إذن أعطني حلاً للمأساة السورية! - مقالٌ منشورٌ في صحيفة القدس العربي


 

انفجار للفنانة فاتن العطار



رابط المقال من موقع صحيفة القدس العربي: http://www.alquds.co.uk/?p=83615
إذن أعطني حلاً! يقول زميلي المعارض موجّهاً كلامه لي حين يعرف أني معارضٌ للنظام، ولكلِّ من يسير على نهج النظام في استباحة حق الحياة والحريات الأساسية، وأني معارضٌ للضربة الأمريكية المزعومة. مشكلة زميلي أنه غارقٌ في الافتراضات؛ يفترض أن مؤيدي بشار الأسد هم الوحيدون الذين يعارضون الضربة، وبأن كل المعارضين يلهجون بالدعاء ليل نهار لتسريع القرار الأمريكي، وبأن الضربة الأمريكية هي، وهي وحدها، الحل المنشود. ثم يحوّل زميلي هذه الافتراضات إلى حقائق مسلّمةٍ لا تقبل الدَّحض والمساءلة، ثم يهاجمني بناءً على كلِّ ذلك لأني، على حدِّ قوله، مولعٌ بالتنظير الفارغ وبعرقلة الحل السحري والرائع القادم من وراء البحار دون أن أقدِّم بديلاً! لكن زميلي لم يستمع بدقةٍ إلى التصريحات الأمريكية التي أكّدت مراراً أنها "لن" تُسْقِطَ النظام، وأنها غير معنيةٍ أصلاً بذلك، كما أن حماسته الخطابية للدفاع عن "دماء الشهداء" قد منعته من رؤية "دماء الشهداء" الذين سيسقطون بضربةٍ أمريكية.
حال زميلي المؤيد ليس بأفضل، فهو عدا عن ولعه المثير للاستغراب ببشار الأسد، واختزاله للوطن في هذا الشخص الذي أثبت فشلاً ذريعاً في إدارة الدولة التي دخلتْ في كارثةٍ أليمة، فإنه يتّهم، وفي صورة تلقائيةٍ، كلَّ معارضٍ للنظام بخيانة الوطن، في دمجٍ ساذجٍ للمفاهيم. زميلي المؤيد لا يستوعب السيادة إلا في حدود الضربة الأمريكية المزعومة، وكم كنت أتمنى عليه لو أنه يأخذ موقفاً مماثلاً فيما يخص كل التدخلات الإقليمية والدولية التي جعلت من السيادة، وبكلِّ أسفٍ، قضيةً للاستهلاك الخطابي المؤدلج. زميلي لا يرى سوى الدماء التي "سوف" تسفك بالأسلحة الأمريكية، في حين أنه يغضُّ النظر عن الدماء السورية التي كانت وما تزال تسفك بسلاحٍ سوري، ويغض النظر عن الدمار الهائل والخراب العميم، وعن ملايين الـمُهَجَّرين والنازحين واللاجئين. أما حين تتم معارضة النظام، باعتباره أساس الكارثة التي تكتسح سوريا، فإن زميلي المؤيد يسارع إلى القول: إذن أعطني حلاً!
هؤلاء الزملاء نماذج من آلاف السوريين "المثقفين"، الذين يعيشون حياةً آمنةً في بقاعٍ جغرافيةٍ تبعد آلاف الكيلومترات عن قصف النظام ودماء الشهداء. أما العبارة التي يتم ترديدها "إذن أعطني حلاً"، فهي غالباً ليست بقصد الحصول على إجابة، وليست بقصد البحث عن حلٍّ أساساً، بل هي محاولةٌ للالتفاف الكَيْدي، وللهروب من مسؤولية التعليل الرصين للمواقف التي يتخذها المرء. كما أن كثيراً ممن يستخدم هذه العبارة يستخدمها من باب "فض العتب"، وكتمهيدٍ لتثبيت وجهة نظره العنفية التي لم تتغير، ولم تخضع لأيِّ مراجعةٍ نقدية، على رغم كل المآسي والتراكمات الأليمة. ويعكس ما سبق عقليةً مبرمجةً على التشبث بالرأي، وعلى اللجوء إلى رفضٍ مطلقٍ ومباشرٍ لأيِّ طرحٍ حول أي حلٍّ إن كان يخالف الـمُسلَّمات والآراء السائدة عند أصحاب الصوت العالي؛ آراءٌ ومسلماتٌ يسهم في صناعتها أشخاصٌ مرتاحون وبعيدون عن الحدث الأليم، أو أشخاصٌ داخل الحدث الأليم لكنهم مستفيدون من استمراره.
كما تُخْفِي هذه العبارة "إذن أعطني حلاً" في ثناياها جرعةً عاليةً من اليأس، وحالةً من الاعتماد الـمُطْلَق على مُخَلِّصٍ ما، وصدمةً عميقةً بسبب عدم القدرة على تحويل الحلم إلى واقع؛ فقد صدق المؤيديون النظام وصدّقوا ادعاءاته بأن الأزمة "خلصت"، وصدّق المعارضون نجوم التلفزيون الذين يتحدثون عن خلاصٍ قريب. لكن يبدو أنهم يخشون الاعتراف بأن الأطراف التي ما فتئتْ تبيعهم الوهم وتحدثهم عن نصرٍ قريب، وبأن الأطراف التي تحدّثت بالنيابة عنهم طيلة سنتين قد كذبتْ عليهم. ويخشون الاعتراف بحالة الحضيض التي تعيشها سوريا، والتي ساهم السوريون، بكل اصطفافاتهم، في الوصول إليها.
لقد اتخذت كل الأطراف العنفية، وذات الصوت العالي، من الكذب منهاجاً تسير عليه، وتتاجر من خلاله بدماء السوريين. وقد ترك هذا الكذب آثاراً في منتهى السلبية؛ فقد أسّس لعمليةٍ هدّامةٍ تقتل الأمل في قلوب السوريين، وتدمّر احتمالات بناء الثقة في مجتمعٍ أوْغل الاستبداد، وعلى مدى عقودٍ، في تفريغه من الثقة.
في رأيي ما زال قطاعٌ من السوريين الحريصين على ما تبقى من الوطن السوري قادراً على فرز الأحداث وتحليلها، بعيداً عن الكذب المجاني الممزوج بالأمل الخداع، وبعيداً عن الانجراف الأعمى وراء شهوة الثأر والتشفّي. ومع التسليم بأن هذا القطاع لا يملك حلولاً جاهزةً ومسبقة الصنع (وهذا ينطبق بالمناسبة على جميع اللاعبين العنفيين واللاعنفيين، الداخليين والخارجيين)، إلا أنه قادرٌ على استشعار أين يكمن "اللا حل"، وقادرٌ على التحذير منه داعياً إلى اجتنابه، حتى لو أدى ذلك إلى سباحةٍ عكس الخطاب السائد. ينطبق هذا، على سبيل المثال، على رفض الضربة الأمريكية المزعومة، وعلى رفض المقاربة الأمنية العسكري، وعلى التحذير من أوهام الحسم العسكري وغيرها من الممارسات التي كانت وبالاً على سوريا وشعبها.
أخيراً لعلّه مما يُؤْسَفُ له هو أن هذا القطاع السوري، الحريص على ما تبقى من سوريا، ذو صوتٍ ضعيفٍ لا يقوى على مقارعة الأطراف ذات الحظوة الإعلامية، ولا يملك الأدوات اللازمة التي تؤهله للتسويق لوجهة نظره في صورةٍ فعالة وقابلةٍ للترجمة على المستوى العملي (وهذه الملاحظة إشارةٌ صارخةٌ إلى الفشل الذي رافق هذا القطاع حتى الآن). مع التأكيد على أن هذا الصوت العاقل يمكن أن يلقى استجابةً من شرائح واسعة من المجتمع السوري على مختلف اصطفافاتها، فالغالبية الساحقة من السوريين تتمنى وضع حدٍّ لهذه المقتلة العبثية. لكن مع شبه غياب هذا الصوت العاقل عن الساحة السورية، تتكرَّس حالةٌ من الشلل والاستعصاء، ما يجعل المأساة مرشَّحةً للاستمرار والتصعيد على يد أصحاب الآراء العنفية وتجار الدماء، ويضع سوريا تحت رحمة توافقٍ دوليٍّ لن يكون للسوريين دورٌ فيه.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق