نحن والغرب: صورتنا بين المرسوم والرسام - مقال منشور في صحيفة الحياة


لقراءة المقال من موقع الصحيفة الرجاء الضغط هنا 

بينما يقف "المرسوم" جامداً وصامتاً ومستسلماً كي يُرْسَم، يحمل الرسّام ريشته كي يَرْسُم، لتنتج من هذه المواجهة بين الرسام والمرسوم صورةٌ ترتسم في اللوحة. وعلى سبيل الاستعارة والتشبيه، يمكن إسقاط هذه العلاقة بين "المرسوم والرسام" على العلاقة المشوَّهة التي تجمعنا "نحن"، الذين نقطن المنطقة المسماة بالشرق الأوسط، مع "الغرب" (وهو مصطلحٌ غير دقيق).



تاريخياً فقد أخذنا "نحن" موقعنا كمرسومٍ، وأخذ "الغرب" موقعه كرسامٍ، في مرحلةٍ كنّا فيها على هامش صناعة التاريخ؛ أي منذ تدشين الحداثة، وسيطرة "الغرب" على القوة المادية العلمية/التقنية، وصعود الحركات الاستعمارية الكبرى كمظهرٍ مظلمٍ للتنوير الأوروبي. وتقدِّمُ هذه العلاقة المشوَّهة مثالاً صارخاً على تفوُّق "الغرب" وإمساكه بالسلطة، وعلى خضوعنا الطَوْعي والبائس لتلك السلطة التي تتجلّى على مستوى الممارسة والخطاب.
فعلى مستوى الممارسة يغدو "الغرب"/الرسام، بامتلاكه للريشة وبقدرته على استخدامها، متحكِّماً بزمام المشهد: بممارسة إرادته الحرّة في إنتاج الصورة، وبتحديد محتوى هذه الصورة. أما "نحن"، فبأخذنا موقع المرسوم بجمودٍ وصمتٍ واستسلام، فإننا نتخلّى عمليّاً عن كلِّ إرادةٍ ومبادرةٍ حرة وممارسةٍ فاعلة، لنغدو مُجَرَّدَ موضوعٍ منفعلٍ لصورةٍ لا دور لنا فيها؛ موضوعٍ يخضع بصمتٍ لممارسة "الغرب"/الرسام الذي يرسمنا ويفرض إرادته على صورتنا: بدءاً بتحديد ملامحنا، وإسباغ الصفات علينا، وانتهاءً بتقسيم الأحياز وحشرنا فيها، وتعيين الحدود التي تفصلنا عنه، وتفصله عنا.
أما على مستوى الخطاب فيبدو "الغرب"/الرسام وكأنه يدخل في حوارٍ معنا "نحن"/المرسوم. ومع أننا موضوعٌ لهذا الحوار، إلا أنه حوارٌ يغيب عنه التكافؤ: حوارٌ بين "الغرب" الذي يستأثر بالخطاب (نتيجة امتلاكه السلطة)، وبيننا "نحن" الذين نفتقر إلى القدرة على قول الخطاب (نمتلك فقط، وفي أحسن الأحوال، فرصة الاستماع الحَصْري إلى خطاب "الغرب"). وفي مرحلةٍ تاليةٍ يتم تفريغ الحوار من محتواه ليتحوَّل، تلقائياً، ليس فقط إلى حوارٍ شكليٍّ، بل إلى حوارٍ ذاتيٍّ يمارسه "الغرب" مع نفسه، قبل أن يفرضه لاحقاً علينا.
وقد وصلت صورتنا التي رسمها "الغرب" لنا، وبالنيابة عنا، ذُرْوَةَ وقاحتها ونَمَطِيَّتِها مع مدارس الاستشراق الكلاسيكي إبّان القرن التاسع عشر. إذ ركزت تلك المدارس، انتقائياً، على بعض الصفات الموجودة فينا، وقامت بتضخيمها كاريكاتورياً وتقديمها في صورةٍ نمطيةٍ تخلو من الحركة والألوان؛ لتبدو وكأنها قطعةٌ من البروباغندا الثقافية الساكنة والمتخشبة، وتكون ترجمةً لما أراده "الغرب"، باحتكاره للسلطة، أن يراه فينا. وبناءً على هذه الصورة النمطية، نتجسَّدُ "نحن" في جماعاتٍ، منفصلةٍ شاقولياً، تَسُود داخل كلٍّ منها حالةٌ مطلقةٌ من التجانس والجمود واللاعقلانية، فيذوب الفرد في الجماعة ويتلاشى، ليتبع قيماً وتقاليد واحدة وشمولية، ويخضخ طواعيةً "للاستبداد المشرقي" الذي يقمع هذه الجماعات المتنافرة ويحكمها: بحذاء جنرالات العسكر و/أو عمامة رجال الدين.
أما "نحن" فقد عمدنا، وبكلِّ انبهارٍ، إلى استقبال صورتنا التي رسمها "الغرب"، وإلى استخدامها كوسيلةٍ للانعزال عن هذا العالم: فـ "نحن" الشرق الغامض، والعالم الإسلامي، والشرق الأوسط/الأدنى، والمذهب الفلاني، والقومية الفلانية إلخ؛ صورةٌ لم نرسمها اعتماداً على أنفسنا "نحن"، ولا استناداً إلى حقيقتنا الكاملة، بل استوردناها جاهزةً عبر "تَقَمُّصِ" الصورة المجتزأة التي رُسِمَتْ لنا!
ومع صدمة اللقاء الأليم مع "الغرب"، ومقدمات اليقظة المجهضة التي عمَّت المنطقة منذ أواسط القرن التاسع عشر، أصابنا شعورٌ بالغَبَن، وبأن الصورة المرسومة لنا ليست دقيقةً. وللأسف لم يفضي ذلك بنا إلى مراجعةٍ ذاتيةٍ شاملةٍ تعالج العطالة الكامنة فينا، بل أنتج ارتكاساً ثانوياً رمى باللائمة على "الغرب"/الرسام، مُحَمِّلاً إيّاه كامل المسؤولية: فتعمّق انعزالنا عن العالم، لنعلن كراهية "الغرب" والعداوة معه، مع الاكتفاء بحثِّه، في أفضل الحالات، على تعديل الصورة كي تصبح أكثر إرضاءً لنا.
هنا تأسستْ، في واقعنا المعاصر، "مُسَلَّمَةٌ ثقافيةٌ" مشحونةٌ بتناقضٍ فجٍّ: نقنع أنفسنا بأننا نكره "الغرب"، لكننا، بالتوازي، نسلّم ونرضى بأن يرسم "الغرب" صورتنا، لنكتفي بالاعتراض، من حينٍ لآخر، على محتوى هذه الصورة فقط.
وتستفحل "المسَلَّمَةُ الثقافية" بتكريسها لافتراقٍ غير قابلٍ للاندمال بيننا "نحن" وبين "الغرب"، ما يوسع الهُوَّةَ التي تفصلنا عنه، و يجعل التلاقي معه متعذراً. وبدلاً من علاقة الانفتاح والاندماج الثقافي التي وسَمَتْ، على سبيل المثال، مرحلة الإسلام المبكر، تغدو العلاقة مع "الغرب" مشوَّهةً ومَوْسُومةً بالصدام الممزوج بالخضوع.
وعملياً تسهم هذه "المسَلَّمَة"، وما تشتمل عليه من تناقضٍ وافتراق، في ترسيخ صورتنا النمطية، وفي تحويلها من منتجٍ من منتجات "الغرب"، إلى جزءٍ من ذاتنا التي ندَّعي مجابهة "الغرب" بها. وبهذا أصبح للصورة دورٌ أكبر من كونها مُجَرَّدَ صورة: فهي مرجعيةٌ متكاملةٌ نقيس ذاتنا عبرها، ونكوِّن ذاتنا من خلالها؛ تاريخنا، أصالتنا، تقاليدنا، ذائقتنا الجمالية، وموقفنا من "الغرب"، وعلاقتنا معه، وعلاقتنا مع بعضنا البعض، ووعينا المشوَّه لذاتنا. وهكذا تغدو صورتنا، بعد أن نتقمَّصَها، "سبباً" من أسباب وجودنا في هذا العالم، وانعزالنا عنه في الوقت نفسه: إذ لا يكتمل وجودنا/انعزالنا دون الصورة! وبما أن الصورة من منتجات "الغرب"، فهذا يعني ضمناً، أنه لا يكتمل وجودنا/انعزالنا دون "الغرب" الذي نجاهر بعدائه!
تخلق "المسَلَّمَة الثقافية" حلقةً مفرغة: معاداة "الغرب" ظاهرياً، والتواطؤ اللاواعي مع هذا "الغرب" ضمنياً؛ مواجهةٌ صاخبةٌ مع "الغرب" لكن بعد الخضوع إلى سلطته والتسليم بها، ومجابهةٌ صارخةٌ ضد "الغرب" لكن بعد أن نحتفي بمنتجاته بما فيها الصورة التي يرسمها لنا (وإنْ لم تعجبنا).
وكلّما تعمَّق الشعور بالانكسار قبالة تفوُّق "الغرب"، وكلّما تعمَّق الإحساس بمرارة الكرامة الجريحة والمتضخمة والمحقونة إيديولوجياً بطريقةٍ ممنهجة (في نطاق الأسرة والمدرسة والإعلام إلخ)، ازداد البغض الموجَّه نحو "الغرب"، وازداد، للمفارقة، الاعتماد البائس عليه لإكمال وجودنا وتوكيده! ومع نمو اليقين باستحالة المواجهة وعبثيتها على أرض الواقع يترسخ اليأس والإحباط، ويتحوَّل الشعور الدفين والمتنامي والمتوهَّم بالدُّونية إلى شعورٍ معاكسٍ وسافرٍ بالاستعلاء على "الغرب" وازدرائه، مع انزلاقٍ محتومٍ في متاهاتٍ عنفيةٍ ومتطرفةٍ وعَدَمِيّة.
تلعب هذه "المسَلَّمَة الثقافية" دوراً رئيسياً في خلق، واستمرار، "الحالة البرزخية" التي تعيشها منطقة الشرق الأوسط، والتي تتلاطم وتتصادم فيها قيم الحداثة والعصور الوسطى. وعليه، وفي سبيل تفكيك "الحالة البرزخية" المذكورة، فلا بدَّ من التحرر من أسْرِ "المسَلَّمَة الثقافية". تحررٌ لا يمكن له أن يتم بمُجَرَّدِ الاعتراض السطحي على محتوى الصورة التي رسمها "الغرب" لنا، أو بإعلاننا اليائس لكراهيتنا له وحقدنا عليه. بل بمقاربةٍ جذريةٍ وذاتيةٍ تتجاوز أزمة الانبهار والاعتماد الضمني على "الغرب"، وتتجاوز عقدة البغض والكراهية السافرة له، وتحوِّل العلاقة المشوَّهة معه إلى علاقةٍ صحيةٍ تنبذ الانعزال، وتستند إلى الندّية وقيم الانفتاح والأنسنة.
وأخيراً، يحتاج هذا التحرر، بلا شك، إلى جهدٍ وتعاونٍ مشتركٍ بيننا وبين "الغرب"، لكنه مشروطٌ بخطوةٍ أولى: أن نرفض القبول بموقع المرسوم بالأساس، وأن نرفض أخذ "الغرب" لموقع الرسام بالأصل، وأن نسعى إلى امتلاك ريشةٍ نرفعها، ومرآةٍ نقف قبالتها، لنرسم صورتنا كما "نحن" على حقيقتنا، ولنكون "نحن" الرسام والمرسوم. 


لقراءة المقال من موقع الصحيفة الرجاء الضغط هنا


ماريان: رمزٌ فرنسيٌّ للتلازم بين "الحرية والعقل"





يبرز وسط "ساحة الأمّة" في باريس تمثالٌ برونزيٌّ من عمل النَحَّات الفرنسي "جول دالو Jules Dalou" (ت. 1902م). ويمثل هذا التمثال، الذي تبدو صورته إعلاه، "ماريان Marianne"؛ تلك الشابة الفرنسية الأسطورية، التي تعتبر رمزاً من رموز الجمهورية في فرنسا، والتي تحملُ، بملابسها البسيطة وحضورها في الذاكرة الوطنية، دلالةً على القطيعة مع النخبوية الأرستقراطية التي سادتْ قبل الثورة الفرنسية. كما تعكس "ماريان"، في أدبيات الثوريين الفرنسيين، تلازماً رمزياً ومهماً بين "الحرية والعقل"؛ تلازمٌ رمزيٌ يقف في تضادٍ نافرٍ مع السَّرْدِيّة الدوغمائية التي شاعتْ عبر قرونٍ من التاريخ البشري. 
لم يكن تلازم "الحرية والعقل"، وصعود هذا التلازم، حِكْراً على فرنسا، بل كان ظاهرةً انتشرت على مستوى الممارسة والخطاب العام، ورافقت الحداثة التي يصعب تحديدُ لحظاتٍ معينةٍ لانطلاقها. 
يبحث المقال التالي المنشور في ملحق نوافذ (رابط المقال في الأسفل) في جانبٍ من جوانب هذا الصعود، وما واجهه من رفضٍ ومقاومةٍ من قِبَلِ "النخب التقليدية" التي اعتادت الإمساك بزمام السلطة واحتكار المعرفة والاشتغال الفكري طيلة قرون. 

الفكر كضحية للنخب التقليدية: من الهيمنة السافرة إلى مواقف الرفض في عصر الحداثة - مقال منشور في ملحق نوافذ.


الفكر كضحية للنخب التقليدية:
من الهيمنة السافرة إلى مواقف الرفض في عصر الحداثة

بقلم: طلال المَيْهَني

http://www.almustaqbal.com/Nawafez.aspx?pageid=88634

يبرز وسط "ساحة الأمّة" في باريس تمثالٌ برونزيٌّ من عمل النَحَّات الفرنسي "جول دالو Jules Dalou" (ت. 1902م). ويمثل هذا التمثال "ماريان Marianne"؛ تلك الشابة الفرنسية الأسطورية، التي تعتبر رمزاً من رموز الجمهورية في فرنسا، والتي تحملُ، بملابسها البسيطة وحضورها في الذاكرة الوطنية، دلالةً على القطيعة مع النخبوية الأرستقراطية التي سادتْ قبل الثورة الفرنسية. كما تعكس "ماريان"، في أدبيات الثوريين الفرنسيين، تلازماً رمزياً ومهماً بين "الحرية والعقل"؛ تلازمٌ رمزيٌ يقف في تضادٍ نافرٍ مع السَّرْدِيّة الدوغمائية التي شاعتْ عبر قرونٍ من التاريخ البشري.



لم يكن تلازم "الحرية والعقل"، وصعود هذا التلازم، حكراً على فرنسا، بل كان ظاهرةً انتشرت على مستوى الممارسة والخطاب العام، ورافقت الحداثة التي يصعب تحديدُ لحظاتٍ معينةٍ لانطلاقها. فمع أن كتب التاريخ تنظر تقليدياً إلى اختراع الطباعة أو اكتشاف العالم الجديد أو الثورة الفرنسية وغيرها كأحداثٍ فاصلةٍ ومصيريةٍ في الإعلان عن الحداثة، إلا أنه من الأدق النظر إليها على أنها حصيلةٌ تراكميةٌ لنشاطٍ بشريٍّ إبداعيٍّ ألغى أو بَدَّلَ أو عَدَّلَ، وفي صورةٍ تدريجيةٍ، كثيراً من المفاهيم والقيم التي رَاجَتْ في عصور "ما قبل الحداثة" على المستويات الفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية. ومع انفجار الثورة العلمية وانتشار النُّظُم التعليمية التي انفصلتْ، وبنسبٍ متفاوتةٍ، عن السيطرة المباشرة للمؤسسات الدينية، حصل تغيرٌ في الطبيعة التقليدية للمعرفة والاشتغال الفكري. فتراجعت معدلات الأمية، وحصلت فئاتٌ جديدةٌ في المجتمع على حقِّ التعليم دون شرط الانتماء إلى، أو التحالف مع، "النخب تقليدية" التي اعتادت احتكار المعرفة والفكر كملمحٍ من ملامح احتكار القوة (تمت مناقشة ذلك باختصار في مقالٍ سابق: الفكر كضحية للنخب التقليدية، قراءة أولية في عصور ما قبل الحداثة. ملحق نوافذ، جريدة المستقبل، 16 حزيران 2013).
وقد تركت هذه التطورات أثرها على محتوى وانتشار المعرفة والاشتغال الفكري، بخاصة على مستوى الفكر العلمي العقلاني الذي احتلَّ حضوراً واسعاً. فخضوع الفكر العلمي العقلاني إلى ضوابط الملاحظة الحسية والتجربة والتكرار جعله متاحاً لأفرادٍ ينتمون إلى خلفيّاتٍ مذهبيةٍ وقوميةٍ وطبقيةٍ متباينة. وتَمَشِّياً مع المقولة المنسوبة إلى "فرنسيس بيكون Frances Bacon" (ت. 1626م)، أحد روّاد الثورة العلمية: "المعرفة قوة" (باللاتينية: Scientia Potentia Est)، فقد أدّى الفكر العلمي العقلاني، بعد التحامه مع الثورة الصناعية، إلى تمكين البشر، وإلى جعلهم أقْدَرَ على التحكم بالقوة المادية وتكثيفها باعتبارها، وبغضِّ النظر عن الحُكْمِ القِيَميِّ والأخلاقي، ركناً من أركان المنظومة البشرية القائمة (اختراع الطائرة، الاتصالات، الأسلحة الفتاكة إلخ).
وإذا ما تجاوزنا نقد الحداثة (وهو نقدٌ مشروعٌ ومُلِحٌّ يحتاج تفصيلاً في مقامٍ آخر) فإن من الواضح أن الحداثة قد خلقتْ فرصاً مفتوحةً، نِسْبِيّاً وظاهرياً على الأقل، أمام شرائح أوسع من الناس كي يُقَارِبُوا الحياة وِفْقَ رؤىً غير تقليديةٍ، وكي يحظوا بفُرَصٍ تعليميةٍ أفضل (بالمقارنة مع ما كانت عليه الحال قديماً).
بكل الأحوال فقد جاء التغيير الحداثي كنتيجةٍ لصعود فئاتٍ مستجدةٍ من النخب غير التقليدية: "النخب الفكرية" (أو ما يدعى بفئة المثقفين) التي اقتحمت الشأن العام، لتدخل في منافسةٍ مع "النخب التقليدية" الممسِكَة بزمام القوة والثقافة السائدة. هذا ما نراه في شكلٍ خاصٍ مع ظهور دعاة الإصلاح الديني، وبعدها مع ما يسمى بالمفكرين الأحرار، والموسوعيين الأوروبيين. ومع أن القائمين على مثل هذه الدعوات الحداثية كانوا محسوبين، في المراحل الأولى، على "النخب التقليدية"، أي لم يكونوا من الطبقات المسحوقة (التي فُرِضَ عليها أن تكون مسحوقة)، إلا أنهم اقتحموا الشأن العام بطريقةٍ غير تقليديةٍ؛ سواء عبر التعاون الانتقائي مع "نخبٍ تقليديةٍ" ذات ميولٍ تنويريةٍ، أو عبر الدعوة إلى قطيعةٍ راديكاليةٍ مع تلك "النخب التقليدية".
وفي كلتا الحالتين فقد فرضت "النخب الفكرية" نفسها كتهديدٍ حقيقيٍّ لمنظومة "ما قبل الحداثة" وللقائمين عليها من "نخب تقليدية" وذلك على مستويين: الأول عبر طرح مفاهيم وأفكار "لا مفكر بها" شَكَّكَتْ نقدياً بالمألوف والسائد، وغيّرتْ ثورياً نظرة الإنسان تجاه ذاته وتجاه الكون، أما الثاني فعبر المساءلة والسعي إلى تغيير احتكار المعرفة والاشتغال الفكري. فقد كان هذا الاحتكار سمةً بارزةً على مَرِّ التاريخ، حين كانت الجموع أسيرةً "لنخبٍ تقليديةٍ" تمتلك القوة، وتُكَبِّلُ العقل، وتقمع الفكر والحريات حفاظاً على امتيازاتها. وقبالة كل هذا، أتاح التفكير الحر والمنهجي والنقدي فرض تهديدٍ حقيقيٍّ، وغير مسبوق، لحالة التطابق والتماهي التي سادَتْ تاريخياً بين "النخب التقليدية" و"الاشتغال الفكري".
وكما هو متوقعٌ، وبدلاً من الإذعان للتبدلات التي كانت تنمو في شكلٍ حثيثٍ في سياق التغيير الحداثي، مَالَتِ "النخب التقليدية" إلى عدم الاعتراف بهذه التبدلات، وعَمَدَتْ جاهدةً إلى التمسك بامتيازاتها وتكثيف امتلاكها للقوة، عبر اتخاذها موقفاً رافضاً في وجه دعوات التغيير. وهكذا نشأتْ، نتيجةً للصدام بين المواقف المتناقضة، بين رفض التغيير والدعوة إليه، بين "النخب التقليدية" و"النخب غير التقليدية"، بين القديم والجديد، بين ما قبل الحداثة وما سيسمى لاحقاً بالحداثة، نشأت "حالةٌ برزخيةٌ".
انطلقت في سياق "الحالة البرزخية" المذكورة مواجهةٌ بين القائمين على كلٍّ من المنظومتين، حيث ووجهت دعوات التغيير بمواقف الرفض التي تقودها "النخب التقليدية" بمختلف أنماطها الدينية والسلطوية والأهلية وصاحبة رؤوس الأموال والثروة. وكان للنخب الدينية، بتماهيها مع السلطات، وباستغلالها لمشاعر الناس والتلاعب بها، دورٌ رئيسٌ في الإعلان والحشد لمواقف الرفض التي تعددت أشكالها: من الاتهام بالهرطقة والحرمان، والتكفير والتخوين، والاستهزاء والتشويه، وربط الاشتغال الفكري بالخروج على الدين أو التقاليد، وغيرها كثير.
وغالباً ما أدى الاحتقان الناتج من المواجهة إلى اضطرابٍ في "الحالة البرزخية"، مع انزلاقٍ للصراع الناجم إلى اقتتالٍ دمويٍّ ومتطرف، كما في محاكم التفتيش، والحروب الدينية الطاحنة التي اندلعتْ على خلفية الإصلاح الديني والإصلاح الديني المضاد (تحتاج هذه القضية نقاشاً في مقالٍ منفصل). ويمكن في هذا الصدد قراءة الثورات الكبرى في التاريخ الحديث، وما رافقها من حروبٍ وفظاعات، كتظاهرٍ للاضطراب في "الحالة البرزخية": اضطرابٌ نتج من تحول الصدام بين المتناقضات من الوضع الكامن إلى العلني؛ بين "النخب التقليدية" التي امتلكت المنظومة القديمة من جهة، وبين القوى التي تعمل كعرّابٍ لمنظومةٍ جديدةٍ تقطع مع الماضي من جهةٍ أخرى. وزاد تعقيد الصورة مع تحوُّل القائمين على التغيير الحداثي، للمفارقة، ومع مرور الوقت، إلى "نخبٍ تقليديةٍ" في هيئةٍ مستحدثة، ما عرّى الصراع المذكور من مرجعياته الأخلاقية والمبدئية، وحوَّله إلى صراعٍ على السلطة السيادية بين "نخبٍ تقليديةٍ" قديمةٍ و"نخبٍ تقليديةٍ" جديدةٍ تسعى كلٌّ منها إلى الاستفادة من الامتيازات واحتكار المعرفة والاشتغال الفكري والقوة بما يمكنها من الإمساك بالسلطة على حساب الشعوب.
وبالتوازي، وفي ردِّ فعلٍ على تَغَوُّل المادية العلمية التي رافقت التغيير الحداثي، نما صعودٌ ملحوظٌ، ومثيرٌ للاهتمام، في "الممارسات الغموضية occulticism" كامتدادٍ "للروحانيات mysticism" القروسطية: من سحرٍ وشعوذةٍ وتنجيمٍ وكهانةٍ وغيرها. ويبدو أن هذه "الممارسات الغموضية" قد تلاقتْ مع مصلحة "النخب التقليدية" في تلك المرحلة؛ عبر عزل المزاج العام عن الفكر العلمي العقلاني، وترسيخ الأمر الواقع، وتعزيز المواقف الرافضة للتغيير الحداثي.
وعلى النهج ذاته اتَّخَذَتِ "النخب التقليدية" في منطقتنا، التي تسمى تجاوزاً بالشرق الأوسط، مواقف رافضة للتغيير الحداثي بعد أن اعتبرته تهديداً لنفوذها. يضاف إلى ذلك أنها نظرت إلى هذا التغيير، الذي لم يكن ذاتي النشأة بل مستورداً، على أنه قادمٌ من "الآخر" المناقض للهوية. ومَنَحَ ما سبق مواقف الرفض زخماً، وشَرْعَنَها بناءً على حججٍ دينيةٍ أو قومية أو غيرها. فانتشرت الاتهامات بالتخوين، وفتاوى التكفير والتحريم، في تواطؤٍ بين مختلف أنماط "النخب التقليدية" ضد التغيير الحداثي تحت مسميّات البدعة أو الفتنة أو الحفاظ على الهوية. وهكذا غاب عن منطقتنا عاملٌ أساسيٌّ: هو "النخب الفكرية الحرة" والمنبثقة من الداخل، على حساب ظهور "نخبٍ فكرية هجينةٍ" مصابةٍ بالفصام، وتعاني عقدة نقصٍ تجاه "الآخر"، وتعيش وجودياً على ردود الأفعال: سواء عبر الوقوع الساذج في فخ المركزية الأوروبية، أو عبر القراءة الوردية والانتقائية للتاريخ والعودة إلى الوراء بغية إعادة تشكيل الماضي.
وكمثالٍ صارخٍ على مواقف الرفض تمكن الإشارة إلى واحدٍ من أهم الأحداث التي أثّرت سلباً في تطور الفكر في المنطقة: موقف "النخب التقليدية" في العصر العثماني الرافض للطباعة بالحرف العربي أو التركي (بعد اختراع الطباعة المنسوب إلى الألماني "يوحنا غوتنبرغ Johannes Gutenberg" (ت. 1468م))، وذلك اعتماداً على فتوى من بلاط السلطان بيازيد الثاني في القرن الخامس عشر (جُدِّدَتِ الفتوى في عهد ابنه السلطان سليم الأول). وقد سُمِحَ بطباعة الكتب غير الدينية بالعربية، ولأول مرةٍ في السلطنة العثمانية، في عهد السلطان أحمد الثالث عام 1728م، ولكن ذلك لم يستمر سوى لعقدٍ من الزمان قبل أن تُغْلَقَ هذه المطبعة. ولم تصبح الطباعة شائعةً في الأراضي التابعة للسلطنة إلا في القرن التاسع عشر، أي بعد ما يزيد على ثلاثة قرونٍ من اختراعها، ما خلّف فجوةً واسعةً ما زلنا نعاني من آثارها السلبية. يجب التنويه، على سبيل المقارنة، إلى أن استقبال الطباعة لم يكن سلساً من قِبَلِ "النخب التقليدية" الأوروبية التي لم تتردد على الإطلاق في قمع هذا الاختراع الجديد. لكن وجود حراكٍ فكريٍّ نَشِطٍ ومعارضٍ ومُتَنَامٍ ذي رؤيةٍ إصلاحيةٍ ساعيةٍ إلى التغيير كان له دورٌ حاسمٌ في مقارعة "النخب التقليدية"، والدفاع عن التغيير مبدئياً و/أو نفعياً (كانت الطباعة وسيلةً لنشر المعرفة وتوفير الكتاب الرخيص لعامة الناس، وأداةً لنشر الدعاية السياسية الأحادية -البروباغندا- إبان الحروب الدينية التي اجتاحت أوروبة).

وهكذا أدّى التغيير الحداثي (سواء كان ذاتي المنشأ أو مستورداً) دوراً محورياً في إطلاق مواجهةٍ بين القديم والجديد، بين احتكار الفكر أو مشاعيته، وإدخال المجتمعات في "حالةٍ برزخيةٍ" تضجُّ فيها المتناقضات وتجتمع فيها الأضداد. أسس ذلك لانزياحٍ تدريجيٍّ في قدرة "النخب التقليدية" على التحكم بالمعرفة والاشتغال الفكري: انزياحٌ من موقع الهيمنة السافرة إلى موقعٍ دفاعيٍّ يتبنى مواقف رافضة للتغيير الحداثي. ليغدو هذا الانزياح من موقع الهيمنة السافرة مُجَرَّدَ محاولةٍ يائسةٍ للحفاظ على الهيمنة السافرة بحدِّ ذاتها؛ عبر تحنيط الأمر الواقع أو إعادة إنتاجه كما كان، ودون أدنى اعتبارٍ للانزلاق المريع نحو مآلاتٍ عنفيةٍ، أو للكلفة الباهظة التي دفعها، وما زال يدفعها، الجنس البشري.

كتبٌ وإدمان: حكاية طفلٍ مع الكتب


كتبٌ وإدمان: حكاية طفلٍ مع الكتب

بقلم: طلال المَيْهَني



مذْ بدأتُ أَعِي وجودي على سطح هذه الأرض وأنا أذكر وجود خزانةٍ للكتب في منزلنا. كانت المجلدات تنتصب بصمتٍ محتلةً الرفوف، بأحجامها المختلفة، وبألوانها العديدة التي كانت تمتزج مع لون الخشب البني الغامق.
لم تكن الرفوف في تلك الفترة في متناول يدي، كما أن مهارتي المحدودة في التسلُّق كانت بالكاد تسعفني في الوصول إلى الرفِّ الأول: أنتشلُ منه كتاباً لأتربَّع على الأريكة، وأقلِّبَ الصفحات تلو الصفحات، ثم أتخيل نفسي أقرأ كما كان يفعل الكبار حولي، إلى أن تخبو روح الفضول، أو تبدأ برامج الرسوم المتحركة، أو يغالبني الجوع أو الملل أو النعاس.
لم يكن صعباً أن أستنتج أن بعض الكتب مُتْخَمٌ بالصور الملونة، في حين تندر الصور أو تغيب كلياً من كتبٍ أخرى كنت أسميها، في سِرِّي، بالكتب الحزينة لاتشاحها بالسواد. وكطفلٍ كان من البدهي أن أميل إلى الكتب المصورة والملونة: صورٌ عن الحشرات والحيوانات (وكانت تستهويني بشدة)، وعن الأطالس والأعمال الفنية من رسوماتٍ ومنحوتاتٍ وأوابد معمارية (بدأت أدرك معانيها، بعيداً عن الألوان والأشكال، بعد ان تجاوزت مرحلة الطفولة).
ومع مرور الوقت تعرفتُ على كل الكتب في الرفِّ الأول، وصار بعضها أداةً للترويح عن نفسي (كمعجم لاروس الفرنسي المليء بالصور)، ونشأتْ صداقةٌ متخيلةٌ بيني وبينها، حتى أني أطلقتُ على بعضها أسماء معينة (مثلاً سميتُ أحد الكتب باسم "نعمان" لأن لون غلافه مشابهٌ للون "نعمان" في "افتح يا سمسم"). لكن بقيت الرفوف العليا عَصِيَّةً عليَّ، وبقي الفضول يدفع بي إلى الوصول إليها واستكشافها دون جدوى، وسط غبطة والدي الذي كان يردد: سيغدو بمقدروكَ أن تصل إليها حين تكبر!
واستمر الوضع هكذا، بين تصفحٍ لكتب الكبار دون أن أفهم حرفاً أو قراءةٍ لمجلات الأطفال وبعض القصص القصيرة، إلى أن جاءت المرة الأولى التي حصلتُ فيها على هديةٍ لا تندرج تحت بند اللُّعَبْ. فقد كنتُ في الصف الثالث حين أهداني والديّ كتاباً لونه أصفر مخضر عن بحارٍ اسمه كريستوف كولومبوس (حصل أخي، وهو أصغر منّي بسنتين، على كتابٍ زهريٍّ عن ابن خلدون).
وأعتقد أن أهلي قد لاحظوا شغفي وشغف أخي بتلك الهدية، فعمدوا إلى إهدائنا كتاباً تلو الكتاب كلَّ شهر، شرط الحصول على علاماتٍ تامةٍ في الجلاء المدرسي. وهكذا مرَّتِ الشهور والسنين لتتراكم الكتب في خزانة كتبي الصغيرة: سلسلة أعلام خالدون، أعلام مبرزون، سلسلة الوقائع العربية والإسلامية، سلسلة أعلام الصحابة، سلسلة حياة الأنبياء، الموسوعة الطبيعية الميسرة، الموسوعة العلمية الميسرة (يضاف إلى ذلك كتب الألغاز مثل جماعة تختخ، والشياطين الـ 13، لكنها كانت تعتبر كتباً بقصد الترفيه وليس بقصد التثقيف).
وفي أيام العُطَل كنتُ ألازم جدِّي رحمه الله في منزله الفسيح والعتيق، حيث تنتشر الكتب منضدةً في كلِّ ركن، لتحتل رفوفاً واسعةً وعريضةً في خزائن عملاقة ومتعددة بعضها محفورٌ في الجدران. ولم أحتج إلى كثيرٍ من الوقت كي ألحظ أن خزانة الكتب في منزلنا، رغم حجمها الضخم بالنسبة لي في تلك الفترة، ضئيلةٌ بالمقارنة ما يحويه منزل جدِّي.
إلا أن الاكتشاف الأكبر الذي توصَّلْتُ إليه في منزل جدي هو أن للكتب رائحةٌ زكيَّةٌ! وأن اصفرار أوراق الكتب وقِدَم عهدها مرتبطٌ مباشرةً بعمق هذه الرائحة وزكائها! منذ تلك الأيام البريئة أضحى لرائحة الكتب موقعٌ في نفسي؛ فهي مختلفةٌ عن رائحة طعام والدتي اللذيذ وعن رائحة الوسادة المنعشة، تنفذ عميقاً في رأسي الصغير، وتخاطب ظمأً كامناً في مكانٍ ما في جوارحي. وهكذا بفضلٍ من الله، وفضلٍ من جدّي ووالديّ، وفضلٍ من رائحة الكتب: صِرْتُ مُدْمِناً على الكتب، ومواظباً على هذا الإدمان، الذي ما فتئ يستفحل دون أملٍ في الشفاء، وأنا في الثالثة والثلاثين.

قراءات في تاريخ العلوم: كتاب الشكوك على جالينوس – 2



عرض الرازي في مؤلفه عدداً من كتب جالينوس؛ ككتاب البرهان، وكتاب منافع الأعضاء، كتاب في آراء أبقراط وأفلاطون، وكتاب حيلة البرء، وكتاب العلل والأعراض، وكتاب تقدمة المعرفة وغيرها.


وبالتمعن في الأفكار التي عرضها كتاب الشكوك يبدو لنا أن جلَّها منضوٍ تحت باب التنظير: من انتقاداتٍ عموميةٍ للألفاظ التي استخدمها جالينوس، أو لعدم وضوح بعض معانيها، إلى انتقاداتٍ للأسس والآليات النظرية للصحة والمرض، في حين لا نلحظ مثلاً نقداً لأفكار جالينوس في مجال الأعراض والعلامات المرضية والتشحيص، أو في مجال المعالجة ونوع الأدوية المستخدمة وطرق إعطائها. وهنا نكون قبالة خيارين:
·   إما أن يكون الرازي مقتنعاً بكل ما جاء به جالينوس من ملاحظاتٍ سريريةٍ عملية، وهذا ما هو مستبعدٌ منطقياً. إذ يفترض فيمن يعيد النظر بالأسس النظرية للأمراض أن  تكون عنده أسبابٌ وجيهةٌ لذلك؛ كأن يكون قد وصل إلى تصوراتٍ معينةٍ بناءً على ممارسته العملية، وأن تسمح له تلك التصورات بإعادة النظر بالمبادئ.
·   أو أن يكون اهتمامه -في هذا الكتاب على الأقل- موجهاً إلى نقد أفكار جالينوس على مستوى التنظير، وإظهار قدرته الفلسفية على المقارعة والجدل، وهذا ما أميلُ إليه على رغم غياب الدليل الوافي. إذ لم يصلنا أن الرازي قد أفرد كتاباً خاصاً بالانتقادات العملية لجالينوس أو لغيره، على رغم أن مثل هذه الانتقادات مبثوثةٌ في كتبه الأخرى كموسوعة الحاوي.
ولكن بكل الأحوال، وبالعودة إلى متن النص التاريخي لكتاب الشكوك، فإني أرى أننا نقف أمام نصٍّ ثوريٍّ من حيث شخص كاتبه وعنوانه ومحتواه المفاهيمي والفكري. لكن لسوء الحظ، وكما حدث مع كثيرٍ من أعلام الفكر في منطقتنا، لا يبدو أن هذا الكتاب قد نال الحظوة الواسعة التي يستحق، كما أنه لم يستطع تأسيس مدرسةٍ فكريةٍ تقطع مع نمط التفكير التقليدي، فبقي أثره محدوداً في تلاميذ الرازي والحلقة القريبة منه وفي فترة زمنية لم تطل بعد وفاته. يشهد على ذلك العدد الضئيل للمخطوطات الباقية لهذا الكتاب في كل أنحاء العالم والتي لا تتعدى الثلاثة، ما يدل على أنه لم يكن متداولاً على نطاقٍ واسع. وقد يكون سبب ذلك القلاقل السياسية التي اجتاحت المنطقة بعد القرن الرابع الهجري، والاتهامات بالزندقة والإلحاد التي وُجِّهَتْ إلى الرازي وأثرتْ على تقبل أعماله الجريئة من قبل عموم الأطباء، أو لأن كتاب الشكوك قد احتوى على جرعةٍ عاليةٍ نسبياً من الخروج على المألوف لم تعهدها تقاليد ذاك الزمان ولم تتقبلها.
وقد قمتُ في عام 2004م بإجراء دراسةٍ سَبَرْتُ فيها كتاب الشكوك للرازي، واستخلصتُ وحللتُ ما عُرِضَ فيه من انتقاداتٍ لآراء جالينوس فيما يخص الجهاز البصري، وسأعمد إلى نشر نتائج تلك الدراسة باختصارٍ في مقالٍ منفصل.

قراءات في تاريخ العلوم: كتاب الشكوك على جالينوس – 1


(لكن صناعة الطب كالفلسفة لا تحتمل التسليم للرؤساء والقبول منهم، ولا مساهلتهم وترك الاستقصاء عليهم)؛ دَوَّنَ الرازي هذه العبارة في مقدمة كتابه المعنون بـ "الشكوك على جالينوس". وكما هو جَلِيٌّ من عنوان الكتاب، فإن محتواه مُنْصَبٌّ على نقد أفكارٍ سبق لجالينوس أن طرحها، لتتبناها أجيالٌ من الأطباء من بعده، وتأخذها كقانونٍ مُنْزَلٍ لا تجوز مساءلته. وتنبع أهمية الكتاب من كونه واحداً من الكتب الرائدة في الفكر العلمي النقدي في العصور الوسطى، عبر طرحه للتساؤلات والاعتراضات بعيداً عن أغلال التقليد الأعمى والنقل العقيم.
وعلمتُ أن الأستاذ مصطفى لبيب عبد الغني قد حقَّقَ الكتاب، ونشرته دار الكتب والوثائق القومية عام 2009م، إلا أني لم اطَّلِعْ على هذه النسخة المطبوعة. وقبله قام الدكتور مهدي محقق بتحقيقٍ أوليٍّ للكتاب (النسخ المخطوطة لكتاب الشكوك نادرة، وأعتقد أنه قد وصلنا ثلاث مخطوطاتٍ فقط). وقد تفضلت الدكتورة بثينة جلخي عام 2004م بإعارتي نسخةً غير كاملةٍ من الكتاب كانت قد أخذتها مباشرةً من الدكتور مهدي محقق.
وقبل عرض كتاب الشكوك لا بد من كلمةٍ فيما يتعلق بمنهج المحقق في النسخة المطبوعة التي وصلتني. فقد وجدتُ أن الباحث قد بذل جهداً طيباً في محاولة إزالة الإبهام وايضاح الغرض من المخطوطة، إلا أن هناك بعض الأخطاء، كما يُلْحَظُ غيابٌ للتعليقات والهوامش والشروحات، أضف إلى ذلك –على الأقل في النسخة المطبوعة التي كنتُ أعمل عليها- إغفال ذكر المخطوطات التي تم الاعتماد عليها أثناء التحقيق، وغياب المقابلة بين هذه المخطوطات، وأتمنى أن تكون نسخة الأستاذ عبد الغني عام 2009م قد تحاوزت هذه الهفوات.
أما بالنسبة لمحتوى الكتاب، فكما هو معهودٌ من الرازي وكتاباته، فقد كانت النظرة الموسوعية غالبةً على النصوص الواردة؛ فمن ملاحظاتٍ فلسفيةٍ، إلى مناقشاتٍ في فيزياء الزمان والمكان، تتبعها أفكارٌ طبيةٌ، وأخرى مرتبطةٌ بالمنطق، لينتقل بعدها إلى نقد مبدأ الهيولى قبل أن يستأنف حديثه في الطب. وهكذا تمضي السطور وراء السطور متزاحمةً ومتلاحقة، دون فقراتٍ أو عناوين أو فواصل واضحة (في ذلك الزمان لم يكن التبويب وتقسيم النص إلى فقراتٍ وعناوين فرعية معروفاً كما نعهده في أيامنا). 
ومن الناحية اللغوية تبرز ركاكةٌ ظاهرةٌ في متن النصوص وسبك العبارات، مع تغايرٍ في الأسلوب في بعض المواضع، ما قد يدلُّ على كون المخطوط قد امتدَّتْ إليه الأيدي بالزيادة والتغيير، أو أنه منقولٌ أصلاً عن مسوداتٍ غير جاهزة، أو أن ما قد كُتِبَ قد كان عبارةً عن جمعٍ من بعض تلاميذ الرازي، وقد يكون ذلك في فتراتٍ مختلفةٍ وبأيدٍ متعددة. وإن مثل هذا الأسلوب غالبٌ على معظم كتب الرازي، ويبدو جَلِيّاً في موسوعته الشهيرة المعنونة بـ "الحاوي". وأغلب الظن أن مَرَدَّ ذلك هو أن بعضاً من كتب الرازي قد تم جمعها من قبل تلاميذه اعتماداً على مسوداته التي خلفها بعد وفاته، فالرازي كان عالماً غزير الإنتاج والتدوين، وقد يكون لتلك الغزارة دورٌ في أنه خلَّف كثيراً من المسودات والملاحظات المحتاجة إلى الترتيب والتنظيم دون أن يتاح له الوقت لذلك.
هذا من ناحية المحتوى العام وأسلوب السبك والتعبير اللغوي، فماذا عن المنهج الذي اتبعه الرازي في عرض أفكاره النقدية؟ يبدو أن الرازي قد اتَّبَعَ في كتابه منهجاً نقدياً واضحاً ومميزاً، فعمد إلى مناقشة كتب جالينوس واحداً تلو الآخر، مبيناً ما ورد في كل ِّكتابٍ لجالينوس من تناقضاتٍ ناقض بها نفسه، أو ما ظهر من مغالطاتٍ ثبت للرازي عكسها بالتجربة أو المحاكمة أو التوسُّم. وغالباً ما نلحظ أن الرازي يبتدئ بطرح مقولة جالينوس، ثم يعقِّبُ عليها بمقولاته ناقداً ومدافعاً عن نقده. حتى أنه كان حاداً في نقده في بعض المواضع، كما يتبين لنا من قراءة بعض العبارات المسطورة، وأضرب عليها مثلاً قول الرازي معلقاً على أحد أقوال جالينوس: "فقُبْحُهُ وشَناعَتُهُ ظاهرٌ بَيِّن"، أو في قوله: "إن هذه النتيجة مُدَلَّسَةٌ سوفسطائيةٌ، وإنه لم يأتِ البتَّة بالسبب الفاعل الموجب لكون هذه النتيجة، والشكُّ قائمٌ بعينه"، أو في قوله: "وإن لم يكن هذا منكراً فما في الدنيا منكر، وإن لم يكن قائل هذا هو الهامز الهاذي فما في الأرض هامزٌ ولا هاذي"، وذلك في معرض تهكمه وردِّه على مقولةٍ مماثلة لجالينوس. وكثيراً ما كان يلجأ الرازي إلى أسلوب الحوار النقدي؛ كأن يقول مثلاً: "وإذا قال قائلٌ كذا .... فإننا نقول كذا".
أما عن كتب جالينوس والأفكار العلمية التي تم نقدها ومناقشتها فلنا معها وقفةٌ في مقالٍ منفصل.

قراءات في تاريخ العلوم: مكانة جالينوس في تاريخ الطب المُدَوَّن بالعربية في العصور الوسطى


لا يمكن في هذه المساحة المحدودة إعطاء هذا العنوان ما يستحقه من العرض والنقاش، بخاصة إن وضع في سياق التمازج والتبادل الثقافي في حوض المتوسط.
فقد احتل النتاج الفكري الإغريقي، منذ بدء حركة الترجمة، مكانةً متميزةً في الثقافة العربية والإسلامية في العصور الوسطى. وقد وجد هذا النتاج تربةً خصبةً سمحت له بالازدهار في ظلِّ تمازجٍ ثقافيٍّ نشطٍ، مستفيداً من الانفتاح على المعرفة في الإسلام المبكر.
وكان من نتيجة حركة الترجمة، وبخاصة في صدر العصر العباسي، أن حصل تراكمٌ معرفيٌّ هائلٌ للنتاج الفكري الإغريقي في مجالات الفلسفة والمنطق والطب وغيرها. ترافق ذلك مع انصهارٍ مع الأفكار السائدة في المنطقة؛ فكان أن نتج مسارٌ علميٌّ ذو محاولاتٍ توفيقيةٍ من زاوية الفكر الإسلامي (الذي كان حينها في طور التشكل). واحتلت كتب جالينوس موقعاً خاصاً بين الأطباء الذين عمدوا إلى الإعلاء من مكانته تمشياً مع عادة أبناء ذلك العصر مع كلِّ من سبقهم (حيث كان نقد المتقدمين والأوائل والآباء المؤسسين للحقل المعرفي عملاً مستقبحاً يقع في دائرة المحظور).

(رسم تخيلي لجالينوس تم إعداده من قِبَلِ فنانٍ مجهول بين عامي 1550م و1600م، من مقتنيات المعرض الوطني للبورتريه في لندن) 

ولد جالينوس Galen (128م؟ – 200م؟) في بيرغامون Pergamon الواقعة غرب تركيا، ثم سافر في تحصيل الطب والفلسفة إلى مدنٍ كثيرةٍ في قبرص وكريت والإسكندرية قبل أن يستقر في روما عام 162م. يعتبر جالينوس من أوائل من حضَّ على مراقبة الظواهر المتعلقة بالأمراض، كما عمد إلى تشريخ الحيوانات وجثث البشر (النقطة الأخيرة مختلفٌ عليها) ليدعم المعرفة النظرية بالتطبيق والمشاهدة الحسية والعملية. كما دشن جالينوس منظومةً منهجيةً في الطب سادتْ حتى نهاية العصور الوسطى، متخذاً من نظرية الأخلاط والأمزجة كأساسٍ لتفسير الأمراض ووصف علاجاتها. وما كان لهذه المنظومة أن تستمر لولا أن بعض كتاباته المهمة، والمجموعة ضمن الأعمال الجالينوسية Galenic Corpus، قد ترجمت إلى العربية، حيث شُرِحَتْ ونُقِدَتْ وزِيدَ عليها، قبل أن تُتَرْجَمَ مرةً أخرى إلى اللاتينية في بداية العصر الحديث.  
بالعودة إلى الطب في الثقافة العربية والإسلامية: فقد جاءت مرحلةُ النقد والإبداع بعد مرحلة الترجمة، مع ظهور أساطين الطب من أمثال ابن ربن الطبري صاحب كتاب (فردوس الحكمة)، وعلي بن العباس المجوسي الأهوازي مؤلف (كامل الصناعة الطبية)، وابن سينا صاحب (القانون في الطب)، وأبو بكر الرازي مؤلف (الحاوي). إلا أن الرازي قد تجاوز العرض والشرح والتوسع في أفكار جالينوس إلى النقد والنقض كما في كتابه المعنون بـ (الشكوك على جالينوس).
ويتبادر إلى الذهن هنا سؤالٌ: هل كان الرازي الوحيد الذي أفرد كتاباً خاصاً في الرد على جالينوس ونقده؟ أم أن هناك آخرون ساروا على نهجه النقدي؟
يتبين لنا، بالعودة إلى ما أثبته المؤرخون، وجود كتبٍ عديدةٍ تحمل في عناوينها ومتنها ما يدلُّ على أنها قد أفردت لنقد ونقض أفكار جالينوس (أو اشتملت على شيءٍ من ذلك). فعلى سبيل المثال فقد أفرد كلٌّ من الإسكندر الإفروديسي[1] ويحيى النحوي الإسكندراني[2] عدة مقالاتٍ في الردِّ على جالينوس، وكلاهما من المتقدمين على عصر الرازي. كما نجد كتاباً في الرد على جالينوس عند الفارابي[3]، وآخر لأحمد بن الطيب السرخسي[4]. هذا فضلاً عن العبارات النقدية المبعثرة في بطون الكتب الطبية التراثية.
كما نذكر أن هناك من دافع عن جالينوس، إما لقناعةٍ تتملكه بأنه على الحق، أو لاستحياءٍ من تخطئته باعتباره أستاذاً ومعلماً له؛ فمن الفريق الأول ابن زُهْر، وابن رضوان، ومن الثاني حُنَيْن بن إسحاق العبادي[5]، والذي كان قد وضع، على رغم شدة إعجابه بجالينوس، مقالةً في تبرير أخطائه بأسلوبٍ مهذبٍ. وقد كانت حجة حنين بأن جالينوس ما كان ليعتقد ما أورده من خاطئ القناعات، إلا أن ظروف عصره كانت تقتضي مثل تلك القناعات، وقد ذكر الرازي في سياق نقده لجالينوس رأي حنين وقدم نقداً لهذا النقد.
هذه المقالة لمحةٌ مبسطةٌ جداً إلى بعض الأطباء الذين كتبوا بالعربية ونقدوا النتاج الفكري لجالينوس في العصور الوسطى، وسأعرض في مقالةٍ قادمةٍ، وفي شكلٍ مختصر، لمحةً إلى كتاب (الشكوك على جالينوس) للرازي.




[1]  الاسكندر الإفروديسي: من علماء مدرسة الإسكندرية.
[2]  يحيى النحوي: من علماء مدرسة الإسكندرية.
[3]  الفارابي أبو النصر محمد بن محمد بن أوزلغ بن طرخان (260-339هـ) (874-950م)، فارسي الأصل، ولد في مدينة فاراب في بلاد الترك، وخدم سيف الدولة الحمداني. توفي في دمشق. ابن أبي أصيبعة: ، الأعلام 7 : 20.
[4]  السرخسي: أبو العباس أحمد بن محمد بن مروان، طبيب من أبناء القرن الثالث الهجري، تولى الحسبة أيام المعتضد (ابن أبي أصيبعة: 293)
[5]  حنين بن اسحق العبادي (197-260هـ) (810-873م): شيخ المترجمين في عصره، كان تلميذاً ليوحنا بن ماسويه، ونال حظوة عند الخلفاء العباسيين. (انظروا الشطي: 214، ابن أبي أصيبعة: 257، الزركلي 2 : 287).

صرخة لإطلاق سراح الفنانين ومعتقلي الرأي في سجون الاستبداد في سوريا



إلى يوسف عبدلكي، صاحب الريشة والألوان، وإلى كافة الفنانين والمبدعين ومعتقلي الرأي السوريين في سجون الاستبداد الكريه ...
الحرية لكم ... الحرية للسوريين ... الحرية لسوريا

To Yussef Abda-Lakki the artist, and to all artists, intellectuals and prisoners of conscience arrested by the despotic regime in Syria ... Freedom to you and Freedom to Syria

A caricature by Talal Al-Mayhani 

يحدث في سوريا ... وبكل ألم ...


A caricature by Talal Al-Mayhani

قراءات في تاريخ العلوم: من هو أبو بكر الرازي؟


تَتَصَدَّرُ بَهْوَ العمادة في كلية طب جامعة حلب لوحةٌ زيتيةٌ لطبيبٍ يفحص طفلاً مصاباً بمرضٍ جلدي. وتقدم اللوحة تصويراً متخيلاً للرازي، أبو بكر محمد بن زكريا، الذي يعتبر واحداً من رموز الطب في العصور الوسطى. فمن هو الرازي؟


عاش الرازي بين (251ه-313هـ؟) (865م-925م؟)[1] ونسبته إلى مدينة الري من خراسان، حيث قضى معظم شبابه في بلاد فارس، وغادر بعد أن جاوز الثلاثين قاصداً بغداد، وكان في بادئ أمره مشتغلاً الأدب والشعر والفن، ومجيداً العزف بالعود، وهناك مصادر تتحدث عن أنه كان في البداية صيرفياً وأنه عمل في مجال الخيمياء، والروايات في ذلك عديدةٌ مسطورةٌ في بطون الكتب.
وجد الرازي في نفسه توقاً إلى العلم والحكمة وتحصيلها، فعمد إلى الكتب يقرؤها ويدرسها، حتى اشتغل بالكيمياء، وقرأ الطب على ابن ربن الطبري[2]، كما جرّب حظه في الفلسفة، التي مالت إلى الفلسفة المشرقية على حساب الإغريقية، بعد أن أخذها عن البلخي[3]. إلا أنه لم يشتهر باشتغاله في الفلسفة شهرته بالطب؛ فمطالعةٌ لأسماء مؤلفاته تكشف لنا أن الرازي كان طبيباً أكثر من كونه فيلسوفاً، وذلك على عكس ابن سينا، ما جعل الأخير ينتقص من عمل الرازي في الفلسفة، حتى أن هناك من ينسب إلى ابن سينا قوله: "كان حَرِيّاً به –أي بالرازي- أن ينظر في قوارير مرضاه –أي قوارير البول- من أن يصنف في الحكمة –أي الفلسفة-".
برع الرازي في مجال الطب حتى صار فيه علماً مبرزاً طبقت شهرته أرجاء البلاد وامتدت إلى أوروبة حيث كان يعرف باسمه اللاتيني Rhazes. عالج الملوك والأمراء ورجالات البلاط في عصره، واستلم وظائف طبية إدارية كرئاسة بيمارستان الري[4]، ومن بعده البيمارستان العضدي[5]. ومن المهم التنويه بأن البيمارستان العضدي قد افتتح علم 372هـ، أي بعد وفاة الرازي بأكثر من خمسين سنة، وعليه فإني أعتقد بأن الرازي قد رأس هذا البيمارستان الذي كان موجوداً قبل عصر الحكم البويهي إلا أنه أخذ اسمه بعد تجديده من قِبَل عضد الدولة البويهي. كما تُرْوى قصةٌ عن لقاءٍ تم بين عضد الدولة البويهي وبين الرازي، وقد نقلها ابن أبي أصيبعة في كتابه (عيون الأنباء) عن كمال الدين بن أبي تراب البغدادي[6]، وهي محض خيال.
واشتهر الرازي بمنهجه العقلي التجريبي ووصفه السريري الدقيق، وتحليله التشخيصي السليم، ونقده للسابقين والمتقدمين من الأطباء، وحثه على النظر والتعقل، وتشنيعه لممارسات المشعوذين والدجالين[7]؛ وإن دل ما ذكر على حقيقة ما فإنما يدل على عقليةٍ علميةٍ متفتحة، كانت قليلة من نوعها في ذلك الزمان، حتى أني أستطيع القول بأنه كان واحداً من أوائل من شقوا طريق هذا المنهج الذي وسم فيما بعد عقلية التفكير التجريبي.
تروي لنا كتب التاريخ مناظرةً بين أبي بكر الرازي وأبي حاتم الرازي والكرماني حول مفهوم النبوة وضرورتها. ولم يكن أبو حاتم والكرماني وحيدين في طعنهم في اعتقاد الرازي وإيمانه وتدينه بل شاركهم في ذلك كثيرون، حيث كان يوصف "ازدراءً" بالزنديق، بخاصة وأنه قد صنف كتاباً في (نقض النبوة)، وقد كتب الراحل عبد الرحمن بدوي فصلاً عن هذا الموضوع في كتابه (من تاريخ الإلحاد في الإسلام). وهناك من دافع عن الرازي كالبيروني وابن أبي أصيبعة بحجة أن الكتاب المذكور منحولٌ وأنه قد نسب إليه خطأً، إلا أن مثل هذه الحجة مستبعدةٌ وغير دقيقة. وبغضِّ النظر عن التقييم الإيماني –وهو شأنٌ خاصٌ في نهاية المطاف- فقد كان الرازي، وغيره من أعلام تلك الفترة، يعيشون في مناخٍ فكريٍّ يتّسم بالاضطراب والصراع الفكري، ما كان يشجع على طرح التساؤلات بجرأةٍ ومناقشها، وقد قدّم ذلك نموذجاً أوليّاً للأنسنة في القرون الوسطى، ومثالاً مبكراً لظاهرة المفكرين الأحرار.
ذكر أبو الريحان البيروني[8] في رسالة خاصة بمؤلفات الرازي[9] أنه قد ترك نحواً من 237 مصنفاً ما بين مقالةٍ صغبرةٍ وموسوعةٍ شاملة، هذا عدا ما ضاع وفُقِدَ، أو ما حال حائلٌ دون إظهاره، ومن أشهر كتبه: (الحاوي) وهو مؤلفٌ من ثلاثين مجلداً، و(المنصوري) ويقع في عشر مجلداتٍ وقد ألفه لمنصور بن إسحق بن إسماعيل بن أحمد صاحب خراسان، و(الطب الروحاني)، و(الشكوك على جالينوس) وكتاب (الجدري والحصبة)، ويعتبر هذا الأخير من أثمن كتبه من ناحية القيمة العلمية.
وللرازي حكمٌ وأمثالٌ كثيرةٌ تصلح لأن تكون نصائح طبية أخلاقية، وكانت قد جمعتْ في كتاب (الأمثال والحكم)، ومن يطلع عليها فإنه يجد أنها، وغيرها من الآثار، مستحقةٌ لأن تُخْضَعَ إلى قراءةٍ تاريخيةٍ سياقية في مؤسساتنا العلمية التي تعنى بتاريخ العلوم.

ملاحظة: 
هذا المقال معدلٌ عن بحثٍ علميٍّ أنجزته أثناء دراستي في معهد التراث العلمي العربي في جامعة حلبعام 2004م. تم البحث بإشراف الدكتورة بثينة جلخي.



المصادر والمراجع


[1]  اختلفت الروايات في تاريخ وفاته بين 290هـ أو 320هـ. راجع الشطي: ، الزركلي 6 : 130.
[2]  ابن ربن الطبري، أبو الحسن علي بن سهل بن ربن الطبري (ت 247هـ) (ت 861م)، نشأ في طبرستان وأقام ببغداد، ألف كتاب (فردوس الحكمة)، وهو موسوعةٌ كبيرةٌ في الطب جمعها من مصادر عديدة فارسية وهندية ويونانية.
[3]  البلخي، أبو زيد أحمد بن سهل (235-322هـ) (849-934م)، تلميذ الكندي الفيلسوف المشهور، وواحد من أفذاذ العلماء، جمع بين الفقه والفلسفة والأدب والفنون والجغرافية. يذكر أنه أول من رسم الأراضي والخرائط من المسلمين وذلك في كتابه (صور الأقاليم الإسلامية). له من الكتب الكثير نذكر منها: (أقسام العلوم)، و(كتاب السياسة الكبير)، و(كتاب السياسة الصغير)، و(كتاب (شرائع الأديان)، وكتاب (الشطرنج). انظر الأعلام 1: 134.
[4]  بيمارستان الري، ذكر وجوده ياقوت الحموي في معجم البلدان والقفطي نقلاً عن ابن جلجل. ولم يذكر اسم من أنشأه أو تاريخ إنشائه، والري مدينةٌ في خراسان بالقرب من بحر الخزر، فتحها المسلمون صلحاً عام 20 هـ، كانت من أعظم مدن الشرق بعد بغداد، خربها التتار وهي اليوم مدينةٌ صغيرة.
[5]  البيمارستان العضدي افتتح عام 372 هـ. وسمي بذلك نسبةً إلى عضد الدولة أبو شجاع فناخسرو بن ركن الدولة البويهي الديلمي، كان القائم بأمر الدولة. كان أول من تسمى بشاهنشاه، وأول من خُطِبَ له مع الخليفة على المنابر. أصبح له شأنٌ عظيمٌ وكان ذا هيبةٍ وسطوة. مدحه المتنبي والأرجاني. توفي بعلّة الصرع.
[6]  ابن أبي أصيبعة:415
[7]  سافاج-سميث 3 : 1194
[8]  البيروني، أبو الريحان محمد بن أحمد (362-440هـ) (973-1048م) المنسوب إلى بيرون من إقليم السند. أقام بخوارزم، وكان مشتغلاً بالعلوم الحكمية، ذا نظرٍ جيدٍ في الطب، عاصر ابن سينا وكانت بينهما مراسلات. راجع عيون الأنباء 459، الأعلام
[9]  نُشِرَتْ هذه الرسالة من قبل كراوس في باريس باللغة الفرنسية تحت عنوان Le repertoir des ouvrages de M Zakariyya Razi وذلك في عام 1936.

يحدث في سوريا ...


A caricature by Talal Al-Mayhani

عن الحالة البرزخية في الشرق الأوسط - مقال منشور في صحيفة الحياة

عن الحالة البرزخية في الشرق الأوسط
 http://alhayat.com/OpinionsDetails/531688

اعتدنا الحديث عن سقوط غرناطة، التي كانت آخر ما بقي من معاقل الأندلس، أمام جحافل الإسبان عام 1492، حتى تحوَّل حديثنا هذا إلى تقليدٍ يتنافس عبره الشعراء في قرض قصائد الرثاء. ولا يعبأ الرثاءُ المذكورُ بحقيقة أن السقوط كان في حُكم المتوقع، وتحصيل الحاصل، بعد قرونٍ من اضمحلال السيادة الفكرية والسياسية. كما أنه قلّما يلتفت إلى أن الأندلس قد سقطت في العام الذي شهد اكتشاف العالم الجديد، حين رَسَتْ سُفُنُ كولومبوس في أرخبيل الباهاماس. وفي السياق ذاته، وبعد هذه الأحداث بربع قرن، أقدم سليم الأول العثماني على تعليق آخر سلاطين المماليك في مصر على حبل المشنقة عام 1517. وللمقارنة، عمد مارتن لوثر، في العام ذاته، إلى تعليق أطروحاته في مدينة ويتنبرغ الألمانية لتنطلق بعدها شرارة الإصلاح الديني في أوروبا.


كان لمثل هذه الأحداث الكبرى، ولما تحمله من مُفَارَقَاتٍ، دورٌ حاسمٌ في توجيه دَفَّةِ التاريخ في القرون القليلة الماضية، ورسم ملامح المنظومة العالمية التي نعيشها. حيث دخلت مجتمعات أوروبا الغربية، وعبر مخاضٍ شاقٍّ ودمويٍّ، في عملية تطورٍ ذاتيٍّ على مستوى الحياة الفكرية والاقتصاد السياسي. وكان لانفجار الثورات العلمية والصناعية، وما ارتبط بها من تفوقٍ تقنيٍّ، دورٌ أساسيٌّ في تمكين أوروبا ومنحها أفضلية السيطرة على القوة المادية. وقد تُوِّجَ مجموع هذه الأحداث تدريجاً، وبعد نضجٍ عسيرٍ لظروف التمثُّل والاستيعاب، بإزاحة المنظومة القديمة وإرساء منظومةٍ جديدةٍ باتت تُعرف بالحداثة (وأخيراً «ما بعد الحداثة»).
وبالتوازي، تركت هذه الأحداث التي غيّرت وجه أوروبا، وَقْعاً مغايراً على المنطقة التي تسمى تجاوزاً «الشرق الأوسط»، والتي كانت تتابع اضمحلالها المتسارع. فمع أن استقراراً نسبياً قد عمَّ المنطقة بُعَيْد وصول العثمانيين إلى السلطة، إلا أن الركود الفكري المرافق، وبالتحديد في صيغته العقلانية، أدّى إلى تفاوتٍ في امتلاك القوة المادية واستثمارها، مع خلق هُوَّةٍ تفصل المنطقة عن حركة التاريخ وتُرَسِّخُ انحطاطاً بدأ منذ قرون. وعلى رغم صعود بعض المحاولات الإصلاحية/التنويرية، التي أحاطت بصدمة اللقاء مع «الآخر»، إلا أنها لم تفلح في لَجْمِ الاضمحلال فضلاً عن تحقيق النهوض. تفاقم هذا الوضع مع تَلَقُّفِ المنطقة لمنظومة الحداثة من دون اشتغالٍ ذاتيٍّ (مثال: فرض الدولة الحديثة في المنطقة وما تلاها وسبقها من تَبَدُّلاتٍ في العلاقات الاجتماعية/الاقتصادية). وترافق ذلك مع عجز منظومة «ما قبل الحداثة»، التي كانت قادرةً على إدارة المجتمعات المَحَلِّية عبر قرون، عن التأقلم مع المتغيرات والاستمرار بالزخم ذاته.
أدّى هذا الانتقال/الصدام الفجائي، غير الذاتي وغير المكتمل، إلى حضورٍ متلازمٍ وفِصَامِيٍّ لكلتا المنظومتين من دون أن تسيطر إحداهما على الأخرى، أو تلغيها، أو تتصالح معها. ونتجت من ذلك «حالةٌ برزخيةٌ»؛ تتواجه فيها أفكار ومفاهيم «ما قبل الحداثة»، في تلازمٍ وتضادٍ، مع أفكار ومفاهيم الحداثة «المستوردة». حالةٌ برزخيةٌ تتلاطم فيها عناصر مختلفة، زمنياً وثقافياً، في اجتماعٍ بائسٍ للأضداد (أو ما يعتقد أنها أضداد): في صراعٍ سياديٍّ بين أزمنةٍ متباعدةٍ على سيادة مكانٍ واحد.
وتدريجاً غَاصَتِ المنطقة «استهلاكياً» في خِضَمِّ الحداثة حتى غدا «الاستهلاك» علامةً مُتَجَذِّرَةً في كل مناحي الحياة من الكوكاكولا والريموت كنترول، إلى المحركات النفاثة وأسلحة الدفاع عن السيادة (والمُصَنَّعَة، للمفارقة، خارج حدود السيادة): استهلاكٌ للحداثة من دون امتلاك الأدوات للتعامل معها خارج دائرة الاستهلاك، ومن دون امتلاك القدرة، في الوقت نفسه، على إنتاج الحداثة أو المساهمة في إنتاجها، أو الاستغناء عنها، ناهيكم عن تدشين منظومةٍ بديلة؛ استهلاكٌ أفرز استغلالاً مَسْخِيّاً للحداثة لتحقيق غاياتٍ «ما قبل حداثية» (مثال: الاستخدام الحالي للتكنولوجيا العسكرية الحديثة في التطهير المذهبي بنكهة العصور الوسطى).
يمكن تعليل «الحالة البرزخية»، في جانبٍ منها على الأقل، بأن الاشتغال الفكري، الذي رافق محاولات الإصلاح/التنوير، قد تَخَنْدَقَ قبالة «الآخر» (والحداثة التي نَتَجَتْ من «الآخر») في أداور التلقّي أو التقوقع: التلقّي المُنْفَعِل الساعي إلى التماثل السطحي مع «الآخر» من دون أخذ السياق في الاعتبار، أو التقوقع المنكفئ على الماضي المجيد والمُنْتَقَى بعنايةٍ والرافض، ظاهرياً، لكل ما يأتيه من «الآخر». وكقاسمٍ مشتركٍ لهذه الأدوار المتباينة، كان من الواضح عَجْزُ الفكر الراكد، في الحالتين، عن الإبداع وسُقُوطُهُ في فخِّ المركزية الأوروبية.
زاد تعقيد «الحالة البرزخية» في النصف الثاني من القرن العشرين، وأخيراً في عصر الديجيتال، حيث تحوَّل الاستهلاك إلى «إدمانٍ إجباري»: فإما أن نُدْمِنَ مُجْبَرِين لنأخذ موقعاً هامشياً في هذا العالم، أو لا ندمن لنخسر كل شيءٍ بعد أن نغدو خارج الهامش. هذا «الإدمان الإجباري» ظاهرةٌ ملازمةٌ للحداثة بحدِّ ذاتها، وانعكاسٌ لوجهها المظلم الكامن فيها (وفي صيغتها الرأسمالية). إذ لا يمكن الحداثة، ذات المظهر البرَّاق، أن تستمر إلا بوجود من يعيشها استهلاكياً، ووجود من يدمن إجبارياً على أن يعيشها استهلاكياً. وبالنتيجة تأخذُ «الحالةُ البرزخيةُ» مَوْقِعَها، ضمن المنظومة العالمية، كطرفٍ في علاقةٍ طفيليةٍ تبادليةٍ وكعنصرٍ عليه أن يستمر كي يغذّي، في شكلٍ غير مباشر، منظومة الحداثة.
لا بُدَّ من إخضاع هذه «الحالة البرزخية» إلى تشريحٍ نقديٍّ بُغْيَةَ استيعاب أزمات المنطقة؛ بدءاً بمحنة السياسة الحديثة وانتشار الإيديولوجيات القومية والدينية (وأخيراً حركات التطرف)، وجدلية العلمانية والإسلام السياسي، والمواقف المتناقضة من التراث، وانتهاءً بأسئلة الأصالة والاندماج والانفتاح ووضع المرأة والصحة والتعليم وهجرة العقول والبطالة: كلها أزماتٌ ثانويةٌ، تسبح في فضاء «الحالة البرزخية»، ولا يفيد الاشتغال المجتزأ عليها إلا في الوصول إلى حُلُولٍ عَرَضِيَّةٍ وآنيةٍ مصيرها الانتكاس. أما «الحالة البرزخية»، التي غَدَتْ مُتَّصِفَةً بالاضطراب بعد فترةٍ من السُّكُون الوهمي، فما كان لها أن توجد وتستمر أساساً لو لم تكن مستندةً إلى أزماتٍ عميقةٍ يجب إخراجها، عبر حراكٍ شاملٍ في المنطقة، من نطاق المسكوت عنه واللامفكر فيه.
وهكذا يأتي الحراك الذي يجتاح «الشرق الأوسط» كنتيجةٍ لاضطراب «الحالة البرزخية»، وسببٍ لهذا الاضطراب، لكنه، في الوقت نفسه، سبيلٌ محتملٌ لتفكيك «الحالة البرزخية» بِحَدِّ ذاتها. فهذا الحراك خطوةٌ أولى (ومتأخرة)، وفرصةٌ لأبناء المنطقة لبثِّ الأمل، وتحويل الصدام الكامن تحت الرماد، بين العوالم القديمة والجديدة، إلى صدامٍ علنيّ. سيواجه حراك المنطقة، وبكل تأكيد، كثيراً من العثرات والانتكاسات بخاصة مع التَّغَوُّلِ الصارخ لأدوات الهيمنة؛ تلك التي باتت تحظى بانتشارٍ واسعٍ وتتحكم بالأمزجة بخباثة. ويتجلَّى ذلك في أنصاف مثقفين يروِّجون لشعبويةٍ مستشرية، ورجال دينٍ لا يكفُّون عن بَثِّ الكراهية والبغضاء، وإعلامٍ كتليٍّ رخيصٍ وسطحيٍّ، ومكوناتٍ سكانيةٍ مستقطبةٍ ومتشنجة. وفوق كل هذه البلايا، تبرز السلطات المستبدة التي حرصتْ على ترسيخ ما سبق في فضاء «الحالة البرزخية»، حتى وصلنا إلى مآسٍ تنتج ذاتها بذاتها: حقبةٌ أليمةٌ قد تطول قبل أن تُحَوِّلَ الأملَ إلى حقيقةٍ واقعة؛ حقبةٌ لا يمكن إعلان نهايتها إلا مع تجاوز المنطقة، وبجهودٍ ذاتيةٍ نابعةٍ من صميم أبنائها وطموحاتهم، «الحالة البرزخية» المستفحلة فيها.