(لكن
صناعة الطب كالفلسفة لا تحتمل التسليم للرؤساء والقبول منهم، ولا مساهلتهم وترك
الاستقصاء عليهم)؛ دَوَّنَ الرازي هذه العبارة في مقدمة كتابه المعنون بـ "الشكوك
على جالينوس". وكما هو جَلِيٌّ من عنوان الكتاب، فإن محتواه مُنْصَبٌّ على
نقد أفكارٍ سبق لجالينوس أن طرحها، لتتبناها أجيالٌ من الأطباء من بعده، وتأخذها
كقانونٍ مُنْزَلٍ لا تجوز مساءلته. وتنبع أهمية الكتاب من كونه واحداً من الكتب
الرائدة في الفكر العلمي النقدي في العصور الوسطى، عبر طرحه للتساؤلات والاعتراضات
بعيداً عن أغلال التقليد الأعمى والنقل العقيم.
وعلمتُ أن الأستاذ
مصطفى لبيب عبد الغني قد حقَّقَ الكتاب، ونشرته دار الكتب والوثائق القومية عام
2009م، إلا أني لم اطَّلِعْ على هذه النسخة المطبوعة. وقبله قام الدكتور مهدي محقق
بتحقيقٍ أوليٍّ للكتاب (النسخ المخطوطة لكتاب الشكوك نادرة،
وأعتقد أنه قد وصلنا ثلاث مخطوطاتٍ فقط). وقد تفضلت الدكتورة بثينة جلخي عام 2004م
بإعارتي نسخةً غير كاملةٍ من الكتاب كانت قد أخذتها مباشرةً من الدكتور مهدي محقق.
وقبل عرض كتاب الشكوك
لا بد من كلمةٍ فيما يتعلق بمنهج المحقق في النسخة المطبوعة التي وصلتني. فقد
وجدتُ أن الباحث قد بذل جهداً طيباً في محاولة إزالة الإبهام وايضاح الغرض من
المخطوطة، إلا أن هناك بعض الأخطاء، كما يُلْحَظُ غيابٌ للتعليقات
والهوامش والشروحات، أضف إلى ذلك –على الأقل في النسخة المطبوعة التي كنتُ أعمل
عليها- إغفال ذكر المخطوطات التي تم الاعتماد عليها أثناء التحقيق، وغياب المقابلة
بين هذه المخطوطات، وأتمنى أن تكون نسخة الأستاذ عبد الغني عام 2009م قد تحاوزت
هذه الهفوات.
أما بالنسبة لمحتوى الكتاب،
فكما هو معهودٌ من الرازي وكتاباته، فقد كانت النظرة الموسوعية غالبةً على النصوص
الواردة؛ فمن ملاحظاتٍ فلسفيةٍ، إلى مناقشاتٍ في فيزياء الزمان والمكان، تتبعها
أفكارٌ طبيةٌ، وأخرى مرتبطةٌ بالمنطق، لينتقل بعدها إلى نقد مبدأ الهيولى قبل أن
يستأنف حديثه في الطب. وهكذا تمضي السطور وراء السطور متزاحمةً ومتلاحقة، دون
فقراتٍ أو عناوين أو فواصل واضحة (في ذلك الزمان لم يكن التبويب وتقسيم النص إلى
فقراتٍ وعناوين فرعية معروفاً كما نعهده في أيامنا).
ومن الناحية اللغوية
تبرز ركاكةٌ ظاهرةٌ في متن النصوص وسبك العبارات، مع تغايرٍ في الأسلوب في بعض
المواضع، ما قد يدلُّ على كون المخطوط قد امتدَّتْ إليه الأيدي بالزيادة والتغيير،
أو أنه منقولٌ أصلاً عن مسوداتٍ غير جاهزة، أو أن ما قد كُتِبَ قد كان عبارةً عن
جمعٍ من بعض تلاميذ الرازي، وقد يكون ذلك في فتراتٍ مختلفةٍ وبأيدٍ متعددة. وإن
مثل هذا الأسلوب غالبٌ على معظم كتب الرازي، ويبدو جَلِيّاً في موسوعته الشهيرة
المعنونة بـ "الحاوي". وأغلب الظن أن مَرَدَّ ذلك هو أن بعضاً من كتب
الرازي قد تم جمعها من قبل تلاميذه اعتماداً على مسوداته التي خلفها بعد وفاته،
فالرازي كان عالماً غزير الإنتاج والتدوين، وقد يكون لتلك الغزارة دورٌ في أنه خلَّف
كثيراً من المسودات والملاحظات المحتاجة إلى الترتيب والتنظيم دون أن يتاح له
الوقت لذلك.
هذا
من ناحية المحتوى العام وأسلوب السبك والتعبير اللغوي، فماذا عن المنهج الذي اتبعه
الرازي في عرض أفكاره النقدية؟ يبدو أن الرازي قد اتَّبَعَ في كتابه منهجاً نقدياً
واضحاً ومميزاً، فعمد إلى مناقشة كتب جالينوس واحداً تلو الآخر، مبيناً ما ورد في
كل ِّكتابٍ لجالينوس من تناقضاتٍ ناقض بها نفسه، أو ما ظهر من مغالطاتٍ ثبت للرازي
عكسها بالتجربة أو المحاكمة أو التوسُّم. وغالباً ما نلحظ أن الرازي يبتدئ بطرح
مقولة جالينوس، ثم يعقِّبُ عليها بمقولاته ناقداً ومدافعاً عن نقده. حتى أنه كان
حاداً في نقده في بعض المواضع، كما يتبين لنا من قراءة بعض العبارات المسطورة،
وأضرب عليها مثلاً قول الرازي معلقاً على أحد أقوال جالينوس: "فقُبْحُهُ
وشَناعَتُهُ ظاهرٌ بَيِّن"، أو في قوله: "إن هذه النتيجة مُدَلَّسَةٌ
سوفسطائيةٌ، وإنه لم يأتِ البتَّة بالسبب الفاعل الموجب لكون هذه النتيجة، والشكُّ
قائمٌ بعينه"، أو في قوله: "وإن لم يكن هذا منكراً فما في الدنيا منكر،
وإن لم يكن قائل هذا هو الهامز الهاذي فما في الأرض هامزٌ ولا هاذي"، وذلك في
معرض تهكمه وردِّه على مقولةٍ مماثلة لجالينوس. وكثيراً ما كان يلجأ الرازي إلى
أسلوب الحوار النقدي؛ كأن يقول مثلاً: "وإذا قال قائلٌ كذا .... فإننا نقول
كذا".
أما
عن كتب جالينوس والأفكار العلمية التي تم نقدها ومناقشتها فلنا معها وقفةٌ في
مقالٍ منفصل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق