(صورةٌ مؤلمةٌ للدمار الذي أصاب الجامع الأموي في حلب - وتبدو في يسار الصورة المئذنة التاريخية التي تم تدميرها)
المشهد السوري، وبالذات في
صيغته العنفية الدموية، مثالٌ صارخٌ عن العلاقة النفعية المادية بين الدين
والمصلحة السلطوية. كلنا ربما يتذكر ذلك "الشيخ" الذي وقف، في تموز 2012، على منبر
جامع صلاح الدين في حلب ممتشقاً سيفاً ومتنكباً برشاش!
المشهد المذكور بكامله ليس
سوى رضٍّ بصريٍّ يتجمّد فيه التاريخ: المظهر واللغة والأسلوب كلها مطروحةٌ ضمن قوالب تعود بنا، عبر الزمن، إلى
الوراء. يضاف إلى ذلك كارثة تحويل الجامع إلى مقرٍّ لإعلان "الحرب
المقدسة". أما أكثر ما يخيف في كل هذا فهو الجمهور/القطيع؛ الجمهور الجالس في
المسجد، والجمهور الجالس وراء الشاشة. ففي الحالتين تهليلٌ وتصفيقٌ ساذجٌ وقطيعيٌّ
وسط صيحات "الله أكبر"؛ تلك العبارة التي تم تفريغها، وبكلِّ ألمٍ، من
روحانيتها، والتي ما عدنا نسمعها إلا في سياق سفك الدم، أو الدعوة إلى سفك الدم.
كثيرةٌ هي مشاهد الفيديو التي
تظهر مقاتلين يدّعون معارضة بشار الأسد، وهم يتخذون من المساجد متاريس، ومن المآذن مَقَراتٍ للقنّاصة (يفعل النظام الأمر ذاته بالمناسبة). لكن للوهلة
الأولى يقف تعريض المساجد للضرر والأذى في تناقضٍ مع الخطاب والمظهر الديني الذي يختبئ وراءه هؤلاء. فالقضية برُمَّتِها
نفعيةٌ بَحْتَةٌ: إنْ لم يقصفهم نظام الأسد فالمكسب مع "المجاهدين"
الذين يتّخذون من المساجد دروعاً لهم، وإنْ قصفهم نظام الأسد (كما يفعل عادةً بكلِّ
لؤم) فإن البروباغندا "الجهادية" ستلوكُ، وببراءةٍ مبتذلةٍ، أولئك "الزنادقة
والكفار" الذين يقصفون بيوت الله.
المرعب في الأمر هو أن أحداً من "المثقفين
السوريين" أو "الشيوخ المعتدلين" لم يتجرأ، ولم يمتلك الشجاعة (إن لم نقل يبادر أو يمنع) على طرح
أسئلةٍ من قبيل: لماذا يتم تحويل المساجد إلى مستودعاتٍ للذخيرة والمسلحين أصلاً؟
لماذا يتم زجُّ بيوت الله أصلاً في معركةٍ بغيضةٍ مع نظامٍ مجرمٍ نعلم مسبقاً أنه
لا يمتلك أدنى مستوىً من الحس الأخلاقي؟ فإنْ كانت القضية متعلقةٌ بحماقة وجهل القائمين
على ذلك فإنه من الأجْدى على هؤلاء الحمقى والجهلة أن يتركوا هذا الأمر لمن هم أهلٌ
له، فسوريا ليست في حاجةٍ إليهم وإلى حماقاتهم وجهالاتهم. وإن ْكان في الأمر نيةٌ مُبَيّتَةٌ
وقصدٌ ماديٌّ فإنه تحقيرٌ للمساجد لا يختلف من حيث الجرمية عن التحقير
الذي يمارسه النظام (مع الإشارة إلى أن مسؤولية من يدّعي الدفاع عن الدين مضاعفة).
في الفقه الإسلامي (إنْ أردنا
إبقاء النقاش في دائرة الفكر الإسلامي) فالمسؤول عن الجريمة –قصف مئذنة مسجدٍ ما
على سبيل المثال- ليس فقط من ارتكبها، بل من سهَّل هذه الجريمة ودعا إليها. الحديث
يطول ولا شك، بخاصة حين نسمع أنباءً تقول أن بعض الكتائب قد أصدرتْ فتاوى محلّية
تجيز تدمير المآذن، وتصوير تدميرها، إنْ كان لذلك –على حدِّ زعم من أصدر هذا
الفتاوى- دورٌ في "جمع كلمة المسلمين وحشدهم وإعلاء شوكتهم ضد أعداء
الإسلام"! أقف في حيرةٍ من أمري وأنا أسعى، في هذا السياق الأليم، إلى
تحديد من هم "أعداء الإسلام"، أو من هم "الأشد عداءً للإسلام".
وسواءً صحّت هذه الأنباء أم لم تصح، فإن لدى من يتخذ من الدين مَطِيّةً لأهوائه سجلٌ
حافلٌ بالانتهاكات التي لا تقف عند حدود المآذن، بل تتعداها إلى نفوس البشر التي
هي أعظم حرمةً عند الله من الكعبة.
أخيراً، ووسط هذه الحيرة ينتابني
نوعٌ من اليقين: لماذا لم ينصر الله هؤلاء؟ (مع إبقاء النقاش، مرةً أخرى، في دائرة الفكر
الإسلامي). وهنا علينا أن نُذَكِّرَ أنفسنا دائماً بأن القانون الأخلاقي الذي يقوم عليه الدين يقول ببساطةٍ
شديدة: الغاية، مهما عَظُمَتْ، لا تبرر الوسيلة، فكيف إنْ كانت تلك الوسيلة هي
الدين الذي بات مجرّد سلعةٍ معروضةٍ للمتاجرة؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق