يمكن
القول بأنه لا يوجد أي تمايزٍ جذريٍّ بين الإنسان وباقي الحيوانات على مستوى المكونات
الجسدية، بل يمكن الوقوع على تشابهٍ مثيرٍ للاهتمام ومشترك بين غالبية المخلوقات
الحيوانية؛ فهناك فتحةٌ لدخول الطعام، وفتحةٌ لخروج الفضلات، هناك أجهزةٌ للتنفس والتناسل
والهضم ودوران الدم، هناك أعضاء وأنسجة وخلايا وبروتينات وحموض أمينية.
حتى
على مستوى المورثات (الجينات) فهناك قدرٌ عالٍ من التشابه الغريب يدفع بنا إلى
التفاجؤ؛ فنحن وكل الحيوانات نعتمد على ذات الحموض النووية في بناء المادة
الوراثية (DNA, RNA). يضاف إلى
ذلك أن الإنسان يتشارك بـ 20% من مورثاته مع دودة الأرض، بـ 35% من
مورثاته مع الذباب، بـ 80% من مورثاته مع الجرذان، و98% من مورثاته مع القرود! أي أن
المادة الوراثية وكل المكونات الأخرى للخلية الحية وللجسد الحي لا يمكن لها أن
تفسر الاختلاف الجذري بين الإنسان، وبين باقي أنواع الحيوانات، مهما كانت تلك
الحيوانات شبيهة بالإنسان على مستوى الشكل (كالشيمبانزي).
يبقى
شيءٌ وحيدٌ يميّز الإنسان بشكلٍ مطلقٍ عن كافة الكائنات، ألا وهو "العقل"،
ذاك المجهول الذي يرتبط بالدماغ البشري، ليعطي الإنسان جوهر كينونته وحقيقة وجوده
كإنسان، ويمنحه القدرة على الإبداع والاختراع والتغيير، وذلك عبر طيفٍ واسعٍ من الوظائف
العقلية (كالتفكير، والذاكرة، والانتباه، والتركيز، والوعي، ووعي الذات، والدافعية،
والعواطف والانفعال، والمحاكمة، والتمييز، وغيرها كثير).
لكن،
رغم الموقع المحوري "للعقل" البشري، فإن هناك من يعمل، وبكلِّ أسفٍ، على
محاصرة "العقل" وتحريم وتسخيف استخدامه، متذرعاً بركامٍ من الأعراف
والتقاليد التي كانت سبباً أساسياً في التخلف والانحطاط، وبقراءاتٍ معينةٍ من
الفكر الديني تبجّل النقل الحرفي والجامد، وتعيق استخدام الإنسان لقدراته
الإبداعية الهائلة.
وهل
من جريمة أكثر شناعة من ذلك؟ فتحريم استخدام الشيء الوحيد الذي يجعلنا مختلفين عن
باقي الحيوانات، أي تحريم استخدام "العقل"، هو تفريغٌ لجوهر الإنسان واغتيالٌ
له، وهو إطلاقٌ للشرِّ الصرف والمحض من أغلاله كي يعيث فساداً في الأرض على عواهنه،
باسم الآلهة التي تتعدد، أو اسم الوطن الذي يتشظى، أو باسم الحلم العَصِيِّ على
التحقق أو شهوة السلطة التي لا يذوي إغراؤها.
فالشرُّ
المحض والصرف، على خلاف الخير العابر، قابعٌ ومتجذّرٌ في عمق الطبيعة البشرية، تلك
الطبيعة الجرداء الموغلة بالأنانية والغيرة والحقد والاستعلاء والكِبَر والقباحة، والعارية
عن كل ثقافةٍ وتحضّرٍ وإنسانيةٍ وجمال، تلك الطبيعة الموحشة التي لا سبيل إلى ضبطها
وكبحها إلا من خلال "عقلٍ" يعقلُ الشر في مكمنه، ويحمي الحياة من شرِّ بشرٍ
بلا عقول، ويضفي عليها شيئاً من الخير، وشيئاً من الأمل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق