عرض الرازي في مؤلفه
عدداً من كتب جالينوس؛ ككتاب البرهان، وكتاب منافع الأعضاء، كتاب في آراء أبقراط
وأفلاطون، وكتاب حيلة البرء، وكتاب العلل والأعراض، وكتاب تقدمة المعرفة وغيرها.
وبالتمعن في الأفكار
التي عرضها كتاب الشكوك يبدو لنا أن جلَّها منضوٍ تحت باب التنظير: من انتقاداتٍ
عموميةٍ للألفاظ التي استخدمها جالينوس، أو لعدم وضوح بعض معانيها، إلى انتقاداتٍ للأسس
والآليات النظرية للصحة والمرض، في حين لا نلحظ مثلاً نقداً لأفكار جالينوس في
مجال الأعراض والعلامات المرضية والتشحيص، أو في مجال المعالجة ونوع الأدوية
المستخدمة وطرق إعطائها. وهنا نكون قبالة خيارين:
·
إما أن يكون الرازي مقتنعاً بكل ما جاء
به جالينوس من ملاحظاتٍ سريريةٍ عملية، وهذا ما هو مستبعدٌ منطقياً. إذ يفترض فيمن
يعيد النظر بالأسس النظرية للأمراض أن تكون
عنده أسبابٌ وجيهةٌ لذلك؛ كأن يكون قد وصل إلى تصوراتٍ معينةٍ بناءً على ممارسته
العملية، وأن تسمح له تلك التصورات بإعادة النظر بالمبادئ.
·
أو أن يكون اهتمامه -في هذا الكتاب على
الأقل- موجهاً إلى نقد أفكار جالينوس على مستوى التنظير، وإظهار قدرته الفلسفية
على المقارعة والجدل، وهذا ما أميلُ إليه على رغم غياب الدليل الوافي. إذ لم يصلنا
أن الرازي قد أفرد كتاباً خاصاً بالانتقادات العملية لجالينوس أو لغيره، على رغم
أن مثل هذه الانتقادات مبثوثةٌ في كتبه الأخرى كموسوعة الحاوي.
ولكن بكل الأحوال، وبالعودة
إلى متن النص التاريخي لكتاب الشكوك، فإني أرى أننا نقف أمام نصٍّ ثوريٍّ من حيث
شخص كاتبه وعنوانه ومحتواه المفاهيمي والفكري. لكن لسوء الحظ، وكما حدث مع كثيرٍ
من أعلام الفكر في منطقتنا، لا يبدو أن هذا الكتاب قد نال الحظوة الواسعة التي
يستحق، كما أنه لم يستطع تأسيس مدرسةٍ فكريةٍ تقطع مع نمط التفكير التقليدي، فبقي
أثره محدوداً في تلاميذ الرازي والحلقة القريبة منه وفي فترة زمنية لم تطل بعد
وفاته. يشهد على ذلك العدد الضئيل للمخطوطات الباقية لهذا الكتاب في كل أنحاء
العالم والتي لا تتعدى الثلاثة، ما يدل على أنه لم يكن متداولاً على نطاقٍ واسع.
وقد يكون سبب ذلك القلاقل السياسية التي اجتاحت المنطقة بعد القرن الرابع الهجري، والاتهامات
بالزندقة والإلحاد التي وُجِّهَتْ إلى الرازي وأثرتْ على تقبل أعماله الجريئة من
قبل عموم الأطباء، أو لأن كتاب الشكوك قد احتوى على جرعةٍ عاليةٍ نسبياً من الخروج
على المألوف لم تعهدها تقاليد ذاك الزمان ولم تتقبلها.
وقد قمتُ في عام
2004م بإجراء دراسةٍ سَبَرْتُ فيها كتاب الشكوك للرازي، واستخلصتُ وحللتُ ما عُرِضَ
فيه من انتقاداتٍ لآراء جالينوس فيما يخص الجهاز البصري، وسأعمد إلى نشر نتائج تلك
الدراسة باختصارٍ في مقالٍ منفصل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق