عن حضور الأضداد: في الثورة والفكر الخلاصي - مقال منشور في صحيفة الحياة



لقراة المقال من موقع الصحيفة يرجى الضغط هنا

كشفتْ أحداثُ السنوات القليلة الماضية عن تناقضاتٍ عديدةٍ في العقلية القائمة في منطقتنا، لعل أبرزها هو الحضور القوي لـ «الفكر الخلاصي» جنباً إلى جنب مع الحضور العاطفي والشائع لمفهوم الثورة. يعكس هذا الحضور المتزامن لموقفين متناقضين ومتعاكسين عمقَ التفارق بين الواقع والحلم، وما يولده هذا التفارق من يأسٍ عميمٍ ومنتشرٍ في منطقةٍ تسعى نحو تغييرٍ عصيٍّ على التحقق.
يمكن القول إن «الفكر الخلاصي» موروثٌ قديمٌ في ثقافة المنطقة ونسيجها الاجتماعي، وله جذورٌ في الفكر الديني الغيبي. يتجلّى ذلك في منطق «انتظار المُخَلِّص»، وفي الارتهان إلى سردياتٍ تاريخيةٍ حتميةٍ تضم مزيجاً متراكماً من أخبار آخر الزمان والمرويّات والأثر. ومع أن هذه السرديات تختلف في تفاصيلها باختلاف الملل والمذاهب، إلا أنها تُجْمِعُ على نهجٍ واحد تقريباً: ظهورُ «مُخَلِّصٍ» (النبي عيسى أو المهدي) في آخر الزمان بعد أن تكثر الفتن والشرور، لينتصر للحق على الباطل، وينصر المظلوم على الظالم، ويحقق عدالةً منشودةً طال انتظارها.
في بلداننا يشيع «الفكر الخلاصي» على المستوى الاجتماعي حتى في أوقات الاستقرار النسبي. فقد فشلت حداثتنا المشوّهة في خلق تطورٍ حقيقيٍّ وشامل، ولم تنجح في تأسيس علاقاتٍ مجتمعيةٍ قائمةٍ على المواطنة، كما لم تستطع خلق بدائل ملموسة تُغني عن «انتظار المُخَلِّص». بل على العكس، ففي ظل انعدام الثقة وتغييب القانون، بقيت فكرة «المُخَلِّص» حاضرةً دائماً في الوعي الجمعي بمواجهة أي خطرٍ داهمٍ يأتي، للمفارقة، من أهم رموز الحداثة، أي من «الدولة الحديثة» التي يفترض بها حماية المواطنين (عملياً فمصدر الخطر هو أنظمة الحكم الاستبدادية التي استولت وصادرت الدولة، ولكن عادةً ما يدمج الوعي الجمعي بين المصطلحين –أي بين الدولة والنظام- بصورة يصعب الفصل بينهما).
أما في أوقات الأزمات، فمن المبرر بكل تأكيد أن يكون «الفكر الخلاصي» ملجأً يخفف من حدّة النوازل والكوارث التي تصيب الجماعات البشرية المظلومة، معطياً الذاكرة الجمعية لهذه الجماعات فرصةً كي تتماسك وتتمسك بأملٍ ما. وتشكل الحالة السورية نموذجاً لهذا الوضع، حيث يستفحل «الفكر الخلاصي» في الشرائح التي تعاني من ظلم وعنف النظام، ما يدفعها إلى انتزاع فكرة «المُخَلِّص» من عالم الغيب، والبحث عنه في العالم المادي، والعمل على استحضاره في صيغةٍ ملموسة، وإعادة تشكيله في أي قوةٍ قادرةٍ على مقارعة الظلم.
وهذا ما قد يفسر ترحيب شرائح من السوريين بـ «داعش» و»النصرة» وأمثالها على أنها «مُخَلِّصٌ» طال انتظاره، من دون أن تمتلك تلك الشرائح ترف التبصُّر بالعواقب على المدى البعيد.
لكن إنْ كان من المفهوم أن يستفحل «الفكر الخلاصي» على المستوى العام وبخاصة في زمن العنف والأزمات، فليس من المفهوم ولا المبرر أن نرى هذا الاستفحال على مستوى المثقفين والسياسيين، أو على مستوى من يرى نفسه جزءاً من ثورةٍ نحو التغيير. إذ يفترض بهؤلاء، وبخاصة من يعيش منهم في مأمنٍ من العنف المباشر، صناعة الحلول وابتكار المخارج لا انتظارها، وتوجيه البوصلة نحو مستقبلٍ أفضل لسورية والسوريين لا الاكتفاء بالتحالف مع المستبدين الجدد أو الاستخفاف بتأثيرهم المدمر والرجعي، حتى لو ادّعوا عداء النظام.
عملياً، يعكس الحضور الواسع لهذا «الفكر الخلاصي» في الساحة الثقافية والسياسية والثورية عجزاً عضوياً في الحوامل المعنية بالشأن العام (هذا إنْ وُجِدَتْ مثل هذه الحوامل). ويعود ذلك، في جانبٍ منه على الأقل، إلى ضعف البعد النقدي عند السّاسة والمثقفين، أو سقوطهم أسرى للمزاج العام الجارف في عصر الاتصالات. ويختلط هذا العجز مع عدم احتراف السياسة، حيث يغلب الفعل المافيوي التسلطي على الفعل السياسي، ويعلو الخطاب الأيديولوجي المتخشب أو الأخلاقي التطهُّري على حساب القول السياسي، كما يتم غالباً إقحام «المقدس» بالسياسة، وبالعكس، وبصورةٍ تكبح الفكر النقدي بحجة الخروج على الدين. ويعمل ما سبق بطبيعة الحال على تشويه السياسة (المشوهة أصلاً)، وتحويلها من فنٍّ بشريٍّ لإدارة الشأن العام إلى وسيلةٍ للتسلّط والقـــهر، أو إلى «ســـاحـــة مُدَنَّسة» ينبذها رجالات الســـياسة ليــملأها المتسلقون والانتهازيون وأمراء الحرب.
لا شك في أن «الفكر الخلاصي» يعبِّر عن أحلام الناس على اختلاف ثقافاتهم، فهو نابعٌ من كراهيةٍ عميقةٍ للظلم، وتَوْقٍ صادقٍ إلى تحقيق العدالة. لكنه بدلاً من أن يتحول إلى قوةٍ إيجابيةٍ وفاعلةٍ لرفع الظلم وتحقيق العدالة، فإنه يولّد حالةً من الجمود تنتظر وتستجدي «المُخَلِّص» الذي يقع على عاتقه «هو» وحده تحويل المطالب والأماني إلى وقائع. وبالنتيجة يمارس «الفكر الخلاصي» دوراً مخدراً يرسخ الاستكانة، ويعطي الظلم الفرصة كي يتجذر، ويؤجل التغيير. وهذا ما قد يؤدي إلى حلقةٍ مفرغةٍ من الإدمان على «الفكر الخلاصي»، وكأن العقلية السائدة غير مولعةٍ بالخلاص بقدر وَلَعِها بـ«المُخَلِّص» حتى لو كان ذا حضورٍ غيبيٍّ بعيد التحقق، أو على شاكلة «داعش» و«النصرة».
يساهم الإدمان على «الفكر الخلاصي» في تدمير الثقة الذاتية للجماعات والأفراد، وتحويلهم إلى كائناتٍ قاصرةٍ تعوزُها القدرة على الفعل. ومن هنا ينشأ التناقض الصميمي بين «الفكر الخلاصي» السلبي والمنفعل، وبين مفهوم «الثورة» المرتبط بالتجدد والتغيير.
ويترسخ هذا التناقض في سياق خمولٍ فكريٍّ يضرب أطنابه في مفاصل مجتمعاتنا، مع ما يفرزه ذلك الخمول من ثقافةٍ تواكليةٍ تحترف الكلام الخطابي، وتأنف من الفعل والمبادرة، وتهرب من تحمل المسؤوليات.
أخيراً، ربما ليس من المبالغة القول إن أي تغييرٍ حقيقيٍّ، في عموم الشرق الأوسط، سيبقى حلماً بعيد المنال إن لم بترافق مع عملٍ دؤوبٍ وتدريجيٍّ يعزز ثقة إنسان المنطقة بذاته وإمكاناته على المبادرة والنقد والفعل والبناء، ويحرره من قيود الثقافة التواكلية و «فكرها الخلاصي»، ويسمح له بالانفتاح على الأفكار المغايرة والتجارب السابقة، ويحميه في الآن ذاته من الوقوع في مطبات التمكين الزائف، والتقوقع على الهوية، وأوهام العظمة والتمايز، وشوفينية الذات واستعلائها.

لقراة المقال من موقع الصحيفة يرجى الضغط هنا

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق