حين يخلقُ اللهُ من الألمِ قمحاً!




نادى الـمُنادي:
إن اللهَ سيخلقُ من الألمِ قمحاً!
قمحاً يُرْمَى به للعصافير كي تغرِّدَ،
ويُصنعُ منه خبزٌ للأفواهِ الجائعةِ فتُغَنّي،
وبلسمٌ للعيون المتعبة كي تنسى دموعها وتنام،
ونادى الـمُنادي: إن اللهَ سيخلقُ من الألمِ قمحاً!
حتى شبعتِ الأرضُ من "القمح السوري" لسبعة قرون ...

حول الحل المنشود في سوريا - مقال منشور في راديو روزنة



تمكن قراءة المقال من موقع روزنة عبر الضغط هنا

من يملك الحل في سوريا؟ الجواب: لا أحد. فأوراق المشهد السوري ليست في يد طرفٍ واحد. ويبدو أن معظم الأطراف الفاعلة في الشأن السوري، بما فيها الدول الإقليمية والعظمى، قد باتتْ أقل قدرةً على ضبط مآلات الأوضاع التي ما فَتِئَتْ تنزلق نحو مزيدٍ من الدم والخراب والتطرُّف. ولعلّه من المؤلم أن نرى السوريين على مختلف انتماءاتهم واصطفافاتهم، وفي وضعهم الحالي، أضعف هذه الأطراف.
حتى الآن فالغالبية العظمى من القوى العنفية المتصارعة في الساحة السورية، هي قوىً مستقطبةٌ لا يهمّها سوريا بقدر ما يهمها النيل من "الآخر" السوري. الأمر ذاته ينطبق على الأصوات السورية العالية التي تهلل لهذه القوى العنفية، بعد أن تختبئ وراء عبارات التباكي على الضحايا، وتتسلّح بالخطابيات الجوفاء.
خرجت الكرة من ملعبنا نحن السوريين، وأصبح مصير الوطن محكوماً، في ظل الظروف الراهنة، بتوافقٍ دوليٍّ ما. لكن يبدو أن مسار الأحداث لن يكون بهذا اليُسْر. فالقوى الإقليمية ما تزال فاعلةً في سفك الدم السوري، أما القوى العظمى فلا تبالي بما يجري في سوريا طالما أنه محصورٌ ضمن الحدود. ويُخشى أن يخيّم هذا التوازن الحذر على المشهد السوري، مؤدياً إلى تأجيلٍ مستمرٍّ وتأخيرٍ لأيِّ انفراجٍ مأمول.
يكثر في هذا السياق الحديث عن جنيف 2. لكن سواء خرج هذا المؤتمر بقراراتٍ معقولةٍ أم لا، فإنه سيكون في حاجةٍ إلى قوىً قادرةٍ على تنفيذه وتحويله إلى مصلحةٍ سورية. إلا أنه يبدو، وبكلِّ أسفٍ، أن القوى السورية المشاركة في جنيف 2 قد شاركتْ من باب الانصياع و"فض العتب"، وتسجيل النقاط الكلامية على السوري "الآخر"، بعد أن ارتضتْ لنفسها دور الدُّمى في يد المعسكرين الروسي والأمريكي. فالسلطة القائمة في البلاد فاقدةٌ للأهلية، وغير جادّةٍ في إيجاد حلٍّ جذري بعيداً عن عنفها الممارس على المدنيين (وإلا لما أوْصلت الأمور إلى هذا الوضع الكارثي أصلاً)، كما أن معظم قوى المعارضة المشاركة في جنيف 2 منزوعة الإرادة، وغير قادرةٍ على فهم التحولات السريعة التي تطرأ على المشهد الدولي وعلى المشهد العنفي داخل البلاد.
يمكن القول إذن إن هناك فراغاً في المشهد السياسي السوري، وأن هذا الفراغ يسمح للقوى الدولية بالـمُماطلة والتسويف. فالروس والأمريكان لا ينوون حسم الأمور معتمدين على الدُّمى التي تتكفّل تلقائياً بتدمير سوريا، ومستغلّين فرصة غياب الساحة السورية من أصواتٍ بديلة.
لا يمكن لمثل هذه الحلقة الـمُفْرَغَة أن تنكسر إلا من خلال صوتٍ سوريّ جديد وقويّ وواسع وقادر على إيصال صوت الغالبية الساحقة من السوريين، في صورةٍ تشكل إحراجاً حقيقياً للمجتمع الدولي. يمكن لمثل هذا الصوت السوري المساهمة في صناعة حلٍّ يوقف الهراء وسفك الدم العَبَثي، ويضع الجميع عند استحقاقاتهم.
هذا الصوت ليس تياراً ثالثاً بالمعنى الاصطفافي، وليس طرفاً يقف على مسافةٍ متساويةٍ مما درج الإعلام السطحي على تسميتهم بالموالاة والمعارضة. فالمشهد السوري قد تجاوز هذا التقسيم المبسط الذي قد يصلح في بلادٍ ذات حياةٍ سياسيةٍ صحية. بل هو صوتٌ سوريٌّ خالصٌ يقف ضد القتل بغضِّ النظر عن هوية القاتل ودوافعه وشعاراته، وبغضِّ النظر عن أداة القتل وتفاصيل الجريمة، ويقف ضد استباحة حقوق السوريين، ويملك من الوعي والتماسك والخطاب المسؤول ما يؤهله للمبادرة وطرح حلولٍ تقنع القوى الدولية على المضي بها.
المعضلة المركزية هي أن مثل هذا الصوت مشلولٌ بسبب تصحرٍّ مزمنٍ جَفَّفَ الشأن العام قبل الانتفاضة، وبسبب عنجهية النظام والعنف المنفلت بعد الانتفاضة، وما تلا ذلك من تسارعٍ في الأحداث الأليمة التي كانت أكبر من قدرة مثل هذا الصوت على ترتيب صفوفه. يضاف إلى ذلك أن مثل هذا الصوت لن يواجه فقط البلايا التي يحفل بها المشهد السوري، ولن يكسب فقط عداء المستفيدين والانتهازيين وأمراء الحرب، بل سيواجه مشهداً سورياً مُوغلاً في الاستقطاب البائس، ومشبعاً بـ "لاثقافة" باب الحارة، وما يرتبط بها من التقاليد البالية كتكسير الرؤوس، والكيْدية الاصطفافية، وغيرها مما ترسخ في المجتمع السوري عبر عقود، وتفاقم خلال سنوات الصراع الحالي.
وإلى أن يتم ذلك فالكارثة السورية مستمرةٌ تحت رحمة توافقٍ دوليٍّ قد يتم أو لا يتم، وإن تم فقد لا يكون –على الأرجح- في مصلحة سوريا والسوريين، بل سيُنَفَّذُ بيد دمىً، في النظام والمعارضة، صُنِعَتْ كي تكون ربيبةً وممثّلةً لمصالح قوىً إقليميةٍ ودولية.

تمكن قراءة المقال من موقع روزنة عبر الضغط هنا


يا أيها الجبلُ الذي يختزلُ كلَّ التجاعيد



تسافرُ أجسادُنا، وتبتعدُ عن الصرخة الأولى، لكن قطعةً منا تأبى إلا أن تتشبَّثَ بسفح قاسيون، قطعةٌ منّا تبقى هناك ولا تهاجر، مثلُها مثلُ قاسيون الذي لا يهاجر.
قاسيون، يا أيها الجبلُ الذي يختزلُ كلَّ التجاعيد، يا أيها الماردُ الوديع، هل تسمعني؟ يا أيها الجبلُ الذي يحرسُ كلَّ الأغاني، يا أيها المتألمُ الـمَحْزُون، هل تسمعني؟ امسحْ عن وجهكَ رائحةَ البارود، واغسلْ قدميكَ بماء قوس قزح. قاسيون، يا أيها الجبلُ الذي يحشرُ في جيبه نصفَ الذكريات، افتحْ عينيكَ، وارفعْ رأسكَ، ولا تبكي.
قاسيون، يا أيها الجبلُ الحنون، يا من تنامُ على كتفه دمشقُ، وفي جبهته يتشمَّسُ القمرُ، دعنا نَتَـوَكَّأُ على بعضنا، عسانا نكمل معاً هذا الدربَ مُبْتَسِمِين. وحتى ذلك الحين، سأضبطُ ساعتي على توقيت قاسيون. فالزمن يبدأ هناك وينتهي. 

حول تهافت الفكر في الفيسبوك السوري



أكثر ما يدفعنا إلى التشاؤم بمستقبل بلادنا هو بعض الشرائح من الجيل الشاب من السوريين "المثقفين" من أصحاب ربطات العنق. نحتاج فقط إلى قراءة تعليقاتهم على "الفيسبوك" حتى ندرك عمق الكارثة – الكارثة التي قد تتجاوز القذائف والصواريخ والموت والدمار، لأنها تصيب العقل في مقتلٍ يصعب الفَكَاكُ منه. إذ نشعر وكأن هناك سباقاً مَحْمُوماً لتعميق مستويات الكراهية والحقد (الموجودة أصلاً)، وسعياً حثيثاً لإثبات مدى الانحطاط والخواء الفكري، وتصميماً على الرفع من سوية السخرية والاستهزاء والعنصرية والدعوة إلى "استئصال"  و"حذف" جماعاتٍ بشرية بكاملها (بغض النظر عن الانتماءات السخيفة التي يحفل بها الشرق الأوسط المتخلف).
هذا الفكر الأحادي الرجعي المحدود والاستعلائي والمحتكر للحقيقة هو إرثٌ استبداديٌّ بكلِّ معنى الكلمة، هذا الفكر هو أصدق تعبيرٍ عن "سوريا الأسد" التي يفترض أننا نود تغييرها نحو الأفضل. وعليه فهو ليس فكراً يمكن أن يتبناه من يود نقل مجتمعه من الحالة الإصطبلية (نسبة إلى الإصطبل) إلى حالة الدول الراقية، بل هو مجرد هراءٍ يعبر عن شللٍ من زعران المثقفين الذين يصيحون على مزابلهم الفكرية العنصرية والبائسة.
لا يمكن لمثل هذا الفكر على الإطلاق أن يدّعي القيام بثورةٍ تؤدي إلى التغيير. وفي أفضل الأحوال فمثل هذا الفكر يمكن فقط أن يغير من توازنات القوة، ويعيد تشكيل الواقع المر، معتمداً على عدد من المبادئ المتفسخة والمتخلفة كالقهر والغلبة والانكسار.
بقي أن نشير إلى أن معظم هذه الخربشات الفيسبوكية لا أثر لها على أرض الواقع سوى في الكشف عن البشاعة الكامنة في نفوس من يكتبها، أو  الكشف عن حالة التأثر السريع بالعقلية القطيعية وهياجية المزاج وتقلباته.

ذكرياتٌ جميلةٌ ووردةٌ جورية




ونحن ننتظر الحكم بالإعدام، كانت الذكريات الجميلة تحمل في يدها وردةً جوريةً. تتقدمُ نحونا. تبتسمُ لنا. تُشْهِرُ الوردة في وجوهنا. تهزُّ أريجها قبالة أنوفنا. ها هي تمرّرُ شوك الوردة على جلودنا: لترسم بالشوك خطوطاً متوازيةً تبدأ بالجبهة ولا تنتهي بأخمص القدم. تُدَوِّنُ بالشوك أسماء العشاق وعناوين البريد، وجوه الأمهات ورائحة الخبز، أبيات الشعر وآيات المصحف. كيف يمكن لوردةٍ جوريةٍ أن تكون بهذه القسوة؟ كيف يمكن لوردةٍ جوريةٍ أن تملك هذه السادية؟ 
ونحن ننتظر الحكم بالإعدام، كانت الذكريات الجميلة تستهزئُ بنا، تمدُّ لسانها وتشتمنا. اغمضوا عيونكم، ودعونا نفكر للحظاتٍ قبل الموت: تُرى من سرق اللون الأحمر من الآخر؛ وردُ الجوري أم دماؤُنا؟

أيها البيت الجميل لا تبكي


ليلة أمس، رأيتُ في المنام بيتنا يبكي. عانـقْتُه كما يعانق الطفلُ جَبَلاً، وحملتُ عنه صندوقاً من الوجع. فأغمض بيتُنا عينيه، وطَفَقَ يغني. وبعد هنيهةٍ أخرج صُـرًّةً من الصور العتيقة: هذه منضدتي، وعليها ستةٌ وعشرون عاماً من الغزل، وهذه ألوان الأخيلة ترتسم على الجدران والسجاد، وتلك رائحة الكتب وأقلام الرصاص، وأصوات أحاديث الضيوف، وارتطام الصحون بالملاعق.
بكينا سويةً بصمتٍ، برهبةٍ، بشوقٍ، لكن بلا دموع أو ألم.
وقبل أن نفترق أخبرني أن الياسمينة رفضتْ أن تصفرَّ هذا الشتاء، أما وردُ الحديقة فما زال ينتظر الربيع.