نشر هذا المقال في صحيفة القدس العربي في حزيران 2012
هو الشاعر الراحل محمود درويش ذاك الذي يقول في
"مديح الظل العالي": "بيروت قصتنا، بيروت غَصَّتنا، وبيروت اختبار
الله". يبدو أننا في زمانٍ تجاوزنا فيه غَصَّة بيروت، لتصبح فيه سورية غصتنا.
فكلُّنا يتابع شلال الدم القادم من سورية، منذ انطلاقة الانتفاضة في مارس/آذار
2011، وكلُّنا يرْقُبُ سلوك اللاعبين الأساسيين في المشهد السوري المعقّد. فهناك
النظام ولغته القمعية والاستبدادية، والمعارضة الميدانية بزخمها العفوي والمنتشر،
والمعارضة السياسية بأدائها البائس والمراهق. يُضاف إلى ذلك مجاميع مسلحة تحت
مسمياتٍ مختلفة، منها ما يدافع أو يهاجم باسم الانتفاضة، ومنها ما يحمل صبغةً
جنائيةً أو ميولاً متطرفة، ولكن ما يجمعها هو أنها غير مجتمعةٍ تحت قيادةٍ موحدة.
لكن ما حدث ويحدث مؤخراً في منطقة حمص، وخاصة في ريفها، ليس
سوى نذير شؤمٍ حقيقيٍ يجب أن يُؤخذ بكثير من الجدّية والحكمة. إذ تشهد هذه المنطقة
المعروفة بنسيجها المعقد والغني، توتراً متصاعداً، وحالة احتقان، وعنفاً متبادلاً،
واصطفافاً أهلياً تبعاً للولاء السياسي أو الانتماء الطائفي. وتتحدث آخر الأخبار المتضاربة
والواردة من هناك، والتي لم يخرج معظمها على الإعلام، عن مجازر وصداماتٍ واعتداءاتٍ
أهلية بحتة، على شكل كرٍّ وفرٍّ، بين أبناء القرى الصغيرة المتجاورة والمتداخلة،
يرافقها أو يُؤجِّجها تصعيدٌ أرعنٌ من قوات النظام الرسمية وغير الرسمية التي لا
تستوعب سوى لغة العنف. ولم تكن "مجزرة الحولة" الرهيبة، التي ينْدى لها
جبين الإنسانية، أولى تلك المجازر التي حدثتْ في سورية، والتي نشعر بالذعر والألم
من أن تتحول إلى حدثٍ متكرر. ويشير كل ذلك وبشكل جليٍّ إلى تحولٍ في المعادلة القائمة
في البلاد من صيغة "نظام ضد معارضة"، إلى صيغة أكثر تعقيداً تشتمل،
بالإضافة إلى ما سبق، على "شرائح أهلية ضد شرائح أهلية"، مما يُدخِلنا
في حربٍ أهليةٍ باردة وغير معلنة، ويدفع إلى التحذير الواضح من خطر تحولها إلى حربٍ
أهليةٍ مدمرة لا تُبقي ولا تذر.
ولا يجوز التعامي عن هذا الخطر، أو الاستهتار به تحت
شعارات من قبيل "الشعب السوري لا يمكن أن يقع في حرب أهلية". فنحن نعيش
ظروفاً مختلفة وغير مسبوقة في تاريخنا، و"الشعب السوري" في النهاية من
لحمٍ ودم، خاصةً في ظل الظروف الأليمة التي تمر بها البلاد، والتي تسْتَثير
الغرائز وتُغيِّب العقل. فالسلطة المستبدة مستمرةٌ في قمعها بعد أن فقدت أهليتها
في إدارة البلاد ناهيكم عن إدارة الأزمة، ووضع المعارضة السياسية لم يرقَ بعد إلى
مستوى من النضج السياسي يؤهّلها للاشتغال الجدّي واجتراح الحلول بعيداً عن النحيب
والصراخ على الإعلام. وقد حوّل ذلك سورية إلى ساحةٍ يسودها العنف، وإلى بيئةٍ خصبةٍ
لجذب وترعرع التطرف التابع لمسلحي النظام الرسميين وغير الرسميين، أو بعض الأطراف
التي اضطُرَّتْ إلى حمل السلاح، أو تلك التي ركبت الانتفاضة لدواعٍ جنائية بحتة.
أضف إلى كل ذلك حالة الغضب العارمة وغياب العدالة المزمن التي يعاني منها المجتمع
السوري بشكلٍ عام، والمجتمعات الريفية المحلية ذات البنية التقليدية والبسيطة بشكلٍ
خاص.
سيقودُنا التحليل العام للمشهد السوري بطريقةٍ موضوعيةٍ
إلى توجيه الاتهام إلى السلطة القائمة، وتحميلها تبعات ما وصلتْ إليه الأمور
باعتبارها المسؤول الأول والأخير من حيث كونها، حسب ادعاءاتها، سلطة. ولا تقتصر
مسؤولية السلطة على ما جرى خلال الشهور الماضية من عمر الانتفاضة، بل تتعداها
لتشمل حقبةً امتدت على مدى عقود، وشكَّلتْ جذوراً خصبة لما نعيشه اليوم.
وبسخريةٍ مُهينةٍ ممزوجةٍ بطبقيةٍ طفيليةٍ ولا مبالاة يعمد
النظام إلى نَعْتِ الجماهير المنتفضة، على طريقة الكاوبوي الأمريكي، بأنهم مجرد "إرهابيين"
يستحقون القتل والسحق! مع أن هؤلاء "الإرهابيين" كانوا يموتون ببطءٍ دون
أن يشعر بهم أحدٌ طيلة عقود. مما يطرح سؤالاً هاماً حول "الإرهابي" أهو
جلادٌ أم ضحية؟ ومن الذي يمتلك الحق أصلاً في إطلاق هذا اللقب على من؟ وهل هناك
قتلٌ مسموحٌ وقتلٌ ممنوع؟ تستحق هذه الأسئلة أن نقف عندها برهةً، لا لنبحث عن
إجابة، بل لنستوعب عمق وألم المأساة الثقافية والأخلاقية التي نواجهها، والتي سنواجهها.
مأساةٌ لا يمكن علاجها إلا بمقاربةٍ ثقافية اجتماعية شاملة نابذة للعنف والدم، تُعْلي
من قيمة الإنسان، وتنشر ثقافة الحياة والبناء، لا صناعة القتل والموت.
لكن انتقال الصراع في المشهد السوري إلى المستوى الأهلي
البحت، قد زاد من الألم، ونقل البلاد إلى مرحلة جديدة تنذر بالخراب، مما يجعل من
عمومية "سؤال الجلاد والضحية" التي تطرحه كل الأطراف سؤالاً عبثياً بكل
معنى الكلمة. إذ من السهل على كل طرفٍ من الأطراف الأهلية المتصارعة أن يُبرّر موقفه،
وأن يتشنج في الدفاع عنه. ويؤدي ذلك إلى استخدام هذا المنطق التبريري في ارتكاب المزيد
من الممارسات الدموية اللامنطقية، مما يُدخلنا في دوامةٍ لا تنتهي من "العنف
المبرر" الذي "لا يمكن تبريره" أخلاقياً، مما يذكّر بمقولة
الفيلسوف وعالم الاجتماع زيغمونت بومان: "لا توجد ضحية كانت في منأىً من أن
تصبح جلاداً"، حيث تذوب في دوامة العنف الأهلي مفاهيم الجلاد والضحية، ليغدو
الجميع ضحيةً لاستبدادٍ يتولد ويتمدد ذاتياً.
ومرةً أخرى تبرز قبالتنا عبثية التحليل، ونحن نصطدم بألم
المشهد، الذي يمجّد الجنون والغرائز، ويغيّب العقل ويغتاله. فقد انتشر خطابٌ طائفيٌ
تحريضيٌ بدأنا نتلمس آثاره كالنار في الهشيم، كما تم الإعلاء من صوت الغريزة
ومشاعر الثأر الجاهلي البغيض. ولكن ألا يجدر بنا، في وجه هذا الألم، أن نكون
فاعلين فنعالج جذر المأساة (النظام وعنف النظام وما تلاه من عنف مضاد)، عوضاً عن
الارتهان والانزلاق لردات الفعل؟ لقد وصلنا إلى منطق اللامنطق، في مرحلةٍ عصيبةٍ
نحن في أمس الحاجة فيها إلى العقل. وفي ظل الألم تنطلق المحاولات الأهلية للحفاظ
على السلم الأهلي ومنع تدهور الوضع، كان آخرها نجاح المصالحة بين حوران السهل
وحوران الجبل، وكلنا أملٌ أن تتكلّل المساعي في ريف حمص بالنجاح، لكن تسارع
الأحداث يفوق قدرة القوى السياسية والأهلية الفاعلة في داخل البلاد على مجاراتها.
أسْتحضرُ أخيراً مقولة الفيلسوف جورج سانتايانا: "الذين
لا يتذكرون الماضي يكررون أخطاءه ذاتها"، والتاريخ القريب والبعيد في منطقتنا
مشبعٌ حتى التخمة بمشاهد الألم والدماء. فمن عصر البسوس و"أيام العرب"،
إلى لبنان والعراق، حروبٌ أهليةٌ تطحن معها الأبرياء، وتغتال معنى النصر، ليخرج
منها الجميع وهم خاسرون. فهل سيُسْعِفُنا الماضي في تعلم الدرس؟ أم أننا، كما وصف هيغل
الجنس البشري، لا يمكن لنا أن نتعلم من التاريخ؟
تمكن قراءة المقال من موقع الصحيفة بالضغط هنا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق