حول فقاعات التدخل العسكري الغربي في سوريا - مقال منشور في صحيفة القدس العربي


(من رسم الفنان رينات شينغاريف)

احتلَّ التهديد بالتدخل العسكري الغربي في سوريا، واجهة الحدث الإعلامي عدة مراتٍ خلال السنتين الماضيتين، وذلك في سياق سلسلةٍ من الأحداث التي تسهم في تفتيت المجتمع السوري. ومع أن هذه التهديدات قد وصلتْ حَدّاً غير مسبوقٍ مع الضربة الأمريكية المزعومة، بُعَيْدَ الاستخدام الفظيع للأسلحة الكيماوية في ريف دمشق، إلا أنها ما لبثتْ أن خَفَتَتْ خلال أسابيع نتيجةً لاتفاقٍ على تفكيك ترسانة تلك الأسلحة.
وكما تمّت الإشارة في مقالاتٍ سابقةٍ (القدس العربي 29 آب 2013 - الحياة 30 آب 2013 ) فالضربة المزعومة، على رغم كلِّ الفقاعة التي أحاطتْ بها، لا تَتَّسِمُ بالجدية، بل تنضوي على كمٍّ هائلٍ من الصفقات والتنازلات التي يقدمها نظام الاستبداد على حساب سوريا وشعبها. وعلى خلاف ما يحلو للبعض أن يُرَوِّجَ له، فإن مثل هذه التهديدات لا تنبع من جَزَعٍ على دماء وآلام الشعب السوري من قريبٍ أو بعيد. لكن يبدو أن التضخيم الإعلامي الذي رافق الضربة المزعومة مؤخراً كان شديد الوطأة ما دفع بكثيرٍ من "المثقفين" و"السياسيين" السوريين وغيرهم، ممن يعتمد على الإعلام والتصريحات الاستعراضية كمصدرٍ للمعلومة والحضور السياسي، إلى ركوب الموجة. وقد وصلت الجرأة ببعضهم حدَّ إعطاء تواريخ ومواعيد محددة لهذه الضربة، وللأهداف التي سيتم تدميرها، حتى ليخيل للمراقب أنهم جالسون في عقر دار الإدارة الأمريكية (التي كانت، على الأرجح، تضحك في سرِّها على سذاجة "مثقفي وسياسيي" المنطقة).
قد يبدو الحديث عن التدخل الخارجي في سوريا قضيةً لا طائل منها، فمثل هذا التدخل حاصلٌ بحكم الواقع كما في الميليشيات والعناصر غير السورية التي تقاتل مع أو ضد النظام. وفي حين تُبْقِي الدول العظمى جزءاً مهماً من خيوط اللعبة في يدها، تتكفل هذه الدُّمى في النظام والمعارضة بسفك دماء السوريين، وتخريب سوريا وفتح أبواب "إعادة الإعمار"، مع المحافظة على الصراع داخل الحدود (وفقط داخل الحدود). فهل يرغب الغرب فعلاً بالتدخل؟ لماذا عليه أن يرسل جنوده؟ أو أن يدفع كلفة العتاد؟ أو أن يتحمل ضغوطات الرأي العام الغربي بخاصة بعد الصيت السيء للتدخل في العراق؟ السياسة الدولية خاويةٌ من الاعتبارات الأخلاقية، ومع أخذ إسرائيل والوضع الجيوسياسي في عين الاعتبار، نجد أن التدخل العسكري الغربي في سوريا قضيةٌ فيها كثيرٌ من العبث واللاواقعية، وورقة ابتزازٍ خطابيٍّ يتلاعب بها كثيرٌ من اللاعبين في المشهد السوري.
لكن أحياناً قد تنبئنا المواقف من حدثٍ ما بما هو أكثر أهميةً وخطورةً من الحدث بحدِّ ذاته. وهذا ما ينطبق لحدٍّ ما على الفقاعة الإعلامة التي أحاطتْ بالضربة الأمريكية المزعومة، وبموضوع التدخل العسكري الغربي عموماً. فما يدعو للإحباط هو ذلك الحضور القوي والمركزي "للكذب" في المشهد السوري، وعلى لسان من يفترض بهم أن يكونوا نخباً مثقفة: كم مرةً خرجوا على الشاشات كي يكذبوا على شعبٍ يعيش كارثةً حقيقية؟ كم مرةً خرج أبواق النظام وهم يقولون "خلصت"؟ وكم مرةً خرج نجوم المعارضة وهم يتحدثون عن "ساعة الصفر"؟ كم مرةً قدّموا "التدخل العسكري الغربي" وكأنه استهدافٌ مؤامراتيٌّ لمواقف الممانعة؟ أو كأنه قطعةٌ من الفردوس المفقود التي ستحقق الأحلام؟
لكن المخيف أكثر هو وجود "جماهير" مستعدة لتصديق هذا الخطاب الكاذب دون أن تنزع الغطاء عمّن اعتاد صنعة الكذب خلال سنتين. إذ يبدو أنه ليس مهماً عدد المرّات التي تم الكذب فيها، وليس مهماً إن كانت الكذبة ذاتها مُكَرَّرَةً ورخيصةً وساذجة، ما يهم أن تكون الكذبة تدغدغ المشاعر، وتُسْمِعُ من يتلقاها ما يريد سماعه: فالمستمع يود الحصول على تخديرٍ بالكلمات المجبولة بالأحلام الوردية، دون أن يعي أن مثل هذا "الكلام" يبقى "كلاماً" لا يؤثر على مسارات الأحداث، ولا يغير من الواقع المر. ويخبرنا ما سبق أن العقلية السائدة لم تدركها الثورة بعد، إذ ما تزال تعيش يأسها، وما تزال تتخبط في مراهقتها السياسية وشعبويتها المبتذلة، فتغيب الحكمة عن المشهد، وتستند المحاكمة في قضايا الدولة –إنْ وُجِدَتْ مثل هذه المحاكمة أصلاً- على الأقاويل والشائعات والأحقاد والغرائز، ويغدو مستقبل الوطن في عهدة مجموعاتٍ متفرقةٍ من العنفيين والمتسلقين والمنتفعين والحالمين والسذج والنجوم الذين يتم تلميعهم إعلامياً.
ما يستدعي التوقف عنده أيضاً هو مواقف السوريين التي أحاطتْ بالتهديد بهذه الضربة، والتي اختلفت، كما هو متوقعٌ، في شكلٍ حادٍّ وصداميٍّ لتعكس عمق الانقسام الموجود أصلاً في المجتمع السوري الـمُنْهَك. فقد كان لافتاً، على سبيل المثال، أن نرى تلك اليقظة الفجائية لبعض المؤيدين الذين ما فتئوا يتجاهلون صواريخ النظام وهي تنهال على إخوتهم في الوطن، ويتجاهلون وجود ميليشياتٍ غير سوريةٍ تقاتل مع نظامٍ يدّعي حماية السيادة. كما كان مؤسفاً أن نتابع حالة اليأس التي تمكنت من بعض "المعارضين" و"الثوار" في صورةٍ تتناقض جوهرياً مع فكرة الثورة وتلغيها.
يجدر الانتباه أيضاً إلى بروز قطبين متطرفين من "المثقفين". فهناك "المثقفون المؤدلجون"، أصحاب الخطاب الخشبي العتيق، والشوفينية المتجذرة، ورهاب الآخر، أولئك الذين يُحَرِّمُون التدخل الأجنبي، ويَغُضُّون الطَّرْف عن الفظائع التي يرتكبها النظام الفاشي والسلطة المتطرفة المتشبثة بكرسي الحكم. وهناك النسخة السورية من "المثقفين الجلبيين" الذين يواكبون الحداثة عبر معاكسة (وفقط عبر معاكسة) أولئك الذين يعترضون على التدخل، دون أن يمانعوا كيْدياً بجرعة قتلٍ إضافيةٍ طالما أنها بيد الأجنبي أو التطرف الإسلاموي؛ مع أنهم يوقنون أن ذلك لن يوقف دوامة القتل في الأساس.
وهنا بات التمسك بالوطنية السورية (الهشّة والمتهتكة أصلاً) مدعاةً للتنابذ والانتقاص، وشتيمةً يوجهها البعض وهم يتسهزؤون "بالوطنيين". ففي بعض المحافل صارت كلمة "وطنجي" توصيفاً يُقْصَدُ منه اللمز والازدراء. ولا تنطلق أغلب هذه المواقف من مراجعةٍ فكريةٍ/سياسيةٍ لمعاني الوطنية في سياق القرن الحادي والعشرين (وهي مراجعةٌ مطلوبةٌ على أيِّ حال)، بل من اتهامٍ يضع كل رفضٍ للتدخل الغربي في خانة التخشب والأدلجة وتأييد القتل والقمع الذي يمارسه النظام السوري! لكن على عكس هذا الاتهام السطحي والمراهق، تشير النظرة المتأنية إلى أن من رفض الضربة، ورفض قبلها وما زال يرفض قمع وجرائم النظام وأشباهه، هم الأقل انتقائيةً والأكثر انسجاماً مع مواقفهم، على الأقل من خلال اتخاذهم للقيم الـمُجَرَّدَة مرجعيةً وبوصلةً لهم.
أخيراً، يبقى الأمل في أن نخرج، نحن السوريين، بدروسٍ مستفادةٍ من ملف التدخل الخارجي (وغيره من الملفات الإشكالية التي ملأت فضاء الأثير العام)، وأن ندرك أنه ليس سوى ملفٍ لعبت به كثيرٌ من القوى على سبيل الابتزاز، وبهدف إطالة عمر الكارثة وتعميقها، واستنزاف الوطن وأبناء الوطن، مع المحافظة على الاستعصاء القائم دون حسم. عدا ذلك ستبقى سوريا وشعبها في عهدة نزاعٍ عبثيٍّ ودمويٍّ بين نظامٍ مجرمٍ ومعارضةٍ فاشلةٍ وحراكٍ مشتتٍ وقوىً متطرفة، يضاف إليها صراعات القوى الإقليمية والدولية ذات المصالح المتضاربة. 

الاقتتال الأهلي وسؤال الضحية والجلاد في سورية - مقالٌ منشورٌ في القدس العربي في حزيران 2012





نشر هذا المقال في صحيفة القدس العربي في حزيران 2012
هو الشاعر الراحل محمود درويش ذاك الذي يقول في "مديح الظل العالي": "بيروت قصتنا، بيروت غَصَّتنا، وبيروت اختبار الله". يبدو أننا في زمانٍ تجاوزنا فيه غَصَّة بيروت، لتصبح فيه سورية غصتنا. فكلُّنا يتابع شلال الدم القادم من سورية، منذ انطلاقة الانتفاضة في مارس/آذار 2011، وكلُّنا يرْقُبُ سلوك اللاعبين الأساسيين في المشهد السوري المعقّد. فهناك النظام ولغته القمعية والاستبدادية، والمعارضة الميدانية بزخمها العفوي والمنتشر، والمعارضة السياسية بأدائها البائس والمراهق. يُضاف إلى ذلك مجاميع مسلحة تحت مسمياتٍ مختلفة، منها ما يدافع أو يهاجم باسم الانتفاضة، ومنها ما يحمل صبغةً جنائيةً أو ميولاً متطرفة، ولكن ما يجمعها هو أنها غير مجتمعةٍ تحت قيادةٍ موحدة.
لكن ما حدث ويحدث مؤخراً في منطقة حمص، وخاصة في ريفها، ليس سوى نذير شؤمٍ حقيقيٍ يجب أن يُؤخذ بكثير من الجدّية والحكمة. إذ تشهد هذه المنطقة المعروفة بنسيجها المعقد والغني، توتراً متصاعداً، وحالة احتقان، وعنفاً متبادلاً، واصطفافاً أهلياً تبعاً للولاء السياسي أو الانتماء الطائفي. وتتحدث آخر الأخبار المتضاربة والواردة من هناك، والتي لم يخرج معظمها على الإعلام، عن مجازر وصداماتٍ واعتداءاتٍ أهلية بحتة، على شكل كرٍّ وفرٍّ، بين أبناء القرى الصغيرة المتجاورة والمتداخلة، يرافقها أو يُؤجِّجها تصعيدٌ أرعنٌ من قوات النظام الرسمية وغير الرسمية التي لا تستوعب سوى لغة العنف. ولم تكن "مجزرة الحولة" الرهيبة، التي ينْدى لها جبين الإنسانية، أولى تلك المجازر التي حدثتْ في سورية، والتي نشعر بالذعر والألم من أن تتحول إلى حدثٍ متكرر. ويشير كل ذلك وبشكل جليٍّ إلى تحولٍ في المعادلة القائمة في البلاد من صيغة "نظام ضد معارضة"، إلى صيغة أكثر تعقيداً تشتمل، بالإضافة إلى ما سبق، على "شرائح أهلية ضد شرائح أهلية"، مما يُدخِلنا في حربٍ أهليةٍ باردة وغير معلنة، ويدفع إلى التحذير الواضح من خطر تحولها إلى حربٍ أهليةٍ مدمرة لا تُبقي ولا تذر.
ولا يجوز التعامي عن هذا الخطر، أو الاستهتار به تحت شعارات من قبيل "الشعب السوري لا يمكن أن يقع في حرب أهلية". فنحن نعيش ظروفاً مختلفة وغير مسبوقة في تاريخنا، و"الشعب السوري" في النهاية من لحمٍ ودم، خاصةً في ظل الظروف الأليمة التي تمر بها البلاد، والتي تسْتَثير الغرائز وتُغيِّب العقل. فالسلطة المستبدة مستمرةٌ في قمعها بعد أن فقدت أهليتها في إدارة البلاد ناهيكم عن إدارة الأزمة، ووضع المعارضة السياسية لم يرقَ بعد إلى مستوى من النضج السياسي يؤهّلها للاشتغال الجدّي واجتراح الحلول بعيداً عن النحيب والصراخ على الإعلام. وقد حوّل ذلك سورية إلى ساحةٍ يسودها العنف، وإلى بيئةٍ خصبةٍ لجذب وترعرع التطرف التابع لمسلحي النظام الرسميين وغير الرسميين، أو بعض الأطراف التي اضطُرَّتْ إلى حمل السلاح، أو تلك التي ركبت الانتفاضة لدواعٍ جنائية بحتة. أضف إلى كل ذلك حالة الغضب العارمة وغياب العدالة المزمن التي يعاني منها المجتمع السوري بشكلٍ عام، والمجتمعات الريفية المحلية ذات البنية التقليدية والبسيطة بشكلٍ خاص.
سيقودُنا التحليل العام للمشهد السوري بطريقةٍ موضوعيةٍ إلى توجيه الاتهام إلى السلطة القائمة، وتحميلها تبعات ما وصلتْ إليه الأمور باعتبارها المسؤول الأول والأخير من حيث كونها، حسب ادعاءاتها، سلطة. ولا تقتصر مسؤولية السلطة على ما جرى خلال الشهور الماضية من عمر الانتفاضة، بل تتعداها لتشمل حقبةً امتدت على مدى عقود، وشكَّلتْ جذوراً خصبة لما نعيشه اليوم.
وبسخريةٍ مُهينةٍ ممزوجةٍ بطبقيةٍ طفيليةٍ ولا مبالاة يعمد النظام إلى نَعْتِ الجماهير المنتفضة، على طريقة الكاوبوي الأمريكي، بأنهم مجرد "إرهابيين" يستحقون القتل والسحق! مع أن هؤلاء "الإرهابيين" كانوا يموتون ببطءٍ دون أن يشعر بهم أحدٌ طيلة عقود. مما يطرح سؤالاً هاماً حول "الإرهابي" أهو جلادٌ أم ضحية؟ ومن الذي يمتلك الحق أصلاً في إطلاق هذا اللقب على من؟ وهل هناك قتلٌ مسموحٌ وقتلٌ ممنوع؟ تستحق هذه الأسئلة أن نقف عندها برهةً، لا لنبحث عن إجابة، بل لنستوعب عمق وألم المأساة الثقافية والأخلاقية التي نواجهها، والتي سنواجهها. مأساةٌ لا يمكن علاجها إلا بمقاربةٍ ثقافية اجتماعية شاملة نابذة للعنف والدم، تُعْلي من قيمة الإنسان، وتنشر ثقافة الحياة والبناء، لا صناعة القتل والموت.
لكن انتقال الصراع في المشهد السوري إلى المستوى الأهلي البحت، قد زاد من الألم، ونقل البلاد إلى مرحلة جديدة تنذر بالخراب، مما يجعل من عمومية "سؤال الجلاد والضحية" التي تطرحه كل الأطراف سؤالاً عبثياً بكل معنى الكلمة. إذ من السهل على كل طرفٍ من الأطراف الأهلية المتصارعة أن يُبرّر موقفه، وأن يتشنج في الدفاع عنه. ويؤدي ذلك إلى استخدام هذا المنطق التبريري في ارتكاب المزيد من الممارسات الدموية اللامنطقية، مما يُدخلنا في دوامةٍ لا تنتهي من "العنف المبرر" الذي "لا يمكن تبريره" أخلاقياً، مما يذكّر بمقولة الفيلسوف وعالم الاجتماع زيغمونت بومان: "لا توجد ضحية كانت في منأىً من أن تصبح جلاداً"، حيث تذوب في دوامة العنف الأهلي مفاهيم الجلاد والضحية، ليغدو الجميع ضحيةً لاستبدادٍ يتولد ويتمدد ذاتياً.
ومرةً أخرى تبرز قبالتنا عبثية التحليل، ونحن نصطدم بألم المشهد، الذي يمجّد الجنون والغرائز، ويغيّب العقل ويغتاله. فقد انتشر خطابٌ طائفيٌ تحريضيٌ بدأنا نتلمس آثاره كالنار في الهشيم، كما تم الإعلاء من صوت الغريزة ومشاعر الثأر الجاهلي البغيض. ولكن ألا يجدر بنا، في وجه هذا الألم، أن نكون فاعلين فنعالج جذر المأساة (النظام وعنف النظام وما تلاه من عنف مضاد)، عوضاً عن الارتهان والانزلاق لردات الفعل؟ لقد وصلنا إلى منطق اللامنطق، في مرحلةٍ عصيبةٍ نحن في أمس الحاجة فيها إلى العقل. وفي ظل الألم تنطلق المحاولات الأهلية للحفاظ على السلم الأهلي ومنع تدهور الوضع، كان آخرها نجاح المصالحة بين حوران السهل وحوران الجبل، وكلنا أملٌ أن تتكلّل المساعي في ريف حمص بالنجاح، لكن تسارع الأحداث يفوق قدرة القوى السياسية والأهلية الفاعلة في داخل البلاد على مجاراتها.
أسْتحضرُ أخيراً مقولة الفيلسوف جورج سانتايانا: "الذين لا يتذكرون الماضي يكررون أخطاءه ذاتها"، والتاريخ القريب والبعيد في منطقتنا مشبعٌ حتى التخمة بمشاهد الألم والدماء. فمن عصر البسوس و"أيام العرب"، إلى لبنان والعراق، حروبٌ أهليةٌ تطحن معها الأبرياء، وتغتال معنى النصر، ليخرج منها الجميع وهم خاسرون. فهل سيُسْعِفُنا الماضي في تعلم الدرس؟ أم أننا، كما وصف هيغل الجنس البشري، لا يمكن لنا أن نتعلم من التاريخ؟

تمكن قراءة المقال من موقع الصحيفة بالضغط هنا.


حين نغدو ضحيةً لأمراضنا



هل بقي للألم من متسعٍ في قلب وعقل من يتابع المشهد السوري؟ ملايين المشردين واللاجئين، وعشرات آلاف الضحايا، ومئات آلاف الجرحى والمعتقلين والمعذبين. قمة البؤس تكمن في المثقفين السوريين الذين أثبتوا تفاهةً منقطعة النظير، وغياباً بائساً في الحس بالمسؤولية. ركامٌ من الحشو الكلامي، سلاسل من الشتائم، خطابٌ طائفيٌّ عميم، تهافتٌ في الوطنية السورية، انقيادٌ قطيعيٌّ وراء شارعٍ يبحث عمن يقوده، إلى أن تم رهن الدولة للفوضى والعماء، ذلٌّ ما بعده ذل.
أما الكذب والكَيْدِيَّة والنرجسية فهي من السمات الكبرى والعلامات الفارقة الدالة على "المساواة" بين معظم اللاعبين في المشهد: من أصحاب الشراويل الأفغانية إلى أصحاب ربطات العنق، ومن حملة الشهادات العالية إلى الأميين، ومن غيلان الفساد والاحتكار إلى من يحلم بأن يغدو من غيلان الفساد والاحتكار – كيف لا وقطاعاتٌ واسعةٌ من المجتمع قد خضعت لتصحيرٍ فكريٍّ وأخلاقيٍّ ممنهجٍ في مدرسة نظام الأسد البائسة والفاشية؟ عقودٌ من التدجين والتعليب الفكري كفيلةٌ بتخريج مثل هذه النماذج البائسة من المهرجين، وعقودٌ من الاستبداد والتجهيل والتفقير كفيلةٌ بحشو المجتمع بقنابل موقوتة تنفجر لتطيح بالمجتمع والوطن.
هؤلاء أنفسهم، الذين أعموا أبصارنا بالتخوين والكذب والمزاودات، الذين حقنوا الشارع السوري المنشطر حتى الصميم بالأحلام والدم، هؤلاء أنفسهم سيبدؤون عملية التكويع – طبعاً حسب إملاءات من بيده الخيوط التي يحرّك بها تلك الدمى التي تم شراؤها من قبل الروس والأمريكان. النظام خادمٌ ذليلٌ عند أسياده الروس والإيرانيين، قسمٌ واسعٌ من المعارضة مرتهنٌ بابتذالٍ لأولئك الذين يعادون من يساند النظام. وفي الحالتين فالقوى الكبرى غير معنية من قريب أو بعيد بعيون الشعب السوري.
كلام الليل يمحوه النهار، وكلام النهار يمحوه الليل، ليبقى الكلام كلاماً، أما الفعل فهو حكرٌ على غير السوريين ممن يملك القدرة على الفعل! أما القطيع المؤدلج في صيغته الـمُرَفَّهة أو المسحوقة، الغنية أو الفقيرة؛ القطيع الذي أدمن العبودية لشيءٍ ما على هذه الأرض، فهو مستمرٌ بالتصفيق، حتى الموت، دون أن يتعظ ودون أن يفكر لوهلةٍ إلى أين يمضي!
تبرز في خضم هذا الضجيج صورةٌ أليمةٌ: هذا الوطن وهذا الشعب ضحيةٌ لأمراضه التي أُهملتْ حتى استفحلتْ، وصار الشفاء، إنْ كان هناك من شفاء، محكوماً بمرحلةٍ قد تطول من الدم والعنف العبثي والمجنون.

عقلية المُقَدَّس والمُدَنَّس في المشهد السوري - مقالٌ قديمٌ منشورٌ في صحيفة القدس العربي



(لوحة الحب المقدس والمدنس للفنان الإيطالي تزيانو فيتشيللي المعروف باسم تيتيان (ت. 1576))

ملاحظة: تم نشر هذا المقال في صحيفة القدس العربي منذ حوالي العام في 30 تشرين الأول/أكتوبر 2012.

يُفْتَرَض أن يُحْكَمَ المشهد السوري بعقليةٍ تقوم بفرز عناصره، وفق مبادئ الصراع السياسي والأخلاقي، إلى حيّزين طموحَيْن: ضد الاستبداد أو مع الاستبداد. لكننا نلحظ نظرةً سائدةً تميل إلى اختلاق حيّزين مُصْطَنَعَيْن على مبدأ المقدّس والمدنّس، وبشكلٍ يتجاوز، ولا يتطابق، مع شروط وحدود الصراع السياسي، أو مُتطلّبات المشروع الأخلاقي المنشود.
ترتكز هذه النظرة السائدة على عقليةٍ تنطلق من المقدّس المتعالي في تعاملها مع اللامقدس الدنيوي. يحدث ذلك عبر سيرورةٍ غير واعية تبدأ بالتشبّع بالمقدّس (وهذا أمرٌ طبيعي في في المجتمعات الإنسانية)، لكن تتلوها مقاربةٌ للذات والإنسان والعالم وفق صيغٍ مقدّسةٍ ذات أبعادٍ تطهّريةٍ وشمولية. حيث تتم، نتيجةً لتلك المقاربة، مَوْضَعَة "الأشياء"، على اختلافها وتناقضها على مستوى القيم المجرّدة، في معسكرين: إما معسكر الـ "نحن" أو معسكر "الآخر". ثم تعمد في خطوةٍ لاحقة إلى إسباغ نعوت الخير الـمَحْض والخلاص الأبدي على الـ "نحن"، ونعوت الشر الـمُسْتَطير والعذاب الأبدي على "الآخر". وإذا سلّمنا أن ذلك ممكنٌ وِفْق "المعقول الديني"، ومتاحٌ على مستوى العلاقات العقائدية بين الإنسان والله، فإعادة إنتاجه في السياق السياسي سينتج "لا معقولاً سياسياً"، ولن يكون سوى ضربٍ من ضروب هذيان الوعي، وانعدام النضح السياسي، وتشويهٍ في وعي الذات والعالم، وتبعثرٍ واختلاطٍ في المفاهيم المنتمية إلى أحيازٍ معرفيةٍ لا يمكن لها أن تجتمع.
هذه النظرة لا تختلق فقط هذين الحيّزين الـمُتَوَهَّـمَيْن، بل تعمد أيضاً إلى ترسيخ نظرةٍ مغلوطةٍ حول كل حيّز، محولةً عناصره المنضوية تحته إلى عناصر متماهيةٍ ببعضها، لتُظْهِرَها في حالةٍ من التجانس الـمُطْلَق. وبالنتيجة يتم الفصل بين هذين الحيَزين بصورةٍ صارخةٍ وقطعيةٍ وأبدية، مما يرسّخ ويؤجّج اختلافاً عميقاً يمنع أي محاولةٍ ممكنةٍ لرأب الصدع. ويُمَهّد هذا لانتزاع كل صفات الخير من الحيّز الآخر، ويُشَرْعِن ويُمَجّد مواجهة الشر بالشر، ويخلق منطقاً تبريرياً أعوج مفعماً بتناقضٍ مُتَعَرٍّ أخلاقياً، ومُفْلسٍ سياسياً على المستوى الوطني. مثل هذا الاختلاف بين حيّزي المقدس/المدنس هو اختلافٌ أزليٌ وأبديٌ لا يمكن حله، في نظر من يَتَشبّع به هذيانياً، إلا بالاستئصال العنفي، ما يؤسس لجذر الصراع الوجودي الذي سعى النظام (وغيره من الأطراف) إلى فرضه على المشهد السوري باستباحته للدم، واستثارته السّادية لمشاعر وردود أفعال الشارع المنتفض.
ويمكن تتبّع أثر هذه النظرة السائدة في المشهد السوري في الشّيْطَنَة الـمُطْلَقَة للنظام أو الثورة (هذا يعتمد على الحيّز الذي ينتمي إليه الـمُراقِب)، وما يستتبع ذلك من تنزيهٍ مُطْلَقٍ للطرف الآخر. حيث يصبح حيز الـ "نحن"، وما يُفْرِزه أو يلتحق به من ظواهر، منتمياً إلى حيّز المحظور نقده، والمحرّم مساءلته، أو حتى التشكيك فيه. ويتم بعدها استحداث دائرةٍ من الخوف والوعيد والكبْت الجديد، حيث يتعرض من يتجرأ على النطق، نتيجة خروجه المزعوم على جماعة الـ "نحن"، إلى حملات تشويهٍ وفرزٍ وإقصاءٍ وتوزيعٍ لصكوك الوطنية والصفاء الفكري.
يحفل المشهد السوري بأمثلةٍ كثيرةٍ عن حضور عقلية المقدّس/المدنّس. حيث نرى هذا الحضور في أبهى صوره الرومنسية، في ظاهرة انشقاق العسكريين وغيرهم (أو العودة عن الانشقاق). حيث تتجلّى هذه الظاهرة في إعادة تشكيلٍ لظاهرة الدعوة والتبشير، والهداية من الضلال، واعتناق الإيمان، والعتق من عذاب الكفر، وذلك في سَرْديةٍ عجيبةٍ وملحميةٍ وذات بُعْدٍ بطوليٍ تضحويٍ يختلط فيها التاريخي المقدّس بإيديولوجيا الحلم، ويتم فيها إسقاط تجربة الماضي على حاضرٍ أليم. وعلى مبدأ "يَجُبُّ ما قبله"، ينتقل شخصٌ ما في لحظة، رغم فساده ورشوته في الحاضر والماضي (وربما المستقبل)، من حيّزٍ إلى حيّزٍ جديد، من حيز "الآخر" الشرير إلى حيّزنا أي إلى حيّز الـ "النحن" المفعم بالخير. وتتفاعل هذه الصيغة بصورةٍ نَشِطةٍ مع صيغةٍ معكوسةٍ بدأها النظام حين حوّل عملية القتل إلى مصدرٍ للفخر والمباهاة والمجد الفارغ وصناعة النصر الموهوم. وعليه فالذي لا يعلن انشقاقه (أو الذي يعلن انشقاقه) فهو هدفٌ مشروعٌ ودمه مُباح وذلك تبعاً للحيّز الذي يتم يتعامل معه. تغفل مثل هذه النظرة الـمُغْرِقة في التعميم عن أن من حمل السلاح في صفوف المعارضة هم ضحايا، وأن الأغلبية ممن يخدم في جيش النظام هم ضحايا. كما تغفل عن أن النظام، وغيره من الأطراف الخارجية الداعمة له، أو الأطراف الخارجية التي تدّعي دعم "الشعب السوري"، تستخدم هؤلاء الضحايا، ممن حُمِّلُوا أو حَمَلُوا السلاح، ليكونوا ضحايا لبعضهم البعض، ووقوداً لمحرقة البقاء الموهوم في السلطة، ودمار الدولة، وشحن الـمُكوّنات السكانية الأهلية بكل مشاعر البغض والحقد والثأر.
كما يمكن تتبّع حضور عقلية المقدّس/المدنّس في الاحتقان الطائفي الذي وجد في العنف بيئةً خصبةً كي يترعرع. يستند هذا الاحتقان إلى تنوع الـمُكوّنات السكانية في سوريا، وإلى وجود حالةٍ من التقوقع وعدم التلاقي بين هذه المكونات كنتيجةٍ مباشرةٍ للاستبداد الذي اعتاد اللعب على التناقضات الأهلية. يضاف إلى ذلك إعلامٌ موجهٌ، وخطابٌ شائعٌ يستغل الاحتقان الطائفي، ويُلْقي عليه هالةً من القداسة، ويعيد ترتيبه في سياق حربٍ مقدسة. وهذا أسلوبٌ شائعٌ حيث يميل الخصم إلى شَيْطَنة خصمه ويحوّله إلى "آخر" مختلف على أساسٍ وجودي، خاصةً وأن التّمَوْضع السياسي ذي الميول العقلانية قد لا يكون كافياً لشحن الغرائز، ولا بد بالتالي من مكوّنٍ أكثر بدائية، ولاعقلانيةً، لاستنهاض الأفعال، وردات الأفعال، الأكثر عنفيةً وهمجية!
ولتغلغل عقلية المقدس/المدنس في مفاصل المشهد السوري الأليم تبعاتٌ وانعكاساتٌ تُغَيّب العدالة بطريقةٍ لا مباشرة. حيث يتم الحكم على الأشخاص عبر الانتماء البحت والدوغمائي والـمُطْلق إلى الحيّز، وليس عبر نقاء السيرة والسريرة والالتزام بالقيم والفضائل المجردة، وليس عبر أفعاله وتاريخه وكفاءاته الواعدة إلخ. هذا المزج التشويهي والمخيف بين عقلية المقدس/المدنس المتعالية، وبين الدنيوي السياسي الظاهري، يخلق حالةً فصاميةً تقوم بتحييدنا تلقائياً عن العالم الواقعي من حولنا، وسلخِنا من حركة التاريخ التي اعتدنا طيلةٍ قرون أن نكون خارجها. كما يسهم هذا المزج التشويهي في ترسيخ حالة الركود المستنقعي في الأفكار، وفي وضع مفاهيم الحريات الأساسية على الرفّ حتى إشعارٍ آخر، وفي دفع المجتمع إلى الدوران في حلقةٍ مفرغةٍ مشبعةٍ بقيم ما قبل الحداثة، تصبح فيها الانتفاضة صورةً مُسْتَنْسَخةً عمّن تثور عليه.
يُلقي كل ما سبق مسؤوليةً كبيرةً على كاهل "النخب المثقفة" التي يُفْترض أن تمارس دورها في انتزاع الصراع القائم من صيغته الوجودية الاستئصالية العنفية، وإعادته إلى صيغته السياسية والأخلاقية. ولا يمكن لهذا أن يتم دون ثورةٍ ثقافيةٍ تحدُّ من تفشّي عقلية المقدس/المدنس المحكومة بمنطق الكل أو اللاشيء، وجعلها محصورةً في سياقاتها العقائدية والإيمانية، وخلق عقليةٍ حداثيةٍ بديلةٍ تُقَارِب، بصِيَغٍ مستحدثة وخَلاقة، الواقع الوطني المعاش والمحكوم بشروط اللعبة السياسية.

تم نشر هذا المقال في صحيفة القدس العربي منذ حوالي العام، وبالضبط بتاريخ 30 تشرين الأول/أكتوبر 2012. كما تمكن قراءة المقال من موقع الصحيفة.



وفي يوم العيد شوقٌ إلى العيد


(أمل - للفنان عماد عبيد)

أشتاقُ إلى تكبيرات العيد في حلب. أشتاقُ إلى ذلك المسجد العتيق، ذي المئذنة الشامخة، وإلى خشب المنبر والمحراب.أشتاق إلى لحظةِ قربٍ من الجلال، لحظةِ أمانٍ للروح المرهقة. إلى لحظةِ خشوعٍ تُذْرَفُ فيها الدمعةُ في جوف اليقين. إلى قبعات الـمسنين، ودعاء الأمهات. إلى عناقٍ مع أهلي وأخوتي، وإلى قهوة الصباح وفطور الضُّحى. إلى رائحة العيد تعبق في أركان الشارع الوديع. إلى ضحكات الأطفال، يقفزون فرحاً بأحذيةٍ جديدة، ويرسمون ربيعاً محمولاً على أعناق الملائكة، على بيادر القمح، على كل ما هو جميلٌ في هذه الأرض.
أشتاقُ وأشتاقُ وأشتاقُ، لكن هل لذا الشوق الأليم من إجابة؟ ففي يوم العيد شوقٌ إلى العيد، شوقٌ إلى فرح العيد، وشوقٌ إلى معنى العيد؛ شوقٌ إلى كلِّ ما يجعل من العيد عيداً، ويجعل من العيد رمزاً إلى حياةٍ جديدة، ومبتدأً لفضلٍ من العطاء ومزيدٍ من الأمل.
أسأل نفسي وأعيد على نفسي السؤال، مُتَدَثِّراً وقَاءَ الرّيح الباردة، وأنا أمضي إلى عملي، تحت أجنحة الخريف الرمادية: هل لذا الشوق الأليم من إجابة؟ فهذا يومٌ آخر يمضي، ليسقط ورقةً من من روزنامة هذا العام. 
يومٌ آخر يمضي ليغدو، مع كلِّ ما فيه، قطعةً من الماضي، ونتفاً من ذكريات. أما الأمل فمعقودٌ في أن تكون ذكرياتٍ سعيدةً؛ عسى أن نلجأ إليها، كما أصنع الآن، كي نختبأ فيها حين تشتد الخطوب. 

عيدٌ جديدٌ يُقْبِلُ علينا، فكل عام وأنتم بخير.



عيدٌ جديدٌ يُقْبِلُ علينا، وشرائح واسعةٌ من السوريين مُشَتَّتَةٌ بين مشردٍ ونازحٍ ولاجئٍ وجريحٍ ومعتقلٍ وضحية. سوريون منشطرون بين قاتلٍ ومقتول، بين طالب ثأرٍ وطالب ثأر، بين من مات، وبين من يعيش موتاً بطيئاً تحت الحصار والتجويع والفقر والمرض، بين من ينزف دماً، وبين من يتاجر بالدم الذي ينزف.
عيدٌ جديدٌ يُقْبِلُ علينا، والعَبَثُ يَعِيثُ فساداً في أرضنا، والقصف والذبح المجاني غايةٌ في حدِّ ذاته، وكأن أهوال العامين الماضيين لم تُشْبِعْ تجار الدم والمزاودات، وعبيد شهوة السلطة ممن يَتَشَبَّثون بالكرسي أو يحرقون وطنهم وشعبهم من أجل البقاء عليه، أو الحصول عليه.
في سوريا كارثةٌ إنسانيةٌ ووطنيةٌ تسقط أمامها الخطابيات الجوفاء، وشعارات النجوم الإعلاميين، وأحاديث الانتصار. كل هذا لا يمكن أن يعادل بكاء يتيمٍ أو مشردٍ أو أمٍّ ثكلى.
وسط هذا الألم، يُقْبِلُ العيد علينا، فعسى أن يوقظ الضمائر النائمة، ويخمد أصوات الرصاص والمدافع. عسى أن يقصَّ على أسماعنا ملحمة الفداء، قصة الرمز الجليل، ذاك الذي خلّص الإنسان من قتل الإنسان: سيرةٌ قرآنيةٌ إبراهيميةٌ فيها من الموعظة والعمق والحكمة ما يدفع من يستوعبها إلى حقن كلِّ دمِّ قربةً إلى الله (بعيداً عن بهائمية من يلوِّث "الله أكبر" جهلاً وظلماً بعد أن يستند إلى مزيجٍ تافهٍ ومتهافتٍ من العنصرية والدُّونية والكِبَر).
يُقْبِلُ العيد علينا ليذكرنا أن في هذه الأرض ما يستحق الحياة، وأن هذا الشعب يستحق الحياة، وأن الحياة مستمرةٌ رغم أنف القتلة والمجرمين.
كل عامٍ وأنتم بخير بمناسبة عيد الأضحى المبارك. أعاده الله علينا وعليكم وعلى بلادنا باليُمْن والخير.


ويستمر شلال الدم في بلدي


( وَدَّعَني طيرٌ وقال إلى بلادي أمضي - للفنانة يارا نجم)

خاطرةٌ كتبتها في أواخر عام 2012، أعيد نشرها بتصرّف:
 حَوّلوا شبابنا إلى ضحايا مزدوجة؛ للنظام المجرم الذي أذاقهم المرَّ والهوان، ولتجار الدم الذين صوّروا لهم الأمر وكأنه نزهة. ومع مرور الوقت أصبح السلاح والعنف هو القاعدة، وتحول مجرد الحديث بعقلانيةٍ لحقن الدم، في رأي السُذّج والمستهترين، إلى عمل معيبٍ ووقوفٍ مَوْهومٍ مع النظام.
الخراب يعمُّ البلد من أقصاها إلى أقصاها، ومعظم الناس تعيش في وضعٍ معيشيٍّ مُهينٍ ومُذِل. أما الاستعصاء العنفي فما يزال يراوح في المكان دون أدنى انفراجٍ، ليغيّر فقط من عدّاد الضحايا وعمق الخراب، ويتحول إلى مرتعٍ لتفريخ الجماعات المتطرفة وتكاثرها.
لن يكسر هذه الحلقة الدموية سوى تفاوضٌ يُنْهِي الألم ويحقق الآمال حتى لو كان ذلك تدريجياً، فأن تكسب رويداً رويداً خيرٌ من أن تخسر كل شيء، وقديماً قيل ما لا يُدركُ كُلُّه لا يُتْرَكُ كُلُّه. المهم في كلِّ هذا هو حفظ حق الحياة الذي استُبيح لدرجةٍ موغلةٍ في البهائمية والفظاعة، فالتفاوض وعلى كاهلنا 60 ألف ضحية أفضل بمليون مرة من التفاوض وعلى كاهلنا 600 ألف ضحية. أما كل تأخيرٍ وتلكّؤٍ فيعني أننا لم نتعلم بعد معنى الحس بالمسؤولية أو معنى الشعب والوطن، وأن الكارثة ستبقى مستمرةً تطحن بين رحاها أرواح الأبرياء.

الإنسان؛ ذلك الكائن القبيح والمتوحش!



(صورة من الدمار الحاصل في جبل بدرو في حلب في شباط 2013)

الإنسان كائنٌ فريدٌ من بين الكائنات. فهو الكائن الوحيد الذي يقتل لا ليأكل بل كي يستمتع بالقتل، هو الكائن الوحيد الذي يذبح فقط لأنه يختلف مع الآخر بالرأي. الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يتفنَّن في تعذيب بني جنسه، والكائن الوحيد الذي يعبد كرسي الحكم.
الإنسان كائنٌ قبيحٌ ومتوحش؛ قباحته كامنةٌ في أنه قادرٌ على أن يكون جميلاً (إن أراد)، وتَوَحُّشُه كامنٌ في أنه قادرٌ على أن يكون آدمياً (إن أراد)، إلا أنه يرفض كُلّاً من الجمال والآدمية، ويأبى إلا أن ينحدر في الحضيض، ويفاجئ هذه الأرض بنماذج جديدةٍ ومبتكرةٍ من الانحطاط والتفاهة والقرف.
خمسة آلاف عامٍ من عمر التاريخ المدوّن ولم يستطع هذا الكائن، المسمّى بالإنسان، أن يبتكر أدواتٍ يحل بها خلافاته دون اللجوء إلى سفك الدم، دون اللجوء إلى السلاح، دون اللجوء إلى التهجير والتشريد والاغتصاب والتنكيل.
خمسة آلاف عامٍ من الفضائح.
خمسة آلاف عامٍ من العار.
وكي نتخيل حجم الكارثة، فقط دعونا نفترض جَدَلاً بأن مخلوقاتٍ فضائيةً متطورةً قد زارتْ كوكبنا الـمُتْخَم بالتلوث والفضلات، وأكوام الجثث، وآهات المعذبين، وأصوات الجوعى، وظلم أصحاب السطوة، وطمع الانتهازيين، و و و ... بالله عليكم هل يمكن لتلك المخلوقات أن تصدِّقَ، بعد كلِّ هذه الفظائع التي ما تزال تتكرر، أن الإنسان أكثر رقياً من قطعان الضباع والجرذان؟ 

حول مشاركة الطلبة العرب في العمل السياسي


الفيديو المرفق هنا من برنامج نقطة حوار على شاشة بي بي سي العربية، حيث شاركتُ في مناظرةٍ حول "انخراط الطلبة العرب في العمل السياسي". 


وقد دافعتُ، من وجهة نظري، عن النشاط السياسي للطلبة منطلقاً من أن السياسة هي اشتغالٌ في الشأن العام في سبيل الصالح العام، وليست محصورةً فقط، كما يعتقد الكثيرون، في قضايا الحكم والصراع على السلطة أو في المصالح الحزبوية الضيقة. مع الإشارة إلى أن حرمان الحياة السياسية من مشاركة الطلبة يكرّس حالةً من العزل السلبي بين الناس، كما أنه يحرم مجتمعاتنا من رأسمالٍ بشريٍّ مهم. الصورة المغلوطة عن السياسة في منطقتنا تجعل كثيراً من أصحاب النوايا الحسنة والرؤى العميقة ينفضُّون عن المشاركة بها، ما يفسح المجال بالتالي لأصحاب النفوس الضعيفة والمتسلّقين كي يملؤوا الفراغ الحاصل ويزيدوا من تشويه وإفساد العمل السياسي. وهكذا ندخل في حلقةٍ مفرغةٍ من ازدراء السياسة كنت قد تعرضتُ لها في مقالٍ سابقٍ منشورٍ في صحيفة الحياة بعنوان: في تشويه الـمُشَوَّه: السياسة في المشهد السوري.