لقراءة المقال من موقع الصحيفة يرجى الضغط هنا.
يقع "تل النبي مندو" جنوبي حمص السورية في
منطقةٍ سياحيةٍ ذات طبيعةٍ خَلّابةٍ يَمُرُّ فيها نهر العاصي. قد يكون من المفاجئ
أن نعلم أن هذه البقعة الساحرة كانت قد شهدتْ، عام 1274 ق.م، لقاءً دموياً بين جيش
رمسيس الثاني، وجيش الحثيين فيما يُعْرَف باسم "معركة قادش".
كانتْ "معركة قادش" واحدةً من أولى المعارك في
التاريخ البشري التي يتم تدوين تفاصيلها، مع شروحٍ للتكتيكات التي اتبعت والخسائر
والضحايا والأسرى والمآلات. لكنها بالتأكيد لم تكن أول معركةٍ في التاريخ البشري،
إذ تدل نتائج الدراسات الآثارية والأنثروبولوجية على أن الإنسان قد مارس العنف منذ
فجر التاريخ، وأن المنطقة التي تسمى الآن بالدولة السورية، بمُدُنِها الضاربة في
عمقِ التاريخ وإرْثِها الثقافي المتنوع والغني، كانت مسرحاً لاضطراباتٍ عنفيةٍ
وغزواتٍ مستمرةٍ على مدى القرون.
الآن، وبعد أكثر من 3000 عام من "معركة قادش"،
تشهد سوريا صراعاً عنفياً طاحناً، لكنه هذه المرة ليس بين الفراعنة والحثيين، بل بين
السوريين من أبناء هذه الأرض، ووفق اعتباراتٍ مذهبيةٍ متضخمةٍ في ظل "دولة
حديثة" فشلت، على مدى سبعة عقود من استقلالها، في تحويل أبناء الطوائف إلى
مواطنين.
لا يمكن فهم الصراع الحالي في سوريا بالاعتماد فقط على
سرديات المظلومية، أو على التفسيرات العاطفية والتاريخية المبسطة. بل إن مثل هذا
الفهم يستوجب أيضاً وضع الصراع القائم في سياقه الزمني، أي في حقبةٍ تكاثرت فيها
منتجات الحداثة بالتوازي مع استفحال قيم مناهضة للحداثة، وهذا ما يستتبع مقارنةً
مع الحرب التقليدية المتعارف عليها تاريخياً، والتي لم تعد صالحةً للتطبيق على
الحروب المعاصرة.
لقد خضع الصراع العنفي عبر القرون إلى تغيراتٍ سواء على
مستوى الدوافع والوسائل والغايات، أو على مستوى مفاهيم الحرب والعنف بحد ذاتها. ففي
الماضي السحيق كانت الحرب بين البشر تتبع الأعراف الحيوانية التي استخلصها الإنسان
من قراءته للغة الطبيعة وشرائع الغاب، وعمل على تطبيقها على صراع الأقوام
والقبائل، ليأخذ شكل غارات "أخذٍ وردٍّ" أو "كرٍّ وفرٍّ":
غارةٌ، يتلوها سلبٌ للغنائم، فانسحاب، فتوترٌ يولد غارةً أخرى، وهكذا تعاد الكرّة
من جديد، في حلقةٍ مستمرةٍ من الدفاع والهجوم.
وبالعموم لم تملك الحروب القديمة التقليدية قدراتٍ تطهيرية
واستئصالية، وبالتأكيد لم ينجم ذلك عن نجاعة الضوابط الأخلاقية التي غالباً ما كان
يتم خرقها، إذ لم يكن الإنسان أكثر نبلاً وإنسانية مما هو عليه الآن. لكن تحقيق
الإبادة والاستئصال الكامل كان في منتهى الصعوبة في زمن السيف والترس، بسبب
محدودية أدوات القتل والتدمير، وصعوبة الحشد والتمويل، وشبه استحالة التطبيق على
المستوى العملي.
ومع أنه من الطبيعي أن تشكل الأخلاق تضاداً صارخاً مع
مفهوم الحرب، إلا أن الحرب القديمة كانت قد طوَّرت آلياتها "الأخلاقية"،
ليأخذ ذلك صورةً أكثر تنظيماً في العصور الوسطى على مستوى المبادئ، بخاصة فيما
يسمى بأخلاقيات "الحرب العادلة". وقد انشغل المفكرون بالتنظير لمفهوم
"الحرب العادلة"، معتمدين على معايير مختلفة من الإرث الديني والثقافي،
كما في كتابات القديس أغسطين، وما أُثِرَ عن صحابة النبي، وتوما الإكويني وغيرهم
من مفكري الشرق والغرب. أما على مستوى الممارسة فقد تجلّت "الحرب
العادلة" تاريخياً في تقاليد الفروسية وغيرها من الأعراف التي تميل الكتب
التاريخية والأدبية إلى ربطها بالنبل والكرم.
ومع صعود الثورة العلمية وابتكار أدوات صراع تدميرية
وبعيدة المدى (الأسلحة النارية والموجهة عن بعد والأسلحة النووية والكيماوية
والبيولوجية) تطور انزياحٌ تنكسيٌ في تقاليد الصراع العنفي. لكن صعود التكنولوجيا،
والانتشار الواسع لوسائل الاتصال الرقمية في العقود القيلة الماضية أسس لقطيعةٍ مع
الحرب التقليدية. إذ باتت الحرب متعددة الأبعاد، ولم تعد مقتصرةً فقط على التدمير
والقتل والتشويه الجسدي، بل صارت قادرةً على النفاذ والتأثير "عن بعد" في
شرائح واسعة من الناس، لتمارس تدمير وقتل وتشويه "الوعي" الذي يتجاوز
مكان/زمان الحرب، ويشمل أجيالاً بأكملها.
لقد هبّت رياح الحداثة لتحول أبناء المنطقة إلى
مستهلكين، ليس فقط لتكنولوجيا الاتصالات ومولات التسوق، بل لمفرزات العنف الحداثي
وآخر صيحات أسواق السلاح. وفي وقت الأزمات التي تكاثرت في هذه المرحلة الحرجة غدا
السلاح الروسي والأمريكي المتطور متاحاً بيد من يعيش خارج التاريخ، سواء لبس
قناعاً دينياً أو علمانياً. وقد تلاقى هذا الاستهلاك السطحي مع التناقضات الإثنية
والطبقية والطائفية ومع التشدد الديني، الذي بات يأخذ حيزاً واسعاً جداً من الوعي
العام في منطقتنا مؤججاً نار هذا الصراع المفتوح.
ينذر هذا التلاقي بين العنف والمقدس في عصر الديجيتال بحروبٍ
شرسةٍ موغلةٍ في الانحطاط؛ فتمازج القيم المناهضة للتطور البشري مع المنابر
الإعلامية والأسلحة الفتّاكة سيضمن استمرار سفك الدم وهدر الأجيال، وهذا ما يجعلنا
مستهلكين للحرب بنمطها الوحشي الاستئصالي الـ "ما دون" الحيواني، بخاصة
بعد أن ينزلق الصراع إلى حربٍ فانتازيةٍ غير مدفوعةٍ بمصلحة الوطن أو الثورة أو الجماعة
أو الحزب أو السلطة، بل بناءً على أسبابٍ يتم إلباسها عباءةً مقدسة.
ولهذا، ربما يمكن القول بأن منطقتنا لم تفشل فقط في
التصالح مع "الحداثة"، بل إنها دخلت "ما بعد حداثتها" وفق
معايير العصور الوسطى في القرن الحادي والعشرين، وها هي تعيش نتائج التزاوج المسخي
والكارثي بين تخلّف العقل وتكنولوجيا الزناد، بين الزحف المقدس وأزرار الديجيتال،
حتى بات لدينا ملايين "البسوس" الذين لا يتورعون عن إذكاء نار عنفٍ لن يُبقي
ولن يذر. ومع بروز البعد الاقتصادي والتدخلات الخارجية، وانكماش الوعي السياسي في
المنطقة وإفراغها من مواردها البشرية، وعلو صوت الغريزة وسط اليأس والألم، فإن
صيحات إيقاف الحرب ستغدو نوعاً من التغريد الأفلاطوني خارج السرب، لكن كل ذلك لا
يغير من قباحة الحرب وقذارتها، ولا يغير من صحة قول القائل ألا شيء جيد في الحرب
سوى إنهاؤها.
لقراءة المقال من موقع الصحيفة يرجى الضغط هنا.