الأستاذ عدنان خوليو إستيبانوفيتش



((لم يكن هناك من يتوقع أو يصدّق ما فعله الأستاذ ’عدنان خوليو إستيبانوفيتش‘ حين خرج من المدرسة في ذلك اليوم الربيعي ...)).

كنتُ مع سامي، ابن أختي الصغير، نشاهد باهتمامٍ مدينتنا الجميلة وهي تحترق، وتتحول إلى رمادٍ يتطاير مع الريح.
-          خالو ... أليس هذا بيت جدّو؟
-          نعم يا حبيبي، هو كذلك ...
-          خالو غرفة الضيوف تحترق الآن!
كان سامي يقطع عليّ تأمل النار ليحدثني عن أستاذه في الصف. قابلته مرةً: قامةٌ مربوعةٌ ونظاراتٌ سميكة. لا أحد يدري لماذا خرج الأستاذ عدنان خوليو إستيبانوفيتش من المدرسة في ذلك اليوم الربيعي. حدث ذلك قبل أن تحترق مدينتنا. كان يمشي ويتفرج على صورته في واجهات الدكاكين، حاملاً حقيبةً مدرسيةً محشوةً بالكتب واليقطين، وهو يجرُّ في قدميه حذاءه العسكري وقد لبس بذلته الخاكي، وفي يده قيدٌ حديديٌ كان مثبتاً إلى جدارٍ مهشّم.
ابتسمَ. ضحكَ. توقفَ عن الضحك. ابتسمَ من جديد. لم يضحك من جديد، لكنه بقي مبتسماً. ثم سأل:
-          هل ترون؟ هل تشُمّون؟ تفضلوا. تعالوا وتذوقوا وأعطوني رأيكم في هذه الألحان. كان الأستاذ ضليعاً في الموسيقا. لماذا تبكي يا سامي؟ لماذا الدموع على خديك يا ولدي؟
-          هي الحساسية يا أستاذ! فأنا لا أبكي. الرجل لا يبكي. هذا ما كان يقوله لي بابا.
-          حبيبي سامي هل يمكن أن تطلب من البابا أن يأتي إلى المدرسة؟
-          بابا مات في رمضان ... وماما ماتت في رمضان ... وزيكو مات معهم في رمضان ...
-          أوه ... آسف لسماع ذلك ... وأين تعيش الآن يا سامي؟
-          أعيش مع خالو.
-          من هو زيكو يا سامي؟ سأل أحد التلاميذ.
-          زيكو لعبةٌ تطير في الفضاء وتقاتل الأعداء وتنتصر عليهم ... زيكو مات في رمضان.
-          دعونا نتابع الدرس يا أولاد ... ما رأيكم الآن في هذه الألحان؟
-          مالحةٌ كالدم يا أستاذ.
-          أحسنتم ... أمامكم مستقبلٌ مزدهرٌ إنْ بقينا على قيد الحياة ... سنتحدث بعد انتهاء الحصة يا سامي.

قبل أن تحترق مدينتنا كانت هناك سحابةٌ بديعةٌ من الدخان الأسود تغطيها. كانت السحابة معلقةً بسماء المدينة وكأنها طاولةٌ من الرخام المتفحم، وكان العشّاق يخرجون جماعاتٍ قُبَيْل الغروب كي يتأملوها بصمْتٍ ممزوج بأملٍ هزيل. كانوا يتعانقون وهم يرمقون الدخان الأسود وهو يحجب نور الشمس، وهو يمنحهم الظلام والرهبة والخوف. وتحت هذه السحابة البديعة تقع مدينتنا المنهكة.
فجأةً، بعد أن خرج من المدرسة في ذلك اليوم الربيعي، وصل الأستاذ عدنان خوليو إستيبانوفيتش إلى التقاطع بين الشارع الأول والثاني. وهناك، وفي اللحظة التي أصبحت فيها الإشارةُ الضوئيةُ حمراء في الشارع الأول، وقبل أن تصير خضراء في الشارع الثاني، انطلق الأستاذ عدنان خوليو إستيبانوفيتش إلى مركز التقاطع ليستلقي مباشرةً على الأرض، وقد مدَّ يديه وساقيه بطريقةٍ شعاعيةٍ كنجم البحر، وبدأ يغني: “تحت الهودج صار سحب سيوف” بصوتٍ عالٍ ومزعجٍ جداً.
وكما هو متوقع، كادتْ سيارةٌ أن تدهس الأستاذ عدنان خوليو إستيبانوفيتش لولا أن السائق (وكان اسم السائق بالمصادفة البحتة أبو نزار) قد لمح جسده المستلقي باستهزاءٍ على الأرض. مرتْ بضعُ ثوانٍ كانت كفيلةً بخلق علامات التذمر على وجوه معظم الموجودين. وووسط أصوات الزمامير، وبذكاءٍ فطريٍ، لمح شرطي المرور ما يجري، فانطلق محاولاً حلَّ الإشكال وإقناع الأستاذ عدنان خوليو إستيبانوفيتش بالنهوض والسماح للسيارات بالعبور. لكن المحاولة لم تلقى أذناً صاغية، ما دفع بالشرطي للاتصال بمدير الشرطة الذي بعث بدوريةٍ للنظر والتحقيق في الموضوع.
-          أعزائي المشاهدين أقف الآن في التقاطع بين الشارع الأول والثاني، ويبدو ورائي الأستاذ عدنان خوليو إستيبانوفيتش ممدداً على الأرض وهو يغني: “تحت الهودج صار سحب سيوف”. وسنحاول أن نستفهم منه عن سبب هذا التصرف.
أصوات سيارات شرطة وإسعاف: وا وي وا وي وا وي ... زمامير ... شتائم تنبعث من هنا وهناك ... أولاد يقفون خلف المذيع، ينظرون إلى الكاميرا وهم يبتسمون. ولدٌ يمد لسانه، وآخر يرفع إصبعه الأوسط في وجه المشاهدين الأعزاء.
-          أستاذ عدنان خوليو إستيبانوفيتش هل لك أن تخبرنا عن السبب الذي دفع بك للقيام بهذا التصرف؟
-          “تحت الهودج صار سحب سيوف” ... “تحت الهودج صار سحب سيوف” ...
-          أعزائي المشاهدين كما تلاحظون فالأستاذ عدنان خوليو إستيبانوفيتش منشغلٌ بالغناء، في حين تعاني حركة المرور في المدينة من حالة شلل شبه تام. وكي نتعرف أكثر على ملابسات القضية نلتقي الآن السيد المحافظ الذي حضر شخصياً في موقع الحادثة.
-          حضرة المحافظ ما هي الخطة التي تنوي الحكومة القيام بها في سبيل حل هذه القضية؟
-          في الحقيقة تم إنشاء لجنة متابعة وهي تنسق مع القيادة. وأود أن أطمئن الأخوة المواطنين بأن المسؤولين في المديرات والوزارات المعنية يبدون اهتماماً خاصاً بحل القضية والسهر على راحة الجميع.

أصوات سيارات شرطة وإسعاف: وا وي وا وي وا وي ... زمامير ... شتائم تنبعث من هنا وهناك ... أولاد يقفون خلف المذيع، ينظرون إلى الكاميرا وهم يبتسمون. لا يوجد ولدٌ يمد لسانه، ولكن هناك ثلاثة أولاد يرفعون أصابعهم الوسطى في وجه المشاهدين الأعزاء.

-          خالو ... انظر ... أليست تلك مدرستي التي تحترق؟
-          نعم يا حبيبي هي كذلك.
-          خالو ... هذا صفي ... كنتُ أجلسُ في المقعد الأول ... والآنسة كانت تحبني.
-          لأنك شاطر يا حبيبي.
-          خالو ... هل ترى تلك الرسومات على الحائط؟ 
-          نعم يا حبيبي.
-          هل ترى الرسمة التي فيها فراشةٌ تطير فوق خريطة سوريا؟
-          أي رسمةٍ يا حبيبي؟
-          تلك التي تحترق الآن بالنار يا خالو ...
-          آه نعم أراها ... وأسمع صوت احتراقها ... ما بها؟
-          رسمتها أنا ... وقد علقتها الآنسة على حائط الصف يا خالو ...
-          برافو.
-          خالو ... لكن لماذا يحرقون رسمتي؟ هل يعني ذلك أنها ستموت كما مات زيكو؟ 

نزل أبو راتب من عربة السوزوكي المهترئة غاضباً، وتجاوز أبا نزار ليتوجّه فوراً نحو الأستاذ عدنان خوليو إستيبانوفيتش الذي كان ما يزال مستلقياً يغني "تحت الهودج صار سحب سيوف" ...
-          انهض. هيا انهض يا هذا. عندنا ارتباطاتٌ كثيرة. أعملُ سائق شاحنةٍ منذ 18 عاماً. أنقلُ حليب البقر إلى المدينة. هذه أول مرةٍ يحدث معي مثل هذا الشيء. صرخ أبو راتب.
-          أي مجنونٍ هذا. هيا تحرك من هنا، عندنا أشغال. أردف أبو نزار.
-          سأتأخر. وأخشى أن يفسد الحليب. عقَّبَ أبو راتب.
هز أبو نزار رأسه موافقاً، في حين صَمَتَ الأستاذ عدنان خوليو إستيبانوفيتش، وتوقف عن الغناء، ليحدِّقَ مليّاً في ملامح أبي راتب. لوهلة أحس الجميع بأن الإشكال في طريقه إلى الحل. إلا أن الأستاذ لم يقل شيئاً، ولم يفعلْ شيئاً. بل بقي مستلقياً. وبهدوءٍ تدريجيٍ وَجَّهَ الأستاذ عدنان خوليو إستيبانوفيتش بصره نحو السماء مرةً أخرى، وعاد يغني من جديد: "تحت الهودج صار سحب سيوف" ...
بدأ أبو راتب بالصراخ والشتام. انضم إليه أبو نزار. ظهر رجلُ دينٍ من بين الجموع وبدأ يلقي خطبةً عن فضائل الوضوء. أصوات سيارات شرطة وإسعاف: وا وي وا وي وا وي ... زمامير ... شتائم تنبعث من هنا وهناك ... باعةٌ جوالون يقفون خلف المذيع وهم يصيحون على بضائعهم: بليلة، كعك، غزل البنات، مسدسات، عرق سوس، سوتيانات ... أولادٌ يقفون أيضاً خلف المذيع، ينظرون إلى الكاميرا وهم يبتسمون. حشدٌ من الأولاد يرفعون أصابعهم الوسطى في وجه المشاهدين الأعزاء. أحد الأولاد يحمل مرآةً نرى فيها وجوه المشاهدين الأعزاء! أحد المشاهدين الأعزاء يتثاءب، في حين تبدو على الآخرين علامات الدهشة.
لكن فجأةً، ودون سابق إنذار، نهض الأستاذ عدنان خوليو إستيبانوفيتش بقامته المربوعة، وعيونُه تلمع من وراء نظاراته السميكة، وابتسامةٌ تعلو وجهه. وبدون مقدّماتٍ بدأ بفكِّ زرّ البنطال! ثم بدأ ببطءٍ بإنزال السحاب مصدراً صوت أزيزٍ مسموعٍ وسط صمت الحضور: Ziiippp.
 الجميع صامتٌ يراقب الأستاذ عدنان خوليو إستيبانوفيتش وهو يُسْدِلُ ذراعيه وكأنه يأخذ استراحةً من عناء التعرّي، ثم يوجه نظره نحو السماء مرةً أخرى. رجل الدين يبدأ من جديد خطبةً عن فضائل الوضوء ... بليلة، كعك، غزل البنات، مسدسات، عرق سوس، سوتيانات ... وبعد ثوانٍ أنزلَ الأستاذ البنطال، ورفع قميصه إلى مستوى الحَلَمَتَيْن ... ثم أنزل السروال الداخلي (كان مبرقعاً ببقعٍ ملونة بلون الفريز والباذنجان). بَدَتِ "الأشياء" الخاصة بالأستاذ عدنان خوليو إستيبانوفيتش واضحةً للعيان.
-          أعزائي المشاهدين ها هي "الأشياء" تستمتع بالهواء المخلوط بالغبار.
المشهد خادشٌ للحياء بشدة. لكن لا أثر للحياء بتاتاً على وجه الأستاذ عدنان خوليو إستيبانوفيتش الذي بدأ يهزُّ مِقْعَدَتَه يميناً وشمالاً. ونتيجةً لهذا التمايل بدأت "الأشياء" (تلك التي تستمتع بالهواء المخلوط بالغبار) بالاهتزاز كرقّاص ساعةٍ معلقةٍ على حائطٍ قديم. صَمَتَ الجميع، بمن فيهم أبو راتب الذي كان قبل لحظاتٍ غارقاً في صراخه وشتائمه. وقَطَعَ الصمتَ صوتُ الأستاذ عدنان خوليو إستيبانوفيتش وقد أغمض عينيه، وهو يقهقه، ويدعو الحاضرين بحماسة ظاهرةٍ إلى النظر والتمعن ملياً في "أشيائه".
وفجأةً أقدم أبو راتب على فعل الشيء نفسه: فك زرّ البنطال. أنزل السحاب: Ziiippp. أنزل البنطال، ورفع قميصه إلى مستوى الحَلَمَتَيْن ... ثم أنزل سرواله الداخلي (كان مصنوعاً من جلد النمر). بَدَتِ "الأشياء" الخاصة بأبي راتب واضحةً للعيان، لتستمتع بالهواء المخلوط بالغبار. وبدأ بهز مقعدته و"أشياءه" يميناً وشمالاً.
وعلى ذات النهج سار كلُّ من حضر من الذكور: أبو نزار، رجل الدين، الباعة الجوالون، الأولاد ذوي الأصابع الوسطى، سائقو الشاحنات، وسائقو سيارات الأجرة والموتورات، وسائقو العربات الخاصة ذات الدفع الثنائي والرباعي، المشاة، وشرطي المرور ذو الذكاء الفطري، ومدير الشرطة والدورية التي قام بإرسالها، والمحافظ وأعضاء لجنة المتابعة ومسؤولو القيادة صعوداً إلى أعلى الهرم. وما لبث أن انضم إلى المشهد طاقم التصوير والإضاءة وحامل لوحة "الأكشن"، والمنتج، ومساعد المخرج، وأخيراً وبعد طول انتظار، أقبل المخرجُ وهو يحيي الجمهور:
Ziiippp Ziiippp Ziiippp ...
ضجَّ المشهد بالتصفيق، وارتفعت معنويات الحضور؛ كل الذكور قد أنزلوا بناطيلهم، وسراويلهم الداخلية، كلهم يتمايلون، وكرقاص الساعة تهتز "أشياؤهم" التي تستمتع بالهواء المخلوط بالغبار، وهم يقهقهون. ثم اندمج الجميع في حديثٍ ودّيٍ قرروا على إثْره الذهاب إلى أقرب مقهىً لاحتساء الشاي، والاستماع إلى الحكواتي الذي سيلقي لمحةً عن بطل هذه الحادثة: الأستاذ عدنان خوليو إستيبانوفيتش.
وهكذا سار الجمع الغفير المؤلف من قطعانٍ من الذكور وهم يتمايلون مع "أشيائهم" يميناً وشمالاً، يتقدمهم الأستاذ عدنان خوليو إستيبانوفيتش، تتبعهم النسوة بأصوات التصفير، ونظرات الإعجاب، وصيحات النشوة، وزغاريد الفرح، وأغصان الغار وحبات الأرز.
وخلال دقائق اختفى الجميع. لم يعد هناك أحد. خَلَتِ الشوارع من المارّة والسائقين. خَلَتِ المدينة من السكان والمسؤولين. من الذكور والإناث. نلمح فقط سياراتٍ مركونةً وسط الشوارع الفارغة. سكوتٌ مطبقٌ خلا الصدى، أو بضعة أصواتٍ بعيدةٍ في طريقها إلى التلاشي والهروب. إشاراتٌ ضوئيةٌ تعمل بصمتٍ ودأبٍ لتنظيم حركة سيرٍ متوقفةٍ في شوارع مهجورةٍ وموحشة. نوافير المياه الآسنة تنطلق شاقولياً محاولةً الوصول إلى السماء. الأفران بلا طوابير، وغرف الإسعاف وكُوّات الهاتف العمومي ومواقف الباصات فارغة. أما السحابة الوديعة من الدخان الأسود فقد رحلتْ لتفسح المجال لصفيحةٍ من الجمر المشتعل. من كان يتخيل أن تهدأ الحركة في هذه المدينة؟ من كان يتخيل أن يختفي المارة والسيارات من المدينة؟ من كان يتخيل أن تحترق المدينة؟ من كان يتخيل أن تنتحر المدينة؟ وماذا عن التاريخ المنحوت في الهواء؟ وماذا عن الزمن المحفور على القناطر؟
-          عاش القائد. هل تشمّون مثلي رائحة شيءٍ يحترق؟ عاش القائد.

