مقدمةٌ في رثاء العقل البشري



يمكن القول بأنه لا يوجد أي تمايزٍ جذريٍّ بين الإنسان وباقي الحيوانات على مستوى المكونات الجسدية، بل يمكن الوقوع على تشابهٍ مثيرٍ للاهتمام ومشترك بين غالبية المخلوقات الحيوانية؛ فهناك فتحةٌ لدخول الطعام، وفتحةٌ لخروج الفضلات، هناك أجهزةٌ للتنفس والتناسل والهضم ودوران الدم، هناك أعضاء وأنسجة وخلايا وبروتينات وحموض أمينية.
حتى على مستوى المورثات (الجينات) فهناك قدرٌ عالٍ من التشابه الغريب يدفع بنا إلى التفاجؤ؛ فنحن وكل الحيوانات نعتمد على ذات الحموض النووية في بناء المادة الوراثية (DNA, RNA). يضاف إلى ذلك أن الإنسان يتشارك بـ 20% من مورثاته مع دودة الأرض، بـ 35% من مورثاته مع الذباب، بـ 80% من مورثاته مع الجرذان، و98% من مورثاته مع القرود! أي أن المادة الوراثية وكل المكونات الأخرى للخلية الحية وللجسد الحي لا يمكن لها أن تفسر الاختلاف الجذري بين الإنسان، وبين باقي أنواع الحيوانات، مهما كانت تلك الحيوانات شبيهة بالإنسان على مستوى الشكل (كالشيمبانزي).
يبقى شيءٌ وحيدٌ يميّز الإنسان بشكلٍ مطلقٍ عن كافة الكائنات، ألا وهو "العقل"، ذاك المجهول الذي يرتبط بالدماغ البشري، ليعطي الإنسان جوهر كينونته وحقيقة وجوده كإنسان، ويمنحه القدرة على الإبداع والاختراع والتغيير، وذلك عبر طيفٍ واسعٍ من الوظائف العقلية (كالتفكير، والذاكرة، والانتباه، والتركيز، والوعي، ووعي الذات، والدافعية، والعواطف والانفعال، والمحاكمة، والتمييز، وغيرها كثير).
لكن، رغم الموقع المحوري "للعقل" البشري، فإن هناك من يعمل، وبكلِّ أسفٍ، على محاصرة "العقل" وتحريم وتسخيف استخدامه، متذرعاً بركامٍ من الأعراف والتقاليد التي كانت سبباً أساسياً في التخلف والانحطاط، وبقراءاتٍ معينةٍ من الفكر الديني تبجّل النقل الحرفي والجامد، وتعيق استخدام الإنسان لقدراته الإبداعية الهائلة.  
وهل من جريمة أكثر شناعة من ذلك؟ فتحريم استخدام الشيء الوحيد الذي يجعلنا مختلفين عن باقي الحيوانات، أي تحريم استخدام "العقل"، هو تفريغٌ لجوهر الإنسان واغتيالٌ له، وهو إطلاقٌ للشرِّ الصرف والمحض من أغلاله كي يعيث فساداً في الأرض على عواهنه، باسم الآلهة التي تتعدد، أو اسم الوطن الذي يتشظى، أو باسم الحلم العَصِيِّ على التحقق أو شهوة السلطة التي لا يذوي إغراؤها.
فالشرُّ المحض والصرف، على خلاف الخير العابر، قابعٌ ومتجذّرٌ في عمق الطبيعة البشرية، تلك الطبيعة الجرداء الموغلة بالأنانية والغيرة والحقد والاستعلاء والكِبَر والقباحة، والعارية عن كل ثقافةٍ وتحضّرٍ وإنسانيةٍ وجمال، تلك الطبيعة الموحشة التي لا سبيل إلى ضبطها وكبحها إلا من خلال "عقلٍ" يعقلُ الشر في مكمنه، ويحمي الحياة من شرِّ بشرٍ بلا عقول، ويضفي عليها شيئاً من الخير، وشيئاً من الأمل.

عن حضور الأضداد: في الثورة والفكر الخلاصي - مقال منشور في صحيفة الحياة



لقراة المقال من موقع الصحيفة يرجى الضغط هنا

كشفتْ أحداثُ السنوات القليلة الماضية عن تناقضاتٍ عديدةٍ في العقلية القائمة في منطقتنا، لعل أبرزها هو الحضور القوي لـ «الفكر الخلاصي» جنباً إلى جنب مع الحضور العاطفي والشائع لمفهوم الثورة. يعكس هذا الحضور المتزامن لموقفين متناقضين ومتعاكسين عمقَ التفارق بين الواقع والحلم، وما يولده هذا التفارق من يأسٍ عميمٍ ومنتشرٍ في منطقةٍ تسعى نحو تغييرٍ عصيٍّ على التحقق.
يمكن القول إن «الفكر الخلاصي» موروثٌ قديمٌ في ثقافة المنطقة ونسيجها الاجتماعي، وله جذورٌ في الفكر الديني الغيبي. يتجلّى ذلك في منطق «انتظار المُخَلِّص»، وفي الارتهان إلى سردياتٍ تاريخيةٍ حتميةٍ تضم مزيجاً متراكماً من أخبار آخر الزمان والمرويّات والأثر. ومع أن هذه السرديات تختلف في تفاصيلها باختلاف الملل والمذاهب، إلا أنها تُجْمِعُ على نهجٍ واحد تقريباً: ظهورُ «مُخَلِّصٍ» (النبي عيسى أو المهدي) في آخر الزمان بعد أن تكثر الفتن والشرور، لينتصر للحق على الباطل، وينصر المظلوم على الظالم، ويحقق عدالةً منشودةً طال انتظارها.
في بلداننا يشيع «الفكر الخلاصي» على المستوى الاجتماعي حتى في أوقات الاستقرار النسبي. فقد فشلت حداثتنا المشوّهة في خلق تطورٍ حقيقيٍّ وشامل، ولم تنجح في تأسيس علاقاتٍ مجتمعيةٍ قائمةٍ على المواطنة، كما لم تستطع خلق بدائل ملموسة تُغني عن «انتظار المُخَلِّص». بل على العكس، ففي ظل انعدام الثقة وتغييب القانون، بقيت فكرة «المُخَلِّص» حاضرةً دائماً في الوعي الجمعي بمواجهة أي خطرٍ داهمٍ يأتي، للمفارقة، من أهم رموز الحداثة، أي من «الدولة الحديثة» التي يفترض بها حماية المواطنين (عملياً فمصدر الخطر هو أنظمة الحكم الاستبدادية التي استولت وصادرت الدولة، ولكن عادةً ما يدمج الوعي الجمعي بين المصطلحين –أي بين الدولة والنظام- بصورة يصعب الفصل بينهما).
أما في أوقات الأزمات، فمن المبرر بكل تأكيد أن يكون «الفكر الخلاصي» ملجأً يخفف من حدّة النوازل والكوارث التي تصيب الجماعات البشرية المظلومة، معطياً الذاكرة الجمعية لهذه الجماعات فرصةً كي تتماسك وتتمسك بأملٍ ما. وتشكل الحالة السورية نموذجاً لهذا الوضع، حيث يستفحل «الفكر الخلاصي» في الشرائح التي تعاني من ظلم وعنف النظام، ما يدفعها إلى انتزاع فكرة «المُخَلِّص» من عالم الغيب، والبحث عنه في العالم المادي، والعمل على استحضاره في صيغةٍ ملموسة، وإعادة تشكيله في أي قوةٍ قادرةٍ على مقارعة الظلم.
وهذا ما قد يفسر ترحيب شرائح من السوريين بـ «داعش» و»النصرة» وأمثالها على أنها «مُخَلِّصٌ» طال انتظاره، من دون أن تمتلك تلك الشرائح ترف التبصُّر بالعواقب على المدى البعيد.
لكن إنْ كان من المفهوم أن يستفحل «الفكر الخلاصي» على المستوى العام وبخاصة في زمن العنف والأزمات، فليس من المفهوم ولا المبرر أن نرى هذا الاستفحال على مستوى المثقفين والسياسيين، أو على مستوى من يرى نفسه جزءاً من ثورةٍ نحو التغيير. إذ يفترض بهؤلاء، وبخاصة من يعيش منهم في مأمنٍ من العنف المباشر، صناعة الحلول وابتكار المخارج لا انتظارها، وتوجيه البوصلة نحو مستقبلٍ أفضل لسورية والسوريين لا الاكتفاء بالتحالف مع المستبدين الجدد أو الاستخفاف بتأثيرهم المدمر والرجعي، حتى لو ادّعوا عداء النظام.
عملياً، يعكس الحضور الواسع لهذا «الفكر الخلاصي» في الساحة الثقافية والسياسية والثورية عجزاً عضوياً في الحوامل المعنية بالشأن العام (هذا إنْ وُجِدَتْ مثل هذه الحوامل). ويعود ذلك، في جانبٍ منه على الأقل، إلى ضعف البعد النقدي عند السّاسة والمثقفين، أو سقوطهم أسرى للمزاج العام الجارف في عصر الاتصالات. ويختلط هذا العجز مع عدم احتراف السياسة، حيث يغلب الفعل المافيوي التسلطي على الفعل السياسي، ويعلو الخطاب الأيديولوجي المتخشب أو الأخلاقي التطهُّري على حساب القول السياسي، كما يتم غالباً إقحام «المقدس» بالسياسة، وبالعكس، وبصورةٍ تكبح الفكر النقدي بحجة الخروج على الدين. ويعمل ما سبق بطبيعة الحال على تشويه السياسة (المشوهة أصلاً)، وتحويلها من فنٍّ بشريٍّ لإدارة الشأن العام إلى وسيلةٍ للتسلّط والقـــهر، أو إلى «ســـاحـــة مُدَنَّسة» ينبذها رجالات الســـياسة ليــملأها المتسلقون والانتهازيون وأمراء الحرب.
لا شك في أن «الفكر الخلاصي» يعبِّر عن أحلام الناس على اختلاف ثقافاتهم، فهو نابعٌ من كراهيةٍ عميقةٍ للظلم، وتَوْقٍ صادقٍ إلى تحقيق العدالة. لكنه بدلاً من أن يتحول إلى قوةٍ إيجابيةٍ وفاعلةٍ لرفع الظلم وتحقيق العدالة، فإنه يولّد حالةً من الجمود تنتظر وتستجدي «المُخَلِّص» الذي يقع على عاتقه «هو» وحده تحويل المطالب والأماني إلى وقائع. وبالنتيجة يمارس «الفكر الخلاصي» دوراً مخدراً يرسخ الاستكانة، ويعطي الظلم الفرصة كي يتجذر، ويؤجل التغيير. وهذا ما قد يؤدي إلى حلقةٍ مفرغةٍ من الإدمان على «الفكر الخلاصي»، وكأن العقلية السائدة غير مولعةٍ بالخلاص بقدر وَلَعِها بـ«المُخَلِّص» حتى لو كان ذا حضورٍ غيبيٍّ بعيد التحقق، أو على شاكلة «داعش» و«النصرة».
يساهم الإدمان على «الفكر الخلاصي» في تدمير الثقة الذاتية للجماعات والأفراد، وتحويلهم إلى كائناتٍ قاصرةٍ تعوزُها القدرة على الفعل. ومن هنا ينشأ التناقض الصميمي بين «الفكر الخلاصي» السلبي والمنفعل، وبين مفهوم «الثورة» المرتبط بالتجدد والتغيير.
ويترسخ هذا التناقض في سياق خمولٍ فكريٍّ يضرب أطنابه في مفاصل مجتمعاتنا، مع ما يفرزه ذلك الخمول من ثقافةٍ تواكليةٍ تحترف الكلام الخطابي، وتأنف من الفعل والمبادرة، وتهرب من تحمل المسؤوليات.
أخيراً، ربما ليس من المبالغة القول إن أي تغييرٍ حقيقيٍّ، في عموم الشرق الأوسط، سيبقى حلماً بعيد المنال إن لم بترافق مع عملٍ دؤوبٍ وتدريجيٍّ يعزز ثقة إنسان المنطقة بذاته وإمكاناته على المبادرة والنقد والفعل والبناء، ويحرره من قيود الثقافة التواكلية و «فكرها الخلاصي»، ويسمح له بالانفتاح على الأفكار المغايرة والتجارب السابقة، ويحميه في الآن ذاته من الوقوع في مطبات التمكين الزائف، والتقوقع على الهوية، وأوهام العظمة والتمايز، وشوفينية الذات واستعلائها.

لقراة المقال من موقع الصحيفة يرجى الضغط هنا

الطغيان كمرجعية للحدث السوري - مقال منشور في صحيفة الحياة




لقراءة المقال من موقع الصحيفة يرجى الضغط هنا.

نكاد نجزم أن كثيراً من السوريين ما كانوا ليتوقعوا أن تصل سوريا إلى ما وصلت إليه في هذه الأيام. إذ لم تكن غالبية السوريين، بكل تأكيد، تحلم بإعادة سوريا قروناً إلى الوراء، ولم تكن تتمنى أن تتفكك البلاد ويتشرد العباد، أو أن يقتل مئات الآلاف ويهجر الملايين، وبالتأكيد فالثورة لم تنطلق لاستبدال مستبدٍ وظلمٍ جديد بمستبدٍ وظلمٍ قديم.
لكن الواقع الأليم يخبرنا بأن سوريا قد سقطتْ في حلقةٍ مفرغةٍ من الاستبداد القاتم، وباتت ضحية صراعٍ دمويٍّ بين طغيانٍ وطغيانٍ مضاد. وعوضاً عن المسير إلى الأمام بتنا نفرح بالاقتراب من اختراع العجلة من جديد! فيحتفي البعض مثلاً بتصريحٍ للجولاني يقول فيه بأنه -وبكل كرم- لن يمارس فعل الإبادة في حق المختلفين، لا بل هناك من الناشطين والمثقفين من يرى في هذا التصريح مكرُمةً تستحق الثناء! متناسياً أننا نعيش في القرن الحادي والعشرين. وهذا جانبٌ من الفصام الأليم الذي تعاني منه شريحةٌ من الناشطين والسياسيين والمثقفين؛ فهذه الشريحة لا تتوانى عن الدفاع والتغزل بالنصرة وداعش، وتتساءل، في الوقت نفسه، عن سر إحجام الغرب عن دعم الثورة السورية! وتضيع وسط هذه الفوضى الشعبوية الغايات الكبرى التي يفترض أن تسعى إليها أي ثورة، لتتحول الثورة إلى مجرد كلمة يرددها كثيرٌ ممن يود النيل من الآخرين.
أربع سنواتٍ بات فيها حجم الهوّة الفكرية التي تفصلنا عن ركب الحضارة الإنسانية هائلاً، بينما يتفشّى في أجيالٍ من أطفالنا منطق العصور الوسطى بصورةٍ قاتلة. صارت سوريا أجزاء مبعثرة، ترفع أعلاماً شتى لإماراتٍ تتكاثر، ودويلاتٍ ترتسم حدودها على خطوط التماس، وتنفذ عقوباتٍ بحق من يشتم الخليفة أو بشار الأسد. أما زعزعة الشعور القومي، ووهن نفسية الأمة، والتخوين ومحاربة نهج الثورة فتهمٌ جاهزةٌ للتراشق سواء في صفوف أتباع "ثورة البعث"، أو متسلقي ثورة 2011. في حين أن الثابت الذي لم يتزحزح في كل هذه السنين هو أن كبتَ الحريات يبقى مستمراً، وكرامة السوريين تبقى مهدورة، ما يجعل المرء يحار بحثاً عن جواب سؤالٍ من قبيل: لماذا قامت الثورة إذن؟
مرت أربع سنواتٍ صعدت فيها قوىً تنافس النظام في طغيانه، ولم يعد الاكتفاء بالنيل من النظام قادراً على تحقيق أيٍّ من غايات الثورة بالحرية والكرامة. رغم ذلك فإن كثيراً من المراقبين والناشطين ما زالوا يعيشون وفق عقلية عام 2011، فيحللون الأحداث ويتعاملون مع المواقف من حيث قربها أو بعدها عن النظام فقط. وهكذا يشكل النظام، وفقاً لهذا القول، المرجعية المركزية التي يستند إليها الخطاب الثوري الشائع، ذاك الخطاب الذي انحرف عن بداياته الواعدة، فأتقن الشتم والتخوين والكذب ومصادرة الحرية باسم الحرية، وفشل في المحافظة على قيمٍ سورية جامعةٍ، أو في إخضاع نفسه إلى مراجعةٍ نقديةٍ جادة.
بناء على ما تقدم يبدو أن شبح النظام لم يمت بعد. نرى ذلك في استناد الخطاب الثوري الشائع في تكوينه على وجود النظام كركن أساسي تتم الإحالة إليه، وفي عجز هذا الخطاب عن تطوير مرجعيةٍ تتجاوز النظام لتعتمد القيم الإنسانية المشتركة. لكن الدليل الأهم على استمرارية شبح النظام تكمن في أن آثاره المدمرة، من عقليةٍ جامدةٍ وأحادية، ما تزال تعيش في دواخل كثيرٍ من المعارضين ومتسلقي الثورة المهووسين بالاستبداد، وهذا ما يفسر تصفيقهم للنصرة وداعش وأمثالها.
كثيراً ما تحتج أصواتٌ في المعارضة والثورة على ما سبق بالقول بأن المعركة الآن مع النظام، ومن بعدها فلكل حادث حديث! وهذه المحاججة، وبغض النظر عن كيديتها وافتقارها إلى الحد الأدنى من مسؤولية القول السياسي، أشبه بشراء السمك في الماء، ومقامرةٌ غير محسوبةٍ بمستقبل البلاد التي قد لا تخرج من وحل التخلّف والاقتتال الأهلي لعقود.
إن كل اندحارٍ للنظام لا يعني بالضرورة أننا نخطو باتجاه سوريا الجديدة، فبناء مستقبلٍ مشرقٍ لا يعتمد على انحسار النظام فقط، بل على طبيعة من يحقق الانتصارات، ويملأ الفراغ، ويصنع البدائل. وبالنظر إلى خريطة توزع القوى على الساحة فمن الملحوظ تراجع الوجود السوري الوطني أمام قسمة حربٍ لا تعترف بسوريا الدولة أصلاً، على يد مجموعةٍ متباينةٍ من المجموعات العنفية، تشمل بقايا النظام وميليشياته وداعش والنصرة والقاعدة وأخواتها.
من ناحية أخرى، ربما من الخطأ النظر إلى نتائج المعارك الأخيرة على أنها إضعافٌ نهائيٌّ للنظام. صحيحٌ أنها ستجعل أكثر من نصف سوريا خارج سيطرة النظام، وصحيحٌ أن النظام قد يغدو متشظياً إلى أجزاء ويفقد السيطرة المركزية على ميليشياته، إلا أن التطورات الميدانية ستدفع بهذه الأجزاء إلى الانكماش في مساحةٍ جغرافيةٍ تمتد من دمشق إلى الساحل مروراً بحماه وحمص. وبوجود كتلةٍ بشريةٍ هائلةٍ ومتنوعةٍ تعيش في مناطق سيطرة ميليشيات النظام، وفي ظل فشل المعارضة في إنشاء نموذجٍ بديلٍ وناجحٍ يضم مختلف أطياف الشعب السوري في المناطق التي تسيطر عليها، فإن هذا سيرفع مرحلياً من أسهم النظام في نظر المجتمع الدولي، ما يعطيه جرعةً من الاستمرار ضمن نطاقٍ جغرافيٍّ محدودٍ ولفترة قد تقصر أو تطول، وبحججٍ تتراوح من "حماية الأقليات" إلى "محاربة الإرهاب".
إن عموم السوريين وبمختلف انتماءاتهم يواجهون شاؤوا أم أبوا تركة "سوريا الأسد"، بكل ما تحمله من خوفٍ ولا ثقةٍ وتناقضاتٍ وتوتراتٍ وملفاتٍ تراكمتْ عبر عقودٍ من الزمان. وكل ما نخشاه أن يكون في بقاء أو زوال تلك التركة زوالٌ كاملٌ للدولة السورية التي نحلم بها، لكن ذلك يبقى مرتبطاً بالوسائل التي سيوظفها السوريون المؤمنون بسوريا الجامعة، وهم موجودون ولا شك، للتعامل مع هذه التركة الثقيلة والمشؤومة.

 لقراءة المقال من موقع الصحيفة يرجى الضغط هنا.

الزحف المقدس في عصر الديجيتال - مقال منشور في صحيفة الحياة





لقراءة المقال من موقع الصحيفة يرجى الضغط هنا.

يقع "تل النبي مندو" جنوبي حمص السورية في منطقةٍ سياحيةٍ ذات طبيعةٍ خَلّابةٍ يَمُرُّ فيها نهر العاصي. قد يكون من المفاجئ أن نعلم أن هذه البقعة الساحرة كانت قد شهدتْ، عام 1274 ق.م، لقاءً دموياً بين جيش رمسيس الثاني، وجيش الحثيين فيما يُعْرَف باسم "معركة قادش".
كانتْ "معركة قادش" واحدةً من أولى المعارك في التاريخ البشري التي يتم تدوين تفاصيلها، مع شروحٍ للتكتيكات التي اتبعت والخسائر والضحايا والأسرى والمآلات. لكنها بالتأكيد لم تكن أول معركةٍ في التاريخ البشري، إذ تدل نتائج الدراسات الآثارية والأنثروبولوجية على أن الإنسان قد مارس العنف منذ فجر التاريخ، وأن المنطقة التي تسمى الآن بالدولة السورية، بمُدُنِها الضاربة في عمقِ التاريخ وإرْثِها الثقافي المتنوع والغني، كانت مسرحاً لاضطراباتٍ عنفيةٍ وغزواتٍ مستمرةٍ على مدى القرون.
الآن، وبعد أكثر من 3000 عام من "معركة قادش"، تشهد سوريا صراعاً عنفياً طاحناً، لكنه هذه المرة ليس بين الفراعنة والحثيين، بل بين السوريين من أبناء هذه الأرض، ووفق اعتباراتٍ مذهبيةٍ متضخمةٍ في ظل "دولة حديثة" فشلت، على مدى سبعة عقود من استقلالها، في تحويل أبناء الطوائف إلى مواطنين.
لا يمكن فهم الصراع الحالي في سوريا بالاعتماد فقط على سرديات المظلومية، أو على التفسيرات العاطفية والتاريخية المبسطة. بل إن مثل هذا الفهم يستوجب أيضاً وضع الصراع القائم في سياقه الزمني، أي في حقبةٍ تكاثرت فيها منتجات الحداثة بالتوازي مع استفحال قيم مناهضة للحداثة، وهذا ما يستتبع مقارنةً مع الحرب التقليدية المتعارف عليها تاريخياً، والتي لم تعد صالحةً للتطبيق على الحروب المعاصرة.
لقد خضع الصراع العنفي عبر القرون إلى تغيراتٍ سواء على مستوى الدوافع والوسائل والغايات، أو على مستوى مفاهيم الحرب والعنف بحد ذاتها. ففي الماضي السحيق كانت الحرب بين البشر تتبع الأعراف الحيوانية التي استخلصها الإنسان من قراءته للغة الطبيعة وشرائع الغاب، وعمل على تطبيقها على صراع الأقوام والقبائل، ليأخذ شكل غارات "أخذٍ وردٍّ" أو "كرٍّ وفرٍّ": غارةٌ، يتلوها سلبٌ للغنائم، فانسحاب، فتوترٌ يولد غارةً أخرى، وهكذا تعاد الكرّة من جديد، في حلقةٍ مستمرةٍ من الدفاع والهجوم.
وبالعموم لم تملك الحروب القديمة التقليدية قدراتٍ تطهيرية واستئصالية، وبالتأكيد لم ينجم ذلك عن نجاعة الضوابط الأخلاقية التي غالباً ما كان يتم خرقها، إذ لم يكن الإنسان أكثر نبلاً وإنسانية مما هو عليه الآن. لكن تحقيق الإبادة والاستئصال الكامل كان في منتهى الصعوبة في زمن السيف والترس، بسبب محدودية أدوات القتل والتدمير، وصعوبة الحشد والتمويل، وشبه استحالة التطبيق على المستوى العملي.
ومع أنه من الطبيعي أن تشكل الأخلاق تضاداً صارخاً مع مفهوم الحرب، إلا أن الحرب القديمة كانت قد طوَّرت آلياتها "الأخلاقية"، ليأخذ ذلك صورةً أكثر تنظيماً في العصور الوسطى على مستوى المبادئ، بخاصة فيما يسمى بأخلاقيات "الحرب العادلة". وقد انشغل المفكرون بالتنظير لمفهوم "الحرب العادلة"، معتمدين على معايير مختلفة من الإرث الديني والثقافي، كما في كتابات القديس أغسطين، وما أُثِرَ عن صحابة النبي، وتوما الإكويني وغيرهم من مفكري الشرق والغرب. أما على مستوى الممارسة فقد تجلّت "الحرب العادلة" تاريخياً في تقاليد الفروسية وغيرها من الأعراف التي تميل الكتب التاريخية والأدبية إلى ربطها بالنبل والكرم.
ومع صعود الثورة العلمية وابتكار أدوات صراع تدميرية وبعيدة المدى (الأسلحة النارية والموجهة عن بعد والأسلحة النووية والكيماوية والبيولوجية) تطور انزياحٌ تنكسيٌ في تقاليد الصراع العنفي. لكن صعود التكنولوجيا، والانتشار الواسع لوسائل الاتصال الرقمية في العقود القيلة الماضية أسس لقطيعةٍ مع الحرب التقليدية. إذ باتت الحرب متعددة الأبعاد، ولم تعد مقتصرةً فقط على التدمير والقتل والتشويه الجسدي، بل صارت قادرةً على النفاذ والتأثير "عن بعد" في شرائح واسعة من الناس، لتمارس تدمير وقتل وتشويه "الوعي" الذي يتجاوز مكان/زمان الحرب، ويشمل أجيالاً بأكملها.
لقد هبّت رياح الحداثة لتحول أبناء المنطقة إلى مستهلكين، ليس فقط لتكنولوجيا الاتصالات ومولات التسوق، بل لمفرزات العنف الحداثي وآخر صيحات أسواق السلاح. وفي وقت الأزمات التي تكاثرت في هذه المرحلة الحرجة غدا السلاح الروسي والأمريكي المتطور متاحاً بيد من يعيش خارج التاريخ، سواء لبس قناعاً دينياً أو علمانياً. وقد تلاقى هذا الاستهلاك السطحي مع التناقضات الإثنية والطبقية والطائفية ومع التشدد الديني، الذي بات يأخذ حيزاً واسعاً جداً من الوعي العام في منطقتنا مؤججاً نار هذا الصراع المفتوح.
ينذر هذا التلاقي بين العنف والمقدس في عصر الديجيتال بحروبٍ شرسةٍ موغلةٍ في الانحطاط؛ فتمازج القيم المناهضة للتطور البشري مع المنابر الإعلامية والأسلحة الفتّاكة سيضمن استمرار سفك الدم وهدر الأجيال، وهذا ما يجعلنا مستهلكين للحرب بنمطها الوحشي الاستئصالي الـ "ما دون" الحيواني، بخاصة بعد أن ينزلق الصراع إلى حربٍ فانتازيةٍ غير مدفوعةٍ بمصلحة الوطن أو الثورة أو الجماعة أو الحزب أو السلطة، بل بناءً على أسبابٍ يتم إلباسها عباءةً مقدسة.
ولهذا، ربما يمكن القول بأن منطقتنا لم تفشل فقط في التصالح مع "الحداثة"، بل إنها دخلت "ما بعد حداثتها" وفق معايير العصور الوسطى في القرن الحادي والعشرين، وها هي تعيش نتائج التزاوج المسخي والكارثي بين تخلّف العقل وتكنولوجيا الزناد، بين الزحف المقدس وأزرار الديجيتال، حتى بات لدينا ملايين "البسوس" الذين لا يتورعون عن إذكاء نار عنفٍ لن يُبقي ولن يذر. ومع بروز البعد الاقتصادي والتدخلات الخارجية، وانكماش الوعي السياسي في المنطقة وإفراغها من مواردها البشرية، وعلو صوت الغريزة وسط اليأس والألم، فإن صيحات إيقاف الحرب ستغدو نوعاً من التغريد الأفلاطوني خارج السرب، لكن كل ذلك لا يغير من قباحة الحرب وقذارتها، ولا يغير من صحة قول القائل ألا شيء جيد في الحرب سوى إنهاؤها.

لقراءة المقال من موقع الصحيفة يرجى الضغط هنا.