حول تدمير المساجد في سوريا



(صورةٌ مؤلمةٌ للدمار الذي أصاب الجامع الأموي في حلب - وتبدو في يسار الصورة المئذنة التاريخية التي تم تدميرها)

المشهد السوري، وبالذات في صيغته العنفية الدموية، مثالٌ صارخٌ عن العلاقة النفعية المادية بين الدين والمصلحة السلطوية. كلنا ربما يتذكر ذلك "الشيخ" الذي وقف، في تموز 2012، على منبر جامع صلاح الدين في حلب ممتشقاً سيفاً ومتنكباً برشاش! 
المشهد المذكور بكامله ليس سوى رضٍّ بصريٍّ يتجمّد فيه التاريخ: المظهر واللغة والأسلوب كلها مطروحةٌ ضمن قوالب تعود بنا، عبر الزمن، إلى الوراء. يضاف إلى ذلك كارثة تحويل الجامع إلى مقرٍّ لإعلان "الحرب المقدسة". أما أكثر ما يخيف في كل هذا فهو الجمهور/القطيع؛ الجمهور الجالس في المسجد، والجمهور الجالس وراء الشاشة. ففي الحالتين تهليلٌ وتصفيقٌ ساذجٌ وقطيعيٌّ وسط صيحات "الله أكبر"؛ تلك العبارة التي تم تفريغها، وبكلِّ ألمٍ، من روحانيتها، والتي ما عدنا نسمعها إلا في سياق سفك الدم، أو الدعوة إلى سفك الدم.
كثيرةٌ هي مشاهد الفيديو التي تظهر مقاتلين يدّعون معارضة بشار الأسد، وهم يتخذون من المساجد متاريس، ومن المآذن مَقَراتٍ للقنّاصة (يفعل النظام الأمر ذاته بالمناسبة). لكن للوهلة الأولى يقف تعريض المساجد للضرر والأذى في تناقضٍ مع الخطاب والمظهر الديني الذي يختبئ وراءه هؤلاء. فالقضية برُمَّتِها نفعيةٌ بَحْتَةٌ: إنْ لم يقصفهم نظام الأسد فالمكسب مع "المجاهدين" الذين يتّخذون من المساجد دروعاً لهم، وإنْ قصفهم نظام الأسد (كما يفعل عادةً بكلِّ لؤم) فإن البروباغندا "الجهادية" ستلوكُ، وببراءةٍ مبتذلةٍ، أولئك "الزنادقة والكفار" الذين يقصفون بيوت الله. 
المرعب في الأمر هو أن أحداً من "المثقفين السوريين" أو "الشيوخ المعتدلين" لم يتجرأ، ولم يمتلك الشجاعة (إن لم نقل يبادر أو يمنع) على طرح أسئلةٍ من قبيل: لماذا يتم تحويل المساجد إلى مستودعاتٍ للذخيرة والمسلحين أصلاً؟ لماذا يتم زجُّ بيوت الله أصلاً في معركةٍ بغيضةٍ مع نظامٍ مجرمٍ نعلم مسبقاً أنه لا يمتلك أدنى مستوىً من الحس الأخلاقي؟ فإنْ كانت القضية متعلقةٌ بحماقة وجهل القائمين على ذلك فإنه من الأجْدى على هؤلاء الحمقى والجهلة أن يتركوا هذا الأمر لمن هم أهلٌ له، فسوريا ليست في حاجةٍ إليهم وإلى حماقاتهم وجهالاتهم. وإن ْكان في الأمر نيةٌ مُبَيّتَةٌ وقصدٌ ماديٌّ فإنه تحقيرٌ للمساجد لا يختلف من حيث الجرمية عن التحقير الذي يمارسه النظام (مع الإشارة إلى أن مسؤولية من يدّعي الدفاع عن الدين مضاعفة).
في الفقه الإسلامي (إنْ أردنا إبقاء النقاش في دائرة الفكر الإسلامي) فالمسؤول عن الجريمة –قصف مئذنة مسجدٍ ما على سبيل المثال- ليس فقط من ارتكبها، بل من سهَّل هذه الجريمة ودعا إليها. الحديث يطول ولا شك، بخاصة حين نسمع أنباءً تقول أن بعض الكتائب قد أصدرتْ فتاوى محلّية تجيز تدمير المآذن، وتصوير تدميرها، إنْ كان لذلك –على حدِّ زعم من أصدر هذا الفتاوى- دورٌ في "جمع كلمة المسلمين وحشدهم وإعلاء شوكتهم ضد أعداء الإسلام"! أقف في حيرةٍ من أمري وأنا أسعى، في هذا السياق الأليم، إلى تحديد من هم "أعداء الإسلام"، أو من هم "الأشد عداءً للإسلام". وسواءً صحّت هذه الأنباء أم لم تصح، فإن لدى من يتخذ من الدين مَطِيّةً لأهوائه سجلٌ حافلٌ بالانتهاكات التي لا تقف عند حدود المآذن، بل تتعداها إلى نفوس البشر التي هي أعظم حرمةً عند الله من الكعبة.
أخيراً، ووسط هذه الحيرة ينتابني نوعٌ من اليقين: لماذا لم ينصر الله هؤلاء؟ (مع إبقاء النقاش، مرةً أخرى، في دائرة الفكر الإسلامي). وهنا علينا أن نُذَكِّرَ أنفسنا دائماً بأن القانون الأخلاقي الذي يقوم عليه الدين يقول ببساطةٍ شديدة: الغاية، مهما عَظُمَتْ، لا تبرر الوسيلة، فكيف إنْ كانت تلك الوسيلة هي الدين الذي بات مجرّد سلعةٍ معروضةٍ للمتاجرة؟

الجرح السوري وعقلية الكَيْد والجَكَر



(طبقات إلى السماء للفنانة سحر برهان)

بعض السوريين يحرقون بلدهم كي يثبتوا أنهم على صواب؛ فالكَيْدية والجكر وتكسير الرؤوس، ومبدأ "عليَّ وعلى أعدائي وعلى أصدقائي وعلى الجميع"، تهدف إلى خلق حالةٍ متوهمةٍ من الرضا الذاتي المفعم بالأنانية والنرجسية. ووسط كل هذا تتنحّى الحقيقة جانباً بخاصة إنْ خالفت الأهواء والأمزجة، وسط معاناة السوريين الأكثر فقراً وتهميشاً، ووسط تفريغٍ ممنهجٍ لسوريا من العناصر المتنورة، وصعودٍ مخيفٍ للقوى العدمية والعنفية.
في بداية الانتفاضة كان النظام هو المجرم الوحيد، وكان التأكد من ملابسات الجريمة عمليةً سهلةً ومتاحةً نوعاً ما. لكن الصورة قد تغيرت، ولم يعد النظام وحده، بل صار أحد القتلة في ساحةٍ مكتظةٍ بالقتلة؛ لكنه يبقى القاتل الأكبر والمسبب الرئيسي لهذه البلايا التي أصابت وطننا. فعدا قوات النظام والميليشيات التابعة له، وعدا عن الكتائب الإسلاموية وغيرها، فقد صارت البلد مفتوحةً تعبثُ بها كلُّ مخابرات العالم، ومن السذاجة الاعتقاد أن القوى العظمى والإقليمية قد تركت السورية الساحة دون أن تشتري الذمم، وتصنع دُمىً تابعةً لها تؤمِّن لها موطئ قدمٍ، سواء الآن أو في المستقبل.
معظم المشتغلين في الشأن العام، بخاصة خارج البلاد، منغمسون في خطابٍ إعلاميٍّ عاطفيٍّ وشعاراتٍ مجوّفة لا علاقة لها من قريبٍ أو بعيدٍ بأيِّ اشتغالٍ حقيقيٍّ قادرٍ على تحقيق انفراجٍ ما. يضاف إلى ذلك أن كثيراً من الناشطين من أصحاب الصوت العالي لا يستوعب التدهور المأساوي الذي طرأ على المشهد السوري، أو بالأحرى يرفض أن يستوعبه بمزيجٍ من العنفوان والتشكيك وتحت طائلة التخوين، أو يرفض الاعتراف به ظاهرياً حفاظاً على حلمٍ خرج من أجله، أو يحاول تكذيبه باستخدام خطابٍ مكررٍّ اعتاد ترديده.
لكن كل هذه المواقف لا تغير من حقيقة الأمر: فالتدهور الذي طرأ على المشهد السوري هو جزءٌ من واقعٍ أليمٍ لا بُدَّ من إدراكه، والتعامل معه، دون الارتهان إلى الثنائية المبسطة نظام/ثورة. فهذه الثنائية المثالية، التي كانت الأساس المنشود والمفترض في المشهد السوري، قد باتتْ عاجزةً عن تفسير التعقيدات التي تراكمتْ فيه على مدى أكثر من سنتين، وصار لزاماً على كافة الناشطين المخلصين أن يعيدوا ترتيب قراءتهم لما يحدث دون أن يترددوا في حشر الأطراف العنفية، التي تسير على نهج النظام، في خانة النظام حتى لو جاهرتْ تلك الأطراف بعدائها له.
عجزُنا عن إدراك ذلك هو جزءٌ من عجزِنا عن إيجاد حلٍّ ينهي الكارثة التي تحلُّ بسوريا والسوريين، وهو انعكاسٌ لحالة عجزٍ مستقبليٍّ عن إدارة بلدٍ مُهِمٍّ كسوريا التي باتت، وبكلِّ أسفٍ، ساحة نزاعٍ مستمرٍ بين مصالح القوى الإقليمية والدولية.

دعوة إلى النقاش: في العلاقة بين البحث العلمي والمجتمع





أدعو الأصدقاء والزملاء إلى التعبير عن آرائهم وانتقاداتهم للفكرة المطروحة أدناه بما يسهم في الارتقاء بها وتطويرها.


يتوجبُ الاعتراف بالفقر الشديد الذي تعانيه المكتبة العربية على مستوى توفير أخبار ونتائج البحوث العلمية للناس بلغةٍ مفهومةٍ ومبسّطة، وهو فقرٌ تعاني منه حتى المجتمعات المتقدمة ذات الباع الطويل بالبحث العلمي (ولكن بدرجةٍ أقل بكثير من مجتمعاتنا).
يعود منشأ هذا الفقر أساساً إلى ما تعانيه مجتمعاتنا من ركامٍ من الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ما يؤدي إلى تحويل البحث العلمي (والاشتغال الفكري عموماً) إلى مجرّد قضيةٍ للترف دون قابليةٍ للتطبيق العملي. يضاف إلى ذلك تقصير الباحثين الناطقين بالعربية، وإلى عدم عنايتهم بالكتابة العلمية، وعدم اهتمامهم بالنشر العلمي على نطاقٍ واسعٍ بلغةٍ خاليةٍ من التعقيدات والاصطلاحات المبهمة. وتزيد الـمُعَدَّلاتُ المنخفضةُ للقراءة عند الناطقين بالعربية في تأزيم هذا الوضع؛ فتغيب البيئة التي تشجع على الكتابة: حيث يكتب الكاتب دون حاضنٍ اجتماعيٍّ أو فكري، ودون توفر فرصٍ لتبادل الأفكار ونقدها ومناقشتها.
وفي محاولةٍ متواضعةٍ لتلافي هذا التقصير فإني أخطط في المستقبل القريب لنشر سلسلةٍ من المقالات العلمية غير التقنية بلغةٍ مبسّطة، بهدف مناقشة القضايا العلمية الهامة التي تعتبر حديث الساعة؛ كالخلايا الجذعية، وعلوم الدماغ والأعصاب، وأبحاث السرطان، وعلوم الوراثة والطب الجزيئي إلخ.
كلّي أملٌ في أن تسهم هذه الخطوة المتواضعة في زيادة التواصل بين المختصين وغير المختصين، وفي ردْم الهوّة المصطنعة بين مختلف أنواع العلوم والمعارف، وفي تبسيط المؤلفات العلمية الأكاديمية الجافة لتغدو متاحةً قدر الإمكان لجميع المهتمين. وأخيراً أتمنى على كل الأصدقاء والزملاء أن يعْمَدُوا إلى إغناء هذه المقالات بتعليقاتهم وأفكارهم وانتقاداتهم، بما يُعَزِّزُ تبادل الأفكار في سياق عمليةٍ تعليميةٍ مستمرةٍ وثنائية الاتجاه: نُعَلِّمُ ونَتَعَلَّمُ فيها من بعضنا البعض.

من دفتر الذكريات القريبة: صورةٌ لجامعة القرويين في ندوةٍ عن البحث العلمي في العالم العربي




هذا غلاف الكتيّب الذي تم توزيعه على المشاركين في ندوة "العلوم والبحث العلمي في العالم العربي". عقدت الندوة عام 2009 في كلير كوليدج في جامعة كامبريدج، وكانت تحت رعاية الجمعية العربية في كامبريدج.
وتظهر على الغلاف صورةٌ لإحدى باحات جامعة القرويين في مدينة فاس في المغرب. وتعتبر هذه الجامعة أقدم جامعة في العالم ما تزال قائمةً ومستمرةً بالتدريس حتى يومنا هذا. وقد تم إنشاؤها عام 859م من قبل السيدة فاطمة بنت محمد الفهري (ت. 880م).

لمحة مختصرة إلى عملي البحثي في مجال السرطان.

(صورة لخلايا سرطانية من سرطان الدماغ. أخذتُ هذه الصورة باستخدام نوعٍ خاصٍّ من المجاهر يدعى بالمجهر الفلوريسيني. تم إعداد الألوان التي تظهر في الصورة بتقنية تدعى بالتلوين المناعي. كل لون يدل على وجود مركبٍ معينٍ في الخلايا. فاللون الأخضر يدل على تواجد بروتين معقد اسمه NG2، واللون الأحمر يدل على وجود مركب خلوي يدعى PDGFRa، واللون الأزرق فهو صباغٌ يكشف لنا نوى الخلايا.) 

يتركز اهتمامي البحثي منذ عام 2006 على سرطانات الدماغ، وفي شكلٍ خاصٍ، على نوعٍ محددٍ منها يدعى بالإنكليزية/اللاتينية Glioblastoma Multiforme. ويُتَرْجَمُ هذا الاسم الأجنبي بالعربية إلى مصطلحٍ طبيٍّ ثقيلٍ على اللسان هو: "الدَّبْقُوم الأَرُومِي الـمُتَعَدِّد".
يعتبر "الدبقوم الأرومي المتعدد" من أكثر أنواع سرطانات الدماغ شيوعاً، ومن أكثر أنواع السرطانات التي تصيب الإنسان فَتْكاً للأسف؛ فمعدل البقاء على قيد الحياة هو أقل من 5% بعد سنتين من تشحيص الورم. يعتمد التشخيص على التصوير الطبقي المحوري والرنين المغناطيسي. أما المعالجة التقليدية المتوفرة فتتراوح بين الجراحة التي تسعى إلى تخفيف حجم الورم قدر الإمكان (لا يوجد استئصال كامل 100%)، وبين العلاج الشعاعي والكيماوي.
أعمل حالياً على توسيع نطاق دراساتي البحثية لتشتمل على أنواع مختلفة من سرطانات الدماغ، إضافةً إلى سرطانات الثدي والجلد. والغاية من مجموع هذه الأبحاث هو استكشاف الأُسُس الخلوية والجزيئية لتطور واستفحال السرطان. وتمكن مقاربة هذه الغاية من خلال طرح مجموعةٍ من الفرضيات العلمية، ثم دراسة صحة أو خطأ هذه الفرضيات باستخدام التقنيات العلمية كالمزارع الخلوية والبيولوجيا الجزيئية والمجاهر الحديثة وغيرها. ومن الملاحظ أن الساحة العلمية في مجال السرطان تتنازعها فرضيتان رئيسيتان تحاولان تفسير كيفية تنمو الخلايا السرطانية وكيفية تنظيم هذه الخلايا لنفسها ضمن الكتلة السرطانية؛ الفرضية الأولى هي "فرضية النمو العشوائي"، أما الفرضية الثانية فهي "فرضية الخلايا الجذعية السرطانية". وسأسعى إلى تفصيل هذه الفرضيات في مقالٍ منفصلٍ مع توضيحٍ لنتائج الأبحاث التي توصلتُ إليها، والتي تثبت أن الأمور أكثر تعقيداً مما كنا نتصور، وأن هذه الفرضيات غير قادرة على إعطاء تفسيرٍ كاملٍ للسرطان.
يمكن القول أن تعميق فهمنا لسرطانات الدماغ والثدي والجلد (وغيرها من السرطانات) قد يُسَلِّطُ الضوء على قواعد عامة يستند إليها السرطان على مستوى النشوء والنمو والتطور ومقاومة العلاج. ويعتبر مثل هذا الفهم العلمي السليم للسرطان خطوةً أولى نحو تصميم أدواتٍ علاجيةٍ جديدةٍ؛ ذات فاعليةٍ أكبر وآثارٍ جانبيةٍ أقل، مع أثرٍ إيجابيٍّ على المرضى وذويهم، وعلى القطاع الصحي والمجتمع.
تحوي صفحتي على موقع "بوابة الأبحاث" أو على "شبكة العلوم العصبية في جامعة كامبريدج" على عددٍ من الروابط والملخّصات البحثية. وتشتمل هذه الملخصات على أوراق ومقالات علمية كتبتها ونشرتها بالتعاون مع زملائي في مركز ترميم الدماغ، التابع لقسم العلوم العصبية السريرية في جامعة كامبردج (بدأتُ العمل في هذا المركز عام 2006 كطالب دكتوراه، وحالياً أعمل في المركز ذاته كباحثٍ مشارك). 
تجب الإشارة أخيراً إلى أن هذه الملخّصات مكتوبةٌ بلغةٍ تقنية، وهي موجهةٌ أساساً للمختصين والباحثين والعاملين في الفروع البحثية والطبية. ولهذا سأعمل في المرحلة القادمة على إعادة صياغة هذه المقالات بعيداً عن اللغة التقنية والمصطلحات المبهمة كي تكون، قدر الإمكان، في متناول جميع المهتمين من غير المختصين.

صفحتي البحثية في موقع بوابة الأبحاث




(صور مجهرية لسرطان الدماغ. 
الصف العلوي A-B مأخوذ من النسيج السرطاني بعد استئصاله من المريض. 
الصف السفلي C-D مأخوذ من النسيج السرطاني بعد تحويله إلى سلالة خلوية في المختبر.
الصور مأخوذة في مختبرنا ومنشورة في مقال مطول عام 2012)

الرابط أدناه هو لصفحتي البحثية على موقع بوابة الأبحاث، حيث أضع فيها ملخصاتٍ عن المقالات العلمية التي أنشرها، بالتعاون مع زملائي في مركز ترميم الدماغ التابع لقسم العلوم العصبية في جامعة كامبريدج.
تركز هذه المقالات في شكلٍ أساسيٍّ على سرطانات الدماغ، وبالتحديد على واحد من أكثر أنواع سرطانات الدماغ فتكاً (اسمه العلمي التخصصي باللغة العربية هو: الدبقوم الأرومي المتعدد).
أعمل حالياً، في مشروعي البحثي، على توسيع مجال هذه الدراسات لتشمل، بالإضافة إلى سرطانات الدماغ، كلاً من سرطانات الثدي والجلد.
الملخصات والمقالات المنشورة في هذه الصفحة مكتوبةٌ بلغةٍ تقنيةٍ، وهي موجهةٌ في صورةٍ أساسيةٍ إلى المختصين والعاملين في المجال البحثي والطبي.

إذن أعطني حلاً للمأساة السورية! - مقالٌ منشورٌ في صحيفة القدس العربي


 

انفجار للفنانة فاتن العطار



رابط المقال من موقع صحيفة القدس العربي: http://www.alquds.co.uk/?p=83615
إذن أعطني حلاً! يقول زميلي المعارض موجّهاً كلامه لي حين يعرف أني معارضٌ للنظام، ولكلِّ من يسير على نهج النظام في استباحة حق الحياة والحريات الأساسية، وأني معارضٌ للضربة الأمريكية المزعومة. مشكلة زميلي أنه غارقٌ في الافتراضات؛ يفترض أن مؤيدي بشار الأسد هم الوحيدون الذين يعارضون الضربة، وبأن كل المعارضين يلهجون بالدعاء ليل نهار لتسريع القرار الأمريكي، وبأن الضربة الأمريكية هي، وهي وحدها، الحل المنشود. ثم يحوّل زميلي هذه الافتراضات إلى حقائق مسلّمةٍ لا تقبل الدَّحض والمساءلة، ثم يهاجمني بناءً على كلِّ ذلك لأني، على حدِّ قوله، مولعٌ بالتنظير الفارغ وبعرقلة الحل السحري والرائع القادم من وراء البحار دون أن أقدِّم بديلاً! لكن زميلي لم يستمع بدقةٍ إلى التصريحات الأمريكية التي أكّدت مراراً أنها "لن" تُسْقِطَ النظام، وأنها غير معنيةٍ أصلاً بذلك، كما أن حماسته الخطابية للدفاع عن "دماء الشهداء" قد منعته من رؤية "دماء الشهداء" الذين سيسقطون بضربةٍ أمريكية.
حال زميلي المؤيد ليس بأفضل، فهو عدا عن ولعه المثير للاستغراب ببشار الأسد، واختزاله للوطن في هذا الشخص الذي أثبت فشلاً ذريعاً في إدارة الدولة التي دخلتْ في كارثةٍ أليمة، فإنه يتّهم، وفي صورة تلقائيةٍ، كلَّ معارضٍ للنظام بخيانة الوطن، في دمجٍ ساذجٍ للمفاهيم. زميلي المؤيد لا يستوعب السيادة إلا في حدود الضربة الأمريكية المزعومة، وكم كنت أتمنى عليه لو أنه يأخذ موقفاً مماثلاً فيما يخص كل التدخلات الإقليمية والدولية التي جعلت من السيادة، وبكلِّ أسفٍ، قضيةً للاستهلاك الخطابي المؤدلج. زميلي لا يرى سوى الدماء التي "سوف" تسفك بالأسلحة الأمريكية، في حين أنه يغضُّ النظر عن الدماء السورية التي كانت وما تزال تسفك بسلاحٍ سوري، ويغض النظر عن الدمار الهائل والخراب العميم، وعن ملايين الـمُهَجَّرين والنازحين واللاجئين. أما حين تتم معارضة النظام، باعتباره أساس الكارثة التي تكتسح سوريا، فإن زميلي المؤيد يسارع إلى القول: إذن أعطني حلاً!
هؤلاء الزملاء نماذج من آلاف السوريين "المثقفين"، الذين يعيشون حياةً آمنةً في بقاعٍ جغرافيةٍ تبعد آلاف الكيلومترات عن قصف النظام ودماء الشهداء. أما العبارة التي يتم ترديدها "إذن أعطني حلاً"، فهي غالباً ليست بقصد الحصول على إجابة، وليست بقصد البحث عن حلٍّ أساساً، بل هي محاولةٌ للالتفاف الكَيْدي، وللهروب من مسؤولية التعليل الرصين للمواقف التي يتخذها المرء. كما أن كثيراً ممن يستخدم هذه العبارة يستخدمها من باب "فض العتب"، وكتمهيدٍ لتثبيت وجهة نظره العنفية التي لم تتغير، ولم تخضع لأيِّ مراجعةٍ نقدية، على رغم كل المآسي والتراكمات الأليمة. ويعكس ما سبق عقليةً مبرمجةً على التشبث بالرأي، وعلى اللجوء إلى رفضٍ مطلقٍ ومباشرٍ لأيِّ طرحٍ حول أي حلٍّ إن كان يخالف الـمُسلَّمات والآراء السائدة عند أصحاب الصوت العالي؛ آراءٌ ومسلماتٌ يسهم في صناعتها أشخاصٌ مرتاحون وبعيدون عن الحدث الأليم، أو أشخاصٌ داخل الحدث الأليم لكنهم مستفيدون من استمراره.
كما تُخْفِي هذه العبارة "إذن أعطني حلاً" في ثناياها جرعةً عاليةً من اليأس، وحالةً من الاعتماد الـمُطْلَق على مُخَلِّصٍ ما، وصدمةً عميقةً بسبب عدم القدرة على تحويل الحلم إلى واقع؛ فقد صدق المؤيديون النظام وصدّقوا ادعاءاته بأن الأزمة "خلصت"، وصدّق المعارضون نجوم التلفزيون الذين يتحدثون عن خلاصٍ قريب. لكن يبدو أنهم يخشون الاعتراف بأن الأطراف التي ما فتئتْ تبيعهم الوهم وتحدثهم عن نصرٍ قريب، وبأن الأطراف التي تحدّثت بالنيابة عنهم طيلة سنتين قد كذبتْ عليهم. ويخشون الاعتراف بحالة الحضيض التي تعيشها سوريا، والتي ساهم السوريون، بكل اصطفافاتهم، في الوصول إليها.
لقد اتخذت كل الأطراف العنفية، وذات الصوت العالي، من الكذب منهاجاً تسير عليه، وتتاجر من خلاله بدماء السوريين. وقد ترك هذا الكذب آثاراً في منتهى السلبية؛ فقد أسّس لعمليةٍ هدّامةٍ تقتل الأمل في قلوب السوريين، وتدمّر احتمالات بناء الثقة في مجتمعٍ أوْغل الاستبداد، وعلى مدى عقودٍ، في تفريغه من الثقة.
في رأيي ما زال قطاعٌ من السوريين الحريصين على ما تبقى من الوطن السوري قادراً على فرز الأحداث وتحليلها، بعيداً عن الكذب المجاني الممزوج بالأمل الخداع، وبعيداً عن الانجراف الأعمى وراء شهوة الثأر والتشفّي. ومع التسليم بأن هذا القطاع لا يملك حلولاً جاهزةً ومسبقة الصنع (وهذا ينطبق بالمناسبة على جميع اللاعبين العنفيين واللاعنفيين، الداخليين والخارجيين)، إلا أنه قادرٌ على استشعار أين يكمن "اللا حل"، وقادرٌ على التحذير منه داعياً إلى اجتنابه، حتى لو أدى ذلك إلى سباحةٍ عكس الخطاب السائد. ينطبق هذا، على سبيل المثال، على رفض الضربة الأمريكية المزعومة، وعلى رفض المقاربة الأمنية العسكري، وعلى التحذير من أوهام الحسم العسكري وغيرها من الممارسات التي كانت وبالاً على سوريا وشعبها.
أخيراً لعلّه مما يُؤْسَفُ له هو أن هذا القطاع السوري، الحريص على ما تبقى من سوريا، ذو صوتٍ ضعيفٍ لا يقوى على مقارعة الأطراف ذات الحظوة الإعلامية، ولا يملك الأدوات اللازمة التي تؤهله للتسويق لوجهة نظره في صورةٍ فعالة وقابلةٍ للترجمة على المستوى العملي (وهذه الملاحظة إشارةٌ صارخةٌ إلى الفشل الذي رافق هذا القطاع حتى الآن). مع التأكيد على أن هذا الصوت العاقل يمكن أن يلقى استجابةً من شرائح واسعة من المجتمع السوري على مختلف اصطفافاتها، فالغالبية الساحقة من السوريين تتمنى وضع حدٍّ لهذه المقتلة العبثية. لكن مع شبه غياب هذا الصوت العاقل عن الساحة السورية، تتكرَّس حالةٌ من الشلل والاستعصاء، ما يجعل المأساة مرشَّحةً للاستمرار والتصعيد على يد أصحاب الآراء العنفية وتجار الدماء، ويضع سوريا تحت رحمة توافقٍ دوليٍّ لن يكون للسوريين دورٌ فيه.