-          خالو ... انظر أليس هذا بيتنا؟
-          نعم يا حبيبي هو بيتنا يحترق.
-          خالو ... أشعر بالنار تقترب منا! خالو ... الجو حارٌ هنا ... إني أسعل وعيوني تحرقني! خالو أقسم لك أني لا أبكي ... كان بابا يقول أن الرجل لا يبكي ... أنا لا أبكي ... أنا رجل.
-          أعرف يا حبيبي ... أنت يا أيها الطفل الصغير ... هو الدخان فقط يا حبيبي.
-          نعم هو الدخان يا خالو.
-          اقترب مني يا سامي ... أمسكْ يدي يا حبيبي ... ألا تشتاق إلى زيكو؟

خلال هذه الحادثة، تغيرتِ الكثير من الحقائق. أكلتِ النار كل الذكريات. وتجشأ الدخان رمادها. ماتتِ المدينة وامتلأ الكوكب برائحة التفسخ. صار الطفل أكثر رجولةً من الجنرال. وصارت الخصى علامةً تقليديةً على الذل والهوان. عاش الموتى بعد أن التحق بهم الأحياء. وصار من بقي على قيد الحياة في عداد التماثيل.
لكن بعض الحقائق يبقى ثابتاً لا يتغير، وبعض الأسئلة تبقى معلقةً بلا أجوبة، أما الحوادث الغريبة فتصبح مع مرور الزمن أكثر غرابة ... مثلاً:
((لم يكن هناك من يتوقع أو يصدّق ما فعله الأستاذ ’عدنان خوليو إستيبانوفيتش‘ حين خرج من المدرسة في ذلك اليوم الربيعي ...)).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق