الجرح السوري وعقلية الكَيْد والجَكَر



(طبقات إلى السماء للفنانة سحر برهان)

بعض السوريين يحرقون بلدهم كي يثبتوا أنهم على صواب؛ فالكَيْدية والجكر وتكسير الرؤوس، ومبدأ "عليَّ وعلى أعدائي وعلى أصدقائي وعلى الجميع"، تهدف إلى خلق حالةٍ متوهمةٍ من الرضا الذاتي المفعم بالأنانية والنرجسية. ووسط كل هذا تتنحّى الحقيقة جانباً بخاصة إنْ خالفت الأهواء والأمزجة، وسط معاناة السوريين الأكثر فقراً وتهميشاً، ووسط تفريغٍ ممنهجٍ لسوريا من العناصر المتنورة، وصعودٍ مخيفٍ للقوى العدمية والعنفية.
في بداية الانتفاضة كان النظام هو المجرم الوحيد، وكان التأكد من ملابسات الجريمة عمليةً سهلةً ومتاحةً نوعاً ما. لكن الصورة قد تغيرت، ولم يعد النظام وحده، بل صار أحد القتلة في ساحةٍ مكتظةٍ بالقتلة؛ لكنه يبقى القاتل الأكبر والمسبب الرئيسي لهذه البلايا التي أصابت وطننا. فعدا قوات النظام والميليشيات التابعة له، وعدا عن الكتائب الإسلاموية وغيرها، فقد صارت البلد مفتوحةً تعبثُ بها كلُّ مخابرات العالم، ومن السذاجة الاعتقاد أن القوى العظمى والإقليمية قد تركت السورية الساحة دون أن تشتري الذمم، وتصنع دُمىً تابعةً لها تؤمِّن لها موطئ قدمٍ، سواء الآن أو في المستقبل.
معظم المشتغلين في الشأن العام، بخاصة خارج البلاد، منغمسون في خطابٍ إعلاميٍّ عاطفيٍّ وشعاراتٍ مجوّفة لا علاقة لها من قريبٍ أو بعيدٍ بأيِّ اشتغالٍ حقيقيٍّ قادرٍ على تحقيق انفراجٍ ما. يضاف إلى ذلك أن كثيراً من الناشطين من أصحاب الصوت العالي لا يستوعب التدهور المأساوي الذي طرأ على المشهد السوري، أو بالأحرى يرفض أن يستوعبه بمزيجٍ من العنفوان والتشكيك وتحت طائلة التخوين، أو يرفض الاعتراف به ظاهرياً حفاظاً على حلمٍ خرج من أجله، أو يحاول تكذيبه باستخدام خطابٍ مكررٍّ اعتاد ترديده.
لكن كل هذه المواقف لا تغير من حقيقة الأمر: فالتدهور الذي طرأ على المشهد السوري هو جزءٌ من واقعٍ أليمٍ لا بُدَّ من إدراكه، والتعامل معه، دون الارتهان إلى الثنائية المبسطة نظام/ثورة. فهذه الثنائية المثالية، التي كانت الأساس المنشود والمفترض في المشهد السوري، قد باتتْ عاجزةً عن تفسير التعقيدات التي تراكمتْ فيه على مدى أكثر من سنتين، وصار لزاماً على كافة الناشطين المخلصين أن يعيدوا ترتيب قراءتهم لما يحدث دون أن يترددوا في حشر الأطراف العنفية، التي تسير على نهج النظام، في خانة النظام حتى لو جاهرتْ تلك الأطراف بعدائها له.
عجزُنا عن إدراك ذلك هو جزءٌ من عجزِنا عن إيجاد حلٍّ ينهي الكارثة التي تحلُّ بسوريا والسوريين، وهو انعكاسٌ لحالة عجزٍ مستقبليٍّ عن إدارة بلدٍ مُهِمٍّ كسوريا التي باتت، وبكلِّ أسفٍ، ساحة نزاعٍ مستمرٍ بين مصالح القوى الإقليمية والدولية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق