كتبٌ وإدمان: حكاية طفلٍ مع الكتب
بقلم: طلال المَيْهَني
مذْ بدأتُ أَعِي وجودي على سطح هذه الأرض
وأنا أذكر وجود خزانةٍ للكتب في منزلنا. كانت المجلدات تنتصب بصمتٍ محتلةً الرفوف،
بأحجامها المختلفة، وبألوانها العديدة التي كانت تمتزج مع لون الخشب البني الغامق.
لم تكن الرفوف في تلك الفترة في متناول يدي،
كما أن مهارتي المحدودة في التسلُّق كانت بالكاد تسعفني في الوصول إلى الرفِّ
الأول: أنتشلُ منه كتاباً لأتربَّع على الأريكة، وأقلِّبَ الصفحات تلو الصفحات، ثم
أتخيل نفسي أقرأ كما كان يفعل الكبار حولي، إلى أن تخبو روح الفضول، أو تبدأ برامج
الرسوم المتحركة، أو يغالبني الجوع أو الملل أو النعاس.
لم يكن صعباً أن أستنتج أن بعض الكتب مُتْخَمٌ بالصور الملونة، في
حين تندر الصور أو تغيب كلياً من كتبٍ أخرى كنت أسميها، في سِرِّي، بالكتب
الحزينة لاتشاحها بالسواد. وكطفلٍ كان من البدهي أن أميل إلى الكتب المصورة
والملونة: صورٌ عن الحشرات والحيوانات (وكانت تستهويني بشدة)، وعن الأطالس
والأعمال الفنية من رسوماتٍ ومنحوتاتٍ وأوابد معمارية (بدأت أدرك معانيها، بعيداً
عن الألوان والأشكال، بعد ان تجاوزت مرحلة الطفولة).
ومع مرور الوقت تعرفتُ على كل الكتب في
الرفِّ الأول، وصار بعضها أداةً للترويح عن نفسي (كمعجم لاروس الفرنسي المليء
بالصور)، ونشأتْ صداقةٌ متخيلةٌ بيني وبينها، حتى أني أطلقتُ على بعضها أسماء
معينة (مثلاً سميتُ أحد الكتب باسم "نعمان" لأن لون غلافه مشابهٌ للون
"نعمان" في "افتح يا سمسم"). لكن بقيت الرفوف العليا
عَصِيَّةً عليَّ، وبقي الفضول يدفع بي إلى الوصول إليها واستكشافها دون جدوى، وسط
غبطة والدي الذي كان يردد: سيغدو بمقدروكَ أن تصل إليها حين تكبر!
واستمر الوضع هكذا، بين تصفحٍ لكتب الكبار
دون أن أفهم حرفاً أو قراءةٍ لمجلات الأطفال وبعض القصص القصيرة، إلى أن جاءت
المرة الأولى التي حصلتُ فيها على هديةٍ لا تندرج تحت بند اللُّعَبْ. فقد كنتُ في
الصف الثالث حين أهداني والديّ كتاباً لونه أصفر مخضر عن بحارٍ اسمه كريستوف
كولومبوس (حصل أخي، وهو أصغر منّي بسنتين، على كتابٍ زهريٍّ عن ابن خلدون).
وأعتقد أن أهلي قد لاحظوا شغفي وشغف أخي
بتلك الهدية، فعمدوا إلى إهدائنا كتاباً تلو الكتاب كلَّ شهر، شرط الحصول على
علاماتٍ تامةٍ في الجلاء المدرسي. وهكذا مرَّتِ الشهور والسنين لتتراكم الكتب في
خزانة كتبي الصغيرة: سلسلة أعلام خالدون، أعلام مبرزون، سلسلة الوقائع
العربية والإسلامية، سلسلة أعلام الصحابة، سلسلة حياة الأنبياء، الموسوعة الطبيعية
الميسرة، الموسوعة العلمية الميسرة (يضاف إلى ذلك كتب الألغاز مثل جماعة تختخ،
والشياطين الـ 13، لكنها كانت تعتبر كتباً بقصد الترفيه وليس بقصد التثقيف).
وفي أيام العُطَل كنتُ ألازم جدِّي رحمه
الله في منزله الفسيح والعتيق، حيث تنتشر الكتب منضدةً في كلِّ ركن، لتحتل رفوفاً
واسعةً وعريضةً في خزائن عملاقة ومتعددة بعضها محفورٌ في الجدران. ولم أحتج إلى
كثيرٍ من الوقت كي ألحظ أن خزانة الكتب في منزلنا، رغم حجمها الضخم بالنسبة لي في
تلك الفترة، ضئيلةٌ بالمقارنة ما يحويه منزل جدِّي.
إلا أن الاكتشاف الأكبر الذي توصَّلْتُ إليه
في منزل جدي هو أن للكتب رائحةٌ زكيَّةٌ! وأن اصفرار أوراق الكتب وقِدَم عهدها
مرتبطٌ مباشرةً بعمق هذه الرائحة وزكائها! منذ تلك الأيام البريئة أضحى لرائحة
الكتب موقعٌ في نفسي؛ فهي مختلفةٌ عن رائحة طعام والدتي اللذيذ وعن رائحة الوسادة
المنعشة، تنفذ عميقاً في رأسي الصغير، وتخاطب ظمأً كامناً في
مكانٍ ما في جوارحي. وهكذا بفضلٍ من الله، وفضلٍ من جدّي ووالديّ، وفضلٍ من رائحة
الكتب: صِرْتُ مُدْمِناً على الكتب، ومواظباً على هذا الإدمان، الذي ما فتئ يستفحل
دون أملٍ في الشفاء، وأنا في الثالثة والثلاثين.