِيَّةِ تحت السرير.  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق