قراءات في تاريخ العلوم: مكانة جالينوس في تاريخ الطب المُدَوَّن بالعربية في العصور الوسطى


لا يمكن في هذه المساحة المحدودة إعطاء هذا العنوان ما يستحقه من العرض والنقاش، بخاصة إن وضع في سياق التمازج والتبادل الثقافي في حوض المتوسط.
فقد احتل النتاج الفكري الإغريقي، منذ بدء حركة الترجمة، مكانةً متميزةً في الثقافة العربية والإسلامية في العصور الوسطى. وقد وجد هذا النتاج تربةً خصبةً سمحت له بالازدهار في ظلِّ تمازجٍ ثقافيٍّ نشطٍ، مستفيداً من الانفتاح على المعرفة في الإسلام المبكر.
وكان من نتيجة حركة الترجمة، وبخاصة في صدر العصر العباسي، أن حصل تراكمٌ معرفيٌّ هائلٌ للنتاج الفكري الإغريقي في مجالات الفلسفة والمنطق والطب وغيرها. ترافق ذلك مع انصهارٍ مع الأفكار السائدة في المنطقة؛ فكان أن نتج مسارٌ علميٌّ ذو محاولاتٍ توفيقيةٍ من زاوية الفكر الإسلامي (الذي كان حينها في طور التشكل). واحتلت كتب جالينوس موقعاً خاصاً بين الأطباء الذين عمدوا إلى الإعلاء من مكانته تمشياً مع عادة أبناء ذلك العصر مع كلِّ من سبقهم (حيث كان نقد المتقدمين والأوائل والآباء المؤسسين للحقل المعرفي عملاً مستقبحاً يقع في دائرة المحظور).

(رسم تخيلي لجالينوس تم إعداده من قِبَلِ فنانٍ مجهول بين عامي 1550م و1600م، من مقتنيات المعرض الوطني للبورتريه في لندن) 

ولد جالينوس Galen (128م؟ – 200م؟) في بيرغامون Pergamon الواقعة غرب تركيا، ثم سافر في تحصيل الطب والفلسفة إلى مدنٍ كثيرةٍ في قبرص وكريت والإسكندرية قبل أن يستقر في روما عام 162م. يعتبر جالينوس من أوائل من حضَّ على مراقبة الظواهر المتعلقة بالأمراض، كما عمد إلى تشريخ الحيوانات وجثث البشر (النقطة الأخيرة مختلفٌ عليها) ليدعم المعرفة النظرية بالتطبيق والمشاهدة الحسية والعملية. كما دشن جالينوس منظومةً منهجيةً في الطب سادتْ حتى نهاية العصور الوسطى، متخذاً من نظرية الأخلاط والأمزجة كأساسٍ لتفسير الأمراض ووصف علاجاتها. وما كان لهذه المنظومة أن تستمر لولا أن بعض كتاباته المهمة، والمجموعة ضمن الأعمال الجالينوسية Galenic Corpus، قد ترجمت إلى العربية، حيث شُرِحَتْ ونُقِدَتْ وزِيدَ عليها، قبل أن تُتَرْجَمَ مرةً أخرى إلى اللاتينية في بداية العصر الحديث.  
بالعودة إلى الطب في الثقافة العربية والإسلامية: فقد جاءت مرحلةُ النقد والإبداع بعد مرحلة الترجمة، مع ظهور أساطين الطب من أمثال ابن ربن الطبري صاحب كتاب (فردوس الحكمة)، وعلي بن العباس المجوسي الأهوازي مؤلف (كامل الصناعة الطبية)، وابن سينا صاحب (القانون في الطب)، وأبو بكر الرازي مؤلف (الحاوي). إلا أن الرازي قد تجاوز العرض والشرح والتوسع في أفكار جالينوس إلى النقد والنقض كما في كتابه المعنون بـ (الشكوك على جالينوس).
ويتبادر إلى الذهن هنا سؤالٌ: هل كان الرازي الوحيد الذي أفرد كتاباً خاصاً في الرد على جالينوس ونقده؟ أم أن هناك آخرون ساروا على نهجه النقدي؟
يتبين لنا، بالعودة إلى ما أثبته المؤرخون، وجود كتبٍ عديدةٍ تحمل في عناوينها ومتنها ما يدلُّ على أنها قد أفردت لنقد ونقض أفكار جالينوس (أو اشتملت على شيءٍ من ذلك). فعلى سبيل المثال فقد أفرد كلٌّ من الإسكندر الإفروديسي[1] ويحيى النحوي الإسكندراني[2] عدة مقالاتٍ في الردِّ على جالينوس، وكلاهما من المتقدمين على عصر الرازي. كما نجد كتاباً في الرد على جالينوس عند الفارابي[3]، وآخر لأحمد بن الطيب السرخسي[4]. هذا فضلاً عن العبارات النقدية المبعثرة في بطون الكتب الطبية التراثية.
كما نذكر أن هناك من دافع عن جالينوس، إما لقناعةٍ تتملكه بأنه على الحق، أو لاستحياءٍ من تخطئته باعتباره أستاذاً ومعلماً له؛ فمن الفريق الأول ابن زُهْر، وابن رضوان، ومن الثاني حُنَيْن بن إسحاق العبادي[5]، والذي كان قد وضع، على رغم شدة إعجابه بجالينوس، مقالةً في تبرير أخطائه بأسلوبٍ مهذبٍ. وقد كانت حجة حنين بأن جالينوس ما كان ليعتقد ما أورده من خاطئ القناعات، إلا أن ظروف عصره كانت تقتضي مثل تلك القناعات، وقد ذكر الرازي في سياق نقده لجالينوس رأي حنين وقدم نقداً لهذا النقد.
هذه المقالة لمحةٌ مبسطةٌ جداً إلى بعض الأطباء الذين كتبوا بالعربية ونقدوا النتاج الفكري لجالينوس في العصور الوسطى، وسأعرض في مقالةٍ قادمةٍ، وفي شكلٍ مختصر، لمحةً إلى كتاب (الشكوك على جالينوس) للرازي.




[1]  الاسكندر الإفروديسي: من علماء مدرسة الإسكندرية.
[2]  يحيى النحوي: من علماء مدرسة الإسكندرية.
[3]  الفارابي أبو النصر محمد بن محمد بن أوزلغ بن طرخان (260-339هـ) (874-950م)، فارسي الأصل، ولد في مدينة فاراب في بلاد الترك، وخدم سيف الدولة الحمداني. توفي في دمشق. ابن أبي أصيبعة: ، الأعلام 7 : 20.
[4]  السرخسي: أبو العباس أحمد بن محمد بن مروان، طبيب من أبناء القرن الثالث الهجري، تولى الحسبة أيام المعتضد (ابن أبي أصيبعة: 293)
[5]  حنين بن اسحق العبادي (197-260هـ) (810-873م): شيخ المترجمين في عصره، كان تلميذاً ليوحنا بن ماسويه، ونال حظوة عند الخلفاء العباسيين. (انظروا الشطي: 214، ابن أبي أصيبعة: 257، الزركلي 2 : 287).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق