(لوحة الحب المقدس والمدنس للفنان الإيطالي تزيانو فيتشيللي المعروف باسم تيتيان (ت. 1576))
ملاحظة: تم نشر هذا المقال في صحيفة القدس العربي منذ حوالي العام في 30 تشرين الأول/أكتوبر 2012.
يُفْتَرَض أن يُحْكَمَ المشهد السوري بعقليةٍ تقوم بفرز
عناصره، وفق مبادئ الصراع السياسي والأخلاقي، إلى حيّزين طموحَيْن: ضد الاستبداد
أو مع الاستبداد. لكننا نلحظ نظرةً سائدةً تميل إلى اختلاق حيّزين مُصْطَنَعَيْن
على مبدأ المقدّس والمدنّس، وبشكلٍ يتجاوز، ولا يتطابق، مع شروط وحدود الصراع
السياسي، أو مُتطلّبات المشروع الأخلاقي المنشود.
ترتكز هذه النظرة السائدة على عقليةٍ تنطلق من المقدّس
المتعالي في تعاملها مع اللامقدس الدنيوي. يحدث ذلك عبر سيرورةٍ غير واعية تبدأ بالتشبّع
بالمقدّس (وهذا أمرٌ طبيعي في في المجتمعات الإنسانية)، لكن تتلوها مقاربةٌ للذات
والإنسان والعالم وفق صيغٍ مقدّسةٍ ذات أبعادٍ تطهّريةٍ وشمولية. حيث تتم، نتيجةً
لتلك المقاربة، مَوْضَعَة "الأشياء"، على اختلافها وتناقضها على مستوى
القيم المجرّدة، في معسكرين: إما معسكر الـ "نحن" أو معسكر
"الآخر". ثم تعمد في خطوةٍ لاحقة إلى إسباغ نعوت الخير الـمَحْض والخلاص
الأبدي على الـ "نحن"، ونعوت الشر الـمُسْتَطير والعذاب الأبدي على
"الآخر". وإذا سلّمنا أن ذلك ممكنٌ وِفْق "المعقول الديني"،
ومتاحٌ على مستوى العلاقات العقائدية بين الإنسان والله، فإعادة إنتاجه في السياق
السياسي سينتج "لا معقولاً سياسياً"، ولن يكون سوى ضربٍ من ضروب هذيان
الوعي، وانعدام النضح السياسي، وتشويهٍ في وعي الذات والعالم، وتبعثرٍ واختلاطٍ في
المفاهيم المنتمية إلى أحيازٍ معرفيةٍ لا يمكن لها أن تجتمع.
هذه النظرة لا تختلق فقط هذين الحيّزين الـمُتَوَهَّـمَيْن،
بل تعمد أيضاً إلى ترسيخ نظرةٍ مغلوطةٍ حول كل حيّز، محولةً عناصره المنضوية تحته
إلى عناصر متماهيةٍ ببعضها، لتُظْهِرَها في حالةٍ من التجانس الـمُطْلَق.
وبالنتيجة يتم الفصل بين هذين الحيَزين بصورةٍ صارخةٍ وقطعيةٍ وأبدية، مما يرسّخ
ويؤجّج اختلافاً عميقاً يمنع أي محاولةٍ ممكنةٍ لرأب الصدع. ويُمَهّد هذا لانتزاع
كل صفات الخير من الحيّز الآخر، ويُشَرْعِن ويُمَجّد مواجهة الشر بالشر، ويخلق
منطقاً تبريرياً أعوج مفعماً بتناقضٍ مُتَعَرٍّ أخلاقياً، ومُفْلسٍ سياسياً على
المستوى الوطني. مثل هذا الاختلاف بين حيّزي المقدس/المدنس هو اختلافٌ أزليٌ
وأبديٌ لا يمكن حله، في نظر من يَتَشبّع به هذيانياً، إلا بالاستئصال العنفي، ما
يؤسس لجذر الصراع الوجودي الذي سعى النظام (وغيره من الأطراف) إلى فرضه على المشهد
السوري باستباحته للدم، واستثارته السّادية لمشاعر وردود أفعال الشارع المنتفض.
ويمكن تتبّع أثر هذه النظرة السائدة في المشهد السوري في
الشّيْطَنَة الـمُطْلَقَة للنظام أو الثورة (هذا يعتمد على الحيّز الذي ينتمي إليه
الـمُراقِب)، وما يستتبع ذلك من تنزيهٍ مُطْلَقٍ للطرف الآخر. حيث يصبح حيز الـ
"نحن"، وما يُفْرِزه أو يلتحق به من ظواهر، منتمياً إلى حيّز المحظور
نقده، والمحرّم مساءلته، أو حتى التشكيك فيه. ويتم بعدها استحداث دائرةٍ من الخوف
والوعيد والكبْت الجديد، حيث يتعرض من يتجرأ على النطق، نتيجة خروجه المزعوم على
جماعة الـ "نحن"، إلى حملات تشويهٍ وفرزٍ وإقصاءٍ وتوزيعٍ لصكوك الوطنية
والصفاء الفكري.
يحفل المشهد السوري بأمثلةٍ كثيرةٍ عن حضور عقلية المقدّس/المدنّس.
حيث نرى هذا الحضور في أبهى صوره الرومنسية، في ظاهرة انشقاق العسكريين وغيرهم (أو
العودة عن الانشقاق). حيث تتجلّى هذه الظاهرة في إعادة تشكيلٍ لظاهرة الدعوة والتبشير،
والهداية من الضلال، واعتناق الإيمان، والعتق من عذاب الكفر، وذلك في سَرْديةٍ
عجيبةٍ وملحميةٍ وذات بُعْدٍ بطوليٍ تضحويٍ يختلط فيها التاريخي المقدّس
بإيديولوجيا الحلم، ويتم فيها إسقاط تجربة الماضي على حاضرٍ أليم. وعلى مبدأ
"يَجُبُّ ما قبله"، ينتقل شخصٌ ما في لحظة، رغم فساده ورشوته في الحاضر
والماضي (وربما المستقبل)، من حيّزٍ إلى حيّزٍ جديد، من حيز "الآخر"
الشرير إلى حيّزنا أي إلى حيّز الـ "النحن" المفعم بالخير. وتتفاعل هذه
الصيغة بصورةٍ نَشِطةٍ مع صيغةٍ معكوسةٍ بدأها النظام حين حوّل عملية القتل إلى
مصدرٍ للفخر والمباهاة والمجد الفارغ وصناعة النصر الموهوم. وعليه فالذي لا يعلن
انشقاقه (أو الذي يعلن انشقاقه) فهو هدفٌ مشروعٌ ودمه مُباح وذلك تبعاً للحيّز
الذي يتم يتعامل معه. تغفل مثل هذه النظرة الـمُغْرِقة في التعميم عن أن من حمل
السلاح في صفوف المعارضة هم ضحايا، وأن الأغلبية ممن يخدم في جيش النظام هم ضحايا.
كما تغفل عن أن النظام، وغيره من الأطراف الخارجية الداعمة له، أو الأطراف الخارجية
التي تدّعي دعم "الشعب السوري"، تستخدم هؤلاء الضحايا، ممن حُمِّلُوا أو
حَمَلُوا السلاح، ليكونوا ضحايا لبعضهم البعض، ووقوداً لمحرقة البقاء الموهوم في
السلطة، ودمار الدولة، وشحن الـمُكوّنات السكانية الأهلية بكل مشاعر البغض والحقد
والثأر.
كما يمكن تتبّع حضور عقلية المقدّس/المدنّس في الاحتقان
الطائفي الذي وجد في العنف بيئةً خصبةً كي يترعرع. يستند هذا الاحتقان إلى تنوع الـمُكوّنات
السكانية في سوريا، وإلى وجود حالةٍ من التقوقع وعدم التلاقي بين هذه المكونات
كنتيجةٍ مباشرةٍ للاستبداد الذي اعتاد اللعب على التناقضات الأهلية. يضاف إلى ذلك
إعلامٌ موجهٌ، وخطابٌ شائعٌ يستغل الاحتقان الطائفي، ويُلْقي عليه هالةً من
القداسة، ويعيد ترتيبه في سياق حربٍ مقدسة. وهذا أسلوبٌ شائعٌ حيث يميل الخصم إلى
شَيْطَنة خصمه ويحوّله إلى "آخر" مختلف على أساسٍ وجودي، خاصةً وأن التّمَوْضع
السياسي ذي الميول العقلانية قد لا يكون كافياً لشحن الغرائز، ولا بد بالتالي من
مكوّنٍ أكثر بدائية، ولاعقلانيةً، لاستنهاض الأفعال، وردات الأفعال، الأكثر عنفيةً
وهمجية!
ولتغلغل عقلية المقدس/المدنس في مفاصل المشهد السوري
الأليم تبعاتٌ وانعكاساتٌ تُغَيّب العدالة بطريقةٍ لا مباشرة. حيث يتم الحكم على
الأشخاص عبر الانتماء البحت والدوغمائي والـمُطْلق إلى الحيّز، وليس عبر نقاء
السيرة والسريرة والالتزام بالقيم والفضائل المجردة، وليس عبر أفعاله وتاريخه وكفاءاته
الواعدة إلخ. هذا المزج التشويهي والمخيف بين عقلية المقدس/المدنس المتعالية، وبين
الدنيوي السياسي الظاهري، يخلق حالةً فصاميةً تقوم بتحييدنا تلقائياً عن العالم
الواقعي من حولنا، وسلخِنا من حركة التاريخ التي اعتدنا طيلةٍ قرون أن نكون خارجها.
كما يسهم هذا المزج التشويهي في ترسيخ حالة الركود المستنقعي في الأفكار، وفي وضع
مفاهيم الحريات الأساسية على الرفّ حتى إشعارٍ آخر، وفي دفع المجتمع إلى الدوران
في حلقةٍ مفرغةٍ مشبعةٍ بقيم ما قبل الحداثة، تصبح فيها الانتفاضة صورةً مُسْتَنْسَخةً
عمّن تثور عليه.
يُلقي كل ما سبق مسؤوليةً كبيرةً على كاهل "النخب
المثقفة" التي يُفْترض أن تمارس دورها في انتزاع الصراع القائم من صيغته
الوجودية الاستئصالية العنفية، وإعادته إلى صيغته السياسية والأخلاقية. ولا يمكن
لهذا أن يتم دون ثورةٍ ثقافيةٍ تحدُّ من تفشّي عقلية المقدس/المدنس المحكومة بمنطق
الكل أو اللاشيء، وجعلها محصورةً في سياقاتها العقائدية والإيمانية، وخلق عقليةٍ
حداثيةٍ بديلةٍ تُقَارِب، بصِيَغٍ مستحدثة وخَلاقة، الواقع الوطني المعاش والمحكوم
بشروط اللعبة السياسية.
تم نشر هذا المقال في صحيفة القدس العربي منذ حوالي العام، وبالضبط بتاريخ 30 تشرين الأول/أكتوبر 2012. كما تمكن قراءة المقال من موقع الصحيفة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق