(من رسم الفنان رينات شينغاريف)
احتلَّ التهديد بالتدخل العسكري الغربي في سوريا، واجهة الحدث
الإعلامي عدة مراتٍ خلال السنتين الماضيتين، وذلك في سياق سلسلةٍ من الأحداث التي تسهم
في تفتيت المجتمع السوري. ومع أن هذه التهديدات قد وصلتْ حَدّاً غير مسبوقٍ مع
الضربة الأمريكية المزعومة، بُعَيْدَ الاستخدام الفظيع للأسلحة الكيماوية في ريف
دمشق، إلا أنها ما لبثتْ أن خَفَتَتْ خلال أسابيع نتيجةً لاتفاقٍ على تفكيك ترسانة
تلك الأسلحة.
وكما تمّت الإشارة في مقالاتٍ سابقةٍ (القدس العربي 29
آب 2013 - الحياة 30 آب 2013 ) فالضربة المزعومة، على رغم كلِّ الفقاعة التي أحاطتْ
بها، لا تَتَّسِمُ بالجدية، بل تنضوي على كمٍّ هائلٍ من الصفقات والتنازلات التي
يقدمها نظام الاستبداد على حساب سوريا وشعبها. وعلى خلاف ما يحلو للبعض أن يُرَوِّجَ
له، فإن مثل هذه التهديدات لا تنبع من جَزَعٍ على دماء وآلام الشعب السوري من
قريبٍ أو بعيد. لكن يبدو أن التضخيم الإعلامي الذي رافق الضربة المزعومة مؤخراً
كان شديد الوطأة ما دفع بكثيرٍ من "المثقفين" و"السياسيين"
السوريين وغيرهم، ممن يعتمد على الإعلام والتصريحات الاستعراضية كمصدرٍ للمعلومة والحضور
السياسي، إلى ركوب الموجة. وقد وصلت الجرأة ببعضهم حدَّ إعطاء تواريخ ومواعيد
محددة لهذه الضربة، وللأهداف التي سيتم تدميرها، حتى ليخيل للمراقب أنهم جالسون في
عقر دار الإدارة الأمريكية (التي كانت، على الأرجح، تضحك في سرِّها على سذاجة
"مثقفي وسياسيي" المنطقة).
قد يبدو الحديث عن التدخل الخارجي في سوريا قضيةً لا
طائل منها، فمثل هذا التدخل حاصلٌ بحكم الواقع كما في الميليشيات والعناصر غير
السورية التي تقاتل مع أو ضد النظام. وفي حين تُبْقِي الدول العظمى جزءاً مهماً من
خيوط اللعبة في يدها، تتكفل هذه الدُّمى في النظام والمعارضة بسفك دماء السوريين، وتخريب
سوريا وفتح أبواب "إعادة الإعمار"، مع المحافظة على الصراع داخل الحدود
(وفقط داخل الحدود). فهل يرغب الغرب فعلاً بالتدخل؟ لماذا عليه أن يرسل جنوده؟ أو
أن يدفع كلفة العتاد؟ أو أن يتحمل ضغوطات الرأي العام الغربي بخاصة بعد الصيت
السيء للتدخل في العراق؟ السياسة الدولية خاويةٌ من الاعتبارات الأخلاقية، ومع أخذ
إسرائيل والوضع الجيوسياسي في عين الاعتبار، نجد أن التدخل العسكري الغربي في
سوريا قضيةٌ فيها كثيرٌ من العبث واللاواقعية، وورقة ابتزازٍ خطابيٍّ يتلاعب بها كثيرٌ
من اللاعبين في المشهد السوري.
لكن أحياناً قد تنبئنا المواقف من حدثٍ ما بما هو أكثر
أهميةً وخطورةً من الحدث بحدِّ ذاته. وهذا ما ينطبق لحدٍّ ما على الفقاعة الإعلامة
التي أحاطتْ بالضربة الأمريكية المزعومة، وبموضوع التدخل العسكري الغربي عموماً. فما
يدعو للإحباط هو ذلك الحضور القوي والمركزي "للكذب" في المشهد السوري،
وعلى لسان من يفترض بهم أن يكونوا نخباً مثقفة: كم مرةً خرجوا على الشاشات كي
يكذبوا على شعبٍ يعيش كارثةً حقيقية؟ كم مرةً خرج أبواق النظام وهم يقولون
"خلصت"؟ وكم مرةً خرج نجوم المعارضة وهم يتحدثون عن "ساعة
الصفر"؟ كم مرةً قدّموا "التدخل العسكري الغربي" وكأنه استهدافٌ
مؤامراتيٌّ لمواقف الممانعة؟ أو كأنه قطعةٌ من الفردوس المفقود التي ستحقق الأحلام؟
لكن المخيف أكثر هو وجود "جماهير" مستعدة
لتصديق هذا الخطاب الكاذب دون أن تنزع الغطاء عمّن اعتاد صنعة الكذب خلال سنتين.
إذ يبدو أنه ليس مهماً عدد المرّات التي تم الكذب فيها، وليس مهماً إن كانت الكذبة
ذاتها مُكَرَّرَةً ورخيصةً وساذجة، ما يهم أن تكون الكذبة تدغدغ المشاعر،
وتُسْمِعُ من يتلقاها ما يريد سماعه: فالمستمع يود الحصول على تخديرٍ بالكلمات
المجبولة بالأحلام الوردية، دون أن يعي أن مثل هذا "الكلام" يبقى
"كلاماً" لا يؤثر على مسارات الأحداث، ولا يغير من الواقع المر. ويخبرنا
ما سبق أن العقلية السائدة لم تدركها الثورة بعد، إذ ما تزال تعيش يأسها، وما تزال
تتخبط في مراهقتها السياسية وشعبويتها المبتذلة، فتغيب الحكمة عن المشهد، وتستند المحاكمة
في قضايا الدولة –إنْ وُجِدَتْ مثل هذه المحاكمة أصلاً- على الأقاويل والشائعات
والأحقاد والغرائز، ويغدو مستقبل الوطن في عهدة مجموعاتٍ متفرقةٍ من العنفيين والمتسلقين
والمنتفعين والحالمين والسذج والنجوم الذين يتم تلميعهم إعلامياً.
ما يستدعي التوقف عنده أيضاً هو مواقف السوريين التي
أحاطتْ بالتهديد بهذه الضربة، والتي اختلفت، كما هو متوقعٌ، في شكلٍ حادٍّ
وصداميٍّ لتعكس عمق الانقسام الموجود أصلاً في المجتمع السوري الـمُنْهَك. فقد كان
لافتاً، على سبيل المثال، أن نرى تلك اليقظة الفجائية لبعض المؤيدين الذين ما
فتئوا يتجاهلون صواريخ النظام وهي تنهال على إخوتهم في الوطن، ويتجاهلون وجود
ميليشياتٍ غير سوريةٍ تقاتل مع نظامٍ يدّعي حماية السيادة. كما كان مؤسفاً أن
نتابع حالة اليأس التي تمكنت من بعض "المعارضين" و"الثوار" في
صورةٍ تتناقض جوهرياً مع فكرة الثورة وتلغيها.
يجدر الانتباه أيضاً إلى بروز قطبين متطرفين من
"المثقفين". فهناك "المثقفون المؤدلجون"، أصحاب الخطاب الخشبي
العتيق، والشوفينية المتجذرة، ورهاب الآخر، أولئك الذين يُحَرِّمُون التدخل
الأجنبي، ويَغُضُّون الطَّرْف عن الفظائع التي يرتكبها النظام الفاشي والسلطة المتطرفة
المتشبثة بكرسي الحكم. وهناك النسخة السورية من "المثقفين الجلبيين"
الذين يواكبون الحداثة عبر معاكسة (وفقط عبر معاكسة) أولئك الذين يعترضون على التدخل،
دون أن يمانعوا كيْدياً بجرعة قتلٍ إضافيةٍ طالما أنها بيد الأجنبي أو التطرف
الإسلاموي؛ مع أنهم يوقنون أن ذلك لن يوقف دوامة القتل في الأساس.
وهنا بات التمسك بالوطنية السورية (الهشّة والمتهتكة
أصلاً) مدعاةً للتنابذ والانتقاص، وشتيمةً يوجهها البعض وهم يتسهزؤون "بالوطنيين".
ففي بعض المحافل صارت كلمة "وطنجي" توصيفاً يُقْصَدُ منه اللمز
والازدراء. ولا تنطلق أغلب هذه المواقف من مراجعةٍ فكريةٍ/سياسيةٍ لمعاني الوطنية
في سياق القرن الحادي والعشرين (وهي مراجعةٌ مطلوبةٌ على أيِّ حال)، بل من اتهامٍ
يضع كل رفضٍ للتدخل الغربي في خانة التخشب والأدلجة وتأييد القتل والقمع الذي
يمارسه النظام السوري! لكن على عكس هذا الاتهام السطحي والمراهق، تشير النظرة
المتأنية إلى أن من رفض الضربة، ورفض قبلها وما زال يرفض قمع وجرائم النظام
وأشباهه، هم الأقل انتقائيةً والأكثر انسجاماً مع مواقفهم، على الأقل من خلال
اتخاذهم للقيم الـمُجَرَّدَة مرجعيةً وبوصلةً لهم.
أخيراً، يبقى الأمل في أن نخرج، نحن السوريين، بدروسٍ
مستفادةٍ من ملف التدخل الخارجي (وغيره من الملفات الإشكالية التي ملأت فضاء الأثير
العام)، وأن ندرك أنه ليس سوى ملفٍ لعبت به كثيرٌ من القوى على سبيل الابتزاز،
وبهدف إطالة عمر الكارثة وتعميقها، واستنزاف الوطن وأبناء الوطن، مع المحافظة على
الاستعصاء القائم دون حسم. عدا ذلك ستبقى سوريا وشعبها في عهدة نزاعٍ عبثيٍّ
ودمويٍّ بين نظامٍ مجرمٍ ومعارضةٍ فاشلةٍ وحراكٍ مشتتٍ وقوىً متطرفة، يضاف إليها صراعات
القوى الإقليمية والدولية ذات المصالح المتضاربة.