كنتُ أقص هذه الحكاية على ممرضةٍ متوسطة الجمال، عريضة
الحوض، تدير ظهرها لي. اكتشفتُ أنها متوسطة الجمال حين استدارتْ، إذ ليس من عادتي
أن أحكُمَ على جمال الوجه دون النظر إلى الوجه. مع التأكيد، منعاً من الدخول في أي
جدلٍ مع القراء الأعزاء، بأن الجمال قضيةٌ نسبيةٌ يختلف تقييمها من شخصٍ لآخر.
المهم في الموضوع هو أني حين وصلتُ إلى منتصف الحكاية التي كنت أقصها على الممرضة متوسطة الجمال أحسستُ بأن
الدموع على وشك أن تنهمر من عينيها. توقفتُ عن الحديث في محاولةٍ مني لإعطائها
الوقت الكافي للتعبير عن تأثرها. إلا أن الدموع، وعلى خلاف توقعاتي، لم تنهمر. بقيتْ
الممرضةُ تحدق بي، ثم ما لبثتْ أن بدأتْ بالتثاؤب. تثاءبَتْ. ثم تثاءبتْ مرةً
أخرى. وبعد أن انتهتْ الممرضة من تثاؤبها أخبرتني بأن المرضى الثلاثة الذين كانوا قبلي
قد لاقوا حتفهم على طاولة العمليات "هذه"، وأشارتْ بإصبعها إلى الطاولة
التي أستلقي عليها. ابْتَسَمَتِ الممرضة، فوجدتُ نفسي مضطراً لأن أبتسم. وهكذا مَرَّتْ
لحظاتٌ تبادلنا فيها الابتسام، قبل أن تستدير الممرضة خارجةً مع حوضها العريض
وجمالها المتوسط.
حالياً أنا وحيدٌ في غرفة العمليات. فوقي مصباحٌ دائريٌ
مُسَلَّطٌ علي. أشم رائحةً واخزةً لكحولٍ طبي، وأسمع صوت دقات قلبي وهي تنطلق من جهازٍ
متوضع إلى يميني. نظرتُ إلى شمالي وإذ بي أرى طاولةً يغطيها قماشٌ يشبه القماش
الذي يغطي جسدي. أخرجتُ يدي ورفعتُ الغطاء قليلاً عني موجهاً ببصري نحو الأسفل. لو
كنتُ أنثى لرأيتُ ثديين بارزين ومنسدلين باسترخاءٍ على صدري. ولكني لستُ بأنثى، وهذا ما
يفسر ربما وجود تلك الحلمتين الغائرتين وسط كومةٍ من الشعر الأسود المقزز. تُرى ما
الحكمة من وجود حلماتٍ للذكور؟ هل سيتطور العلم يوماً ونصبح –نحن معاشر الذكور-
قادرين على إنتاج الحليب؟ خطرتْ لي هذه التساؤلات وعيناي تتابعان الجولة عبر بطني
المتضخمة. تجاوزتُ السرة متجهاً ببصري صوب الجزء الذي يميزنا كذكور، لألاحظ بأني
بلا سروالٍ داخلي! وبصورة لا إرادية حركتُ راحة كفي الأيسر كي أغطي العورة. أحسستُ
بدفء المنطقة وأنا أتذكر مدى أهميتها. تنهدتُ، وتمنيتُ لو أستطيع تدخين سيجارة. ومن
جديد جالَ بصري باضطرابٍ في أنحاء الغرفة علّي أعثر على شخصٍ كي أطلب منه إذناً
بالتدخين. يقال أن التدخين ممنوعٌ في المشافي، ولكن لا بأس من المحاولة. فتحتُ فمي
وسألتُ: هل من أحدٍ هنا؟ سمعتُ صوتي بشكلٍ واضح وهو يخرجُ من
فمي، إلا أني لم
أتلقى أي إجابة، في حين استمرتْ دقاتُ قلبي تنطلق من الجهاز المتوضع إلى يميني.
الغرفة خاليةٌ، لا أثر لأحد، حتى الممرضة متوسطة الجمال لم تعد موجودة. ولهذا فقد
قررتُ أن أقص هذه الحكاية عليكم أنتم أيها القراء الأعزاء.
*******
تبدأ حكايتي مع عودتي إلى الوطن بعد غيابٍ طويل. إنه
عيد الأضحى؛ لوحةٌ متناقضةٌ سوريالية المذاق تندمج فيها ضحكات الأطفال البريئة،
وألوان الملابس الزاهية، مع رائحة الأضاحي المذبوحة، وسواقي الدم المتخثر والجلد
المسلوخ على حواف الأرصفة القذرة. قبل أن أغادر الوطن كنتُ مُدْرِكاً لأهمية
التكافل الاجتماعي، كنتُ مؤمناً بأن الصدقات حقٌ للفقراء والمساكين، وكنتُ مقتنعاً
بضرورة التبرع بالأشياء التي تفيض عن حاجتنا إلى الآخرين. ولهذا فقد كنتُ من أشد
المتحمسين لمراكز "التبرع بالدماغ" التي تم افتتاحها بمبادراتٍ أهليةٍ
تحت رعاية الحكومة. في ذلك الزمن الجميل، وقبل الغوص في وحل الغربة، اعتدتُ بين
فترةٍ وأخرى أن أتبرع بأجزاء من دماغي، خاصة في مواسم الأعياد.
لن تصدقوا مدى سعادتي حين علمتُ أن مراكز التبرع بالدماغ
ما تزال على رأس عملها، وأنها تقدم خدماتها للمواطنين مقابل رسومٍ رمزية. وبما أن
عودتي قد تزامنتْ مع عيد الأضحى فقد خرجتُ في صبيحة اليوم الأول من خيمتي، متوجهاً صَوْب مركزٍ للتبرع
بالدماغ يقع على حافة المدينة. عبرتُ الشارع المهترئ الذي تبرز من وسطه نخلةٌ
ممشوقة. بات للشارع اسمٌ جديدٌ يختلف عن الاسم القديم. لكن لم يكن لتغيير اسم
الشارع أثرٌ يُذكر. فقد مشيتُ على الرصيف الأوسط، كما كنتُ أفعل في ذلك الزمن
الجميل، دون أي مشاكل أو صعوبات. وبعد أن عبرتُ القنطرة وجدتُ نفسي وقد وصلتُ
المركز المقصود. يقول الناس بأنه أفضل وأحدث مركزٍ في المدينة، فقد قامتْ بافتتاحه
منذ بضع سنين مجموعةٌ من الآنسات المتخصصات في استئصال الأجزاء الدماغية.
في ذلك المركز الجميل، جلستُ على كرسي الانتظار. قبالتي طاولةٌ
احتشدتْ عليها صحفٌ ومجلاتٌ ملونة. هناك جريدةٌ طُبِعَتْ على صفحتها الأولى صورةٌ
لرئيس الوزراء وهو يبتسم معانقاً وفداً شقيقاً/صديقاً. وتحت الجريدة تظهر صورةٌ لفخذٍ
أنثويٍ على غلاف مجلةٍ مشهورة. يبدو الفخذ انسيابياً بقوامٍ حريريٍ متماسك، وبلونٍ
برونزي يلمع بإغراءٍ تحت ضوء الفلاش. انتابني فضولٌ لمعرفة صاحبة الفخذ. إذا أزحتُ
الجريدة قليلاً، وأبعدتُ صورة رئيس الوزراء، حينها سيكون غلاف المجلة مكشوفاً بكامله
للعين المجردة، وسيكون بمقدوري ربما اكتشاف هوية صاحبة الفخذ. كل ما علي فعله هو
إزاحة الصحيفة. أو لعله من الأفضل الانتظار قليلاً ... أراهنُ بأن أحد الزبائن
يفكر بما أفكر فيه، وقد يقوم هو بهذه الحركة قبلي. لهذا أقترح أن أنتظر قليلاً.
تباً لرئيس الوزراء.
-
عملٌ نبيل. قطع صوتٌ ذكوريٌ الحوارَ الغرائزي الذي كان يدور في مخيلتي.
-
عفواً؟
-
إنهنّ يعملنَ بجدٍ ونشاط، وبكثيرٍ من الإخلاص والتفاني. أجاب عجوز في
الثمانين مشيراً إلى الآنسات اللواتي افتتحن المركز، ثم سعل ...
-
عملية التبرع لا تستغرق كثيراً من الوقت، والنتائج مضمونةٌ في أغلب الأحوال.
علق زبونٌ تبدو عليه علائم البهجة. ما دفعني إلى المشاركة:
-
سمعتُ أن مراكز التبرع بالدماغ قد صارتْ منتشرةً في كل ربوع الوطن. مجتمعنا
في أمس الحاجة لمثل هذا النوع من التكافل الاجتماعي.
-
للأسف قلةٌ من المراكز حصل على ترخيص، ومعظمها يعمل بصورة غير نظامية.
-
يا أخوتي ... إذا خليت خربت! قال العجوز الثمانيني. ثم سعل مرة أخرى. هز
الحاضرون برؤوسهم موافقين.
*******
كما أخبرتكم فقد أخبروني بأن هذا المركز من أفضل مراكز
المدينة. قد لا يتفق معي البعض، وقد يسارع آخرون إلى القول بأن وجهة النظر هذه
متحيزة. ولكن بالتأكيد لا خلاف في أن هذا المركز أفضل من المركز الأخضر الذي يقع في
الجهة الغربية من المدينة حيث لا توجد آنسات ... بل جموعٌ من الذكور ... يلبسون
ثياباً خضراء، ويضعون على صدورهم النياشين، ويحملون على أكتافهم طيوراً ونجوماً
وسيوفاً، ترافقهم كائناتٌ تلبس قبعاتٍ كبيرة.
ما يزعج في المركز الأخضر هو إدمانه على الغش وسوء
معاملة الزبائن. هناك لا يعيرونك أي اهتمام، حتى أنهم لا يترددون في أخذ الأجزاء
التي يحتاجونها من دماغك دون إذنٍ مسبق. يتعاملون معك ببساطة وكأنكَ حشرة. كثيرةٌ هي الشائعات التي يتناقلها
الناس عن المركز الأخضر. يقال أن شخصاً تم أخذ نصف دماغه كاملاً، وحين حاول
الاعتراض اتصل أصحاب المركز الأخضر بالشرطة التي اعتقلته، لتنقطع أخباره بعدها. صَرَّحَ
صديقُه لإذاعةٍ محلية بأنه قد تم العثور على يده المبتورة في سلّة المهملات. ولكن
لا شيء مؤكد. قصةٌ أخرى تُحكى عن شخصٍ رفع دعوى عليهم، فخسرها، وحكم القاضي عليه بدفع
غرامة اعتذار، ما كلّفه مصادرة أجزاء إضافية من دماغه، إضافةً إلى بيته ودعوى طلاق
بالإكراه من زوجته بحكم الارتداد عن الجماعة. وفي موسم القمح الماضي تم تنفيذ حكمٍ
مشابهٍ بحق شخصٍ آخر، وحالياً يقاوم هذا الشخص محاولات الممرضين لإقناعه بأن يستر
عورته عندما يندفع صارخاً في ممرات مشفى الأمراض العقلية.
*******
كنتُ أنظر بشغفٍ إلى الفخذ الأنثوي المرتسم بإغراءٍ على
غلاف المجلة، محاولاً في مخيلتي رسم ملامح صاحبة الفخذ، انحناءات جسدها البض،
رطوبته، حرارته، لدونته، قدرته على الارتجاج والتمعُّج. لكن صورة رئيس الوزراء،
بشواربه التي تغطي شفته العليا، كانت عائقاً حقيقياً يُـثَـبِّطُ خيالي المجنح.
-
أستاذ تفضل.
قالت إحداهن بنبرة ساحرة، فانقطع سيلُ الأفكار التي كانت
تتدحرج في رأسي. ربما يمكنني تأجيل التحديق في الفخذ الأنثوي المرتسم على غلاف
المجلة إلى جلسةٍ أخرى. أما الآن فما علي سوى النهوض دون تلكؤ. وهذا ما كان:
نهضتُ، والإشراق يتراقصُ على محيّاي. نفضتُ عن سترتي الغبار الذي بدأ يتطاير بحماسةٍ
باهرة. مئات ذرات الغبار انتشرت في أرجاء المكان لتتراقص تحت أشعة الشمس الخجولة.
تأكدتُ من موضع ربطة العنق ورسمتُ ابتسامةَ امتنانٍ عريضة على وجهي، ثم تبعتُ تلك
الحسناء بقامة منتصبة، ونظراتي لا تفارق الكتلةَ شبه الكروية والمنبلجة من أسفل
ظهرها، والمحشورة بإتقانٍ في بنطلونٍ مصنوعٍ من الجلد الأسود. كان الالتصاق بين
البنطال وبين الكتلة المنبلجة مثيراً للاهتمام، مشكلاً نوعاً من التكامل الغامض مع
صورة الفخذ الأنثوي المرتسم على غلاف المجلة. في هذه الحياة لحظاتٌ كفيلةٌ بإطلاق
القريحة، وتحرير الخيال. هذا المكان مصنعٌ حقيقيٌ لتخريج الأدباء، واحةٌ لإعداد
الشعراء. هذا المركز رائع.
رافقتني الحسناء حتى وصلتُ إلى كرسي التبرع: كرسيٌ مزودٌ
بمسندٍ للرأس ومثبتات للأطراف العلوية والسفلية. هناك مرآةٌ أمامها رفٌ عريضٌ رُصِفَتْ
عليه كافة الأدوات اللازمة للتبرع: منشار، مطرقة، شامبو، مسامير وبراغي، مجفف شعر
(سيشوار)، مثقابٌ كهربائي، عدة أمشاط، مثقابٌ يدوي، معجون حلاقة إلخ. جلستُ على
الكرسي وبدأتُ أتأمل لحيتي الكثة، وأطقطق أصابع يدي، محاولاً بطرف لساني إخراج
قطعة نعناع محشورة في أسناني الأمامية. بعد دقائق من التحضيرات اقتربتْ آنسةٌ
جميلةٌ لتُعَرِّفَ عن نفسها بأن اسمها وداد، وبأنها من سيقوم بالمهمة. لبست الآنسة
وداد قفازاتٍ من القِنّب، ثم وضعتْ كمامةً تاركةً عيونها الساحرة باديةً للعيان.
وباحترافيةٍ ملحوظةٍ باشرتِ الآنسة وداد مهمتها: أولاً غسلتْ
شعري بشامبو منعشٍ برائحةٍ تقع في مكانٍ ما بين التفاح وصوت النحل. أحببتُ هذه
الخطوة، وأحببتُ يدها الناعمة وهي تعربش عليّ كعنكبوتٍ سكران، وتداعب بلطفٍ أنثويٍ
شعري الجّعد. ثم تناولتْ الآنسة وداد موساً وحلقتْ شعري، وباشرتْ فوراً بسلخ فروة
الرأس بمشرطٍ حاد: دم! رأيتُ الدم وهو يُلَوِّنُ ويَقْطُرُ من نصلةِ السكين. كان
يلمع باستهزاءٍ تحت ضوء الغرفة، ويعكس بإثارةٍ خفيّة وجه الآنسة وداد وعينيها
الواسعتين. وخلال ثوانٍ أحسستُ بالدم يسيل دافئاً، شاهدتُ لونه القاني وهو يرسم
خطاً شاقولياً متعرّجاً؛ بدءاً بحافة الجرح مروراً بالصدغ، ليعبر من أمام صيوان
الأذن ويتقدم بإصرارٍ على خدّي، ثم ينحرف ليصل زاوية الفم. هنا بات بإمكاني مد
لساني كي أَتَلَمَّظَ طعم الدم المالح. لكني في اللحظة التي حاولتُ فيها مد لساني سارعت
الآنسة وداد، وبنباهةٍ ملحوظة، بوضع بعض المناديل البيضاء (كلينكس) التي بدأت
تَغُبُّ الدمَ بشراهة.
بعد أن توقف النزيف أخبرتني الآنسة وداد أنها جاهزةٌ لفتح
جمجمتي باستخدام مثقابٍ كهربائي. ضَغَطَتْ وداد على زر التشغيل، فانطلق صوت
المثقاب حاداً كصوت الحفّارة التي يستعملها أطباء الأسنان. اقترب المثقاب مني، ومع
اقترابه كان صوته الحاد يغدو أكثر حدّة. استمر المثقاب بالاقتراب حتى لامسَ جدار
الجمجمة. حينها تغير الصوت وأصبح خشناً ومكتوماً، وأحسستُ باهتزازٍ يَسْري في جسدي.
شاهدتُ ذرات العظم المحترق وهي تتطاير كالطحين، شممتُ رائحة العظم المحترق وهي
تنتشر في أرجاء المكان. ولمحتُ ذاك الخيط الرفيع من الدخان الرمادي وهو ينبعثُ من
فوهة الحفرة التي كانت تتشكل في جمجمتي. أغمضتُ عيني، وبدأتُ أستجمعُ في مخيلتي كل
هذه الأحاسيس محاولاً استيعابها، ومحاولاً استرجاع ذكريات الزمن الجميل: صوت
المثقاب، الاهتزاز الذي يسري في جسدي، مشهد ورائحة العظم المحترق والمتطاير، وخيط الدخان
المتصاعد. شعورٌ لذيذٌ وفريد، شعورٌ بالتميز، شعورٌ نخبويٌ لا يعيشه إلا أولئك
المحظوظون، أولئك الذين تُثقب جماجمهم بمثقابٍ كهربائي. هي النوستالجيا حين
نستحضرها من الماضي لنعيشها في الزمن الحاضر. لم يقطع هذه النشوة العظيمة سوى
الانقطاع الفجائي للتيار الكهربائي! توقف المثقاب عن العمل، وهرب ذلك الشعور
النخبوي تاركاً وراءه شعوراً شائعاً بالألم الـمُمِض والعميق. أطلقت الآنسة وداد
شتيمةً لطيفةً وأنيقة، فحاولتُ أن أتبادل النظرات معها عبر المرآة المصلوبة
قبالتي، إلا أن الظلام حالَ دون العثور على عينيها الواسعتين. فما كان من الآنسة
سوى أن استأذنتْ بصوتٍ ساحرٍ لتهرع إلى الغرفة المجاورة. وهكذا صرتُ وحيداً أتأملُ
ألمي. رفعتُ يدي وغَمَسْتُ أصابعي أتحسسُ موضع العملية. لم تكن الحفرة مكتملةً،
كانت أشبه بمنطقةٍ منخسفةٍ حوافها غير منتظمة. كانت ذرات العظم المحترق متناثرةً
على رأسي. منها ما كان محشوراً في لحيتي وقد اختلط بالدماء المتخثرة. أنزلتُ يدي
ببطء. ولوهلة رغبتُ في لَحْس أصابعي وتذوق ذلك المزيج الغريب من الدم المتخثر
والعظم المحترق. إلا أني عدلتُ عن الفكرة، ومسحتُ أصابعي بالبنطال، ثم تابعتُ
تأملي لألمي الممض والعميق محاولاً، في الوقت نفسه، أن أستذكر الشعور النخبوي الذي
هرب مني. بعد دقائق عادت الآنسة وداد وهي تحمل معها بعض الشموع التي تم توزيعها في
أنحاء الغرفة.
وبفضل
ضوء الشموع أصبحتُ قادراً على استخدام حاسة البصر مرةً أخرى. تبادلتُ النظرات مع عينيها الواسعتين من خلال
المرآة المصلوبة قبالتي. ودون وَجَل تناولت الآنسة وداد مثقاباً يدوياً كي تتابع
ثقب جمجمتي وسط
هذا الجو الرومانسي. المثقاب اليدوي متعبٌ.
ولهذا فقد كانتِ وداد تكُزُّ على أسنانها، وهي تدير المثقاب بأناملها الناعمة، متوقفةً
بين الفينة والأخرى كي أمسح لها قطرات العرق الرقيقة من على جبينها الجميل. كانت
قطرات العرق مُرْتَصِفَةً كحبات اللؤلؤ لتشكل، مع الخيال المرتسم على الحيطان
والضوء البرتقالي المنبعث من الشموع، لوحةً مغرية. وبعد جهدٍ جهيدٍ فُتِحَ ثقبٌ في
الجمجمة، وانبعثتْ رائحةُ الدماغ لتملأ أرجاء المكان. للدماغ رائحةٌ قلويةٌ وواخزة؛
رائحةٌ يمكن أن تدفع ببعض الناس إلى العطاس أو الغثيان أو الإغماء. أما أنا فأملك،
بسبب الاعتياد، مشاعر حيادية تجاه هذه الرائحة، فهذه ليست المرة الأولى التي أتبرع
فيها بأجزاء من دماغي. وفي هذه الأثناء، وبينما كنت أتذوق الرائحة مغمضاً عيني،
كانت الآنسة وداد قد تناولتْ كماشةً معقمةً كي توسع الثقب المحفور في جمجمتي. وبعد
أن وصل الثقب إلى حجمٍ مناسب حملتْ سكيناً حاداً لتقشير السحايا. وأخيراً تناولتْ
وداد ملقطاً وانتزعتْ بضع قطع من دماغي أخبرتُها مسبقاً أني لم أعد في حاجةٍ إليها.
كنتُ أتأمل المهمة بسعادةٍ عميقةٍ وعيونٍ لامعةٍ وشفاهٍ مبتسمة، على ضوء الشموع، وعبر
المرآة الضخمة المصلوبة قبالتي على الجدار. وضعتِ الآنسة وداد القطعة الدماغية في
قطرميزٍ مع بعض السكر، وشيءٍ من حليب التين. ثم ناولتني القطرميز مع
فاتورةٍ لدفع التكاليف.
*******
في موسم الأعياد كانت الشاحنات تخرج من المركز وهي محملةٌ
بقطرميزاتٍ محشوةٍ بقطعٍ دماغيةٍ تبرّع بها الذكور بكل كرم. وبعد اجتياز البوابة الحديدية
الصدئة، تتجه كل شاحنةٍ إلى الجهات الأربعة، وتقطع الإشارات الحمراء، لتصل إلى الحاجز
العسكري الذي في يتمركز في بداية الطريق.
-
قف. إلى أين؟ سأل العسكري الواقف على الحاجز.
-
إلى الجهات الأربعة. أجاب سائق الشاحنة التي تحمل قطعاً من دماغي.
-
وماذا تحمل معك؟
-
قطرميزات!
-
قطرميزات؟
-
نعم قطرميزات محشوةٌ بقطعٍ دماغية ... تبرع بها بعض الذكور بكل كرم. قال
سائق الشاحنة.
-
قطرميزات ... قطعٌ دماغية ... تبرع بها بعض الذكور بكل كرم! ... صرخ
العسكري كي يُعْلِمَ الضابط المسؤول، فما كان من الأخير سوى أن حَرَّكَ
يده ببطءٍ مشيراً إليهم بالسماح للشاحنة بالعبور. وهكذا عبرت الشاحنة التي تحمل
قطعاً من دماغي لتصل إلى المحتاجين في مكانٍ ما وراء الحاجز في وطني.
*******
في الأسبوع الماضي دعيتُ إلى زيارة صديقٍ قديم يعيش مع
عائلته الصغيرة والمتفاهمة. لم نلتقي منذ عقود. ولهذا فقد كانت في جعبتي كميةٌ
هائلةٌ من الـ "القصص والحكايا". كان يبدي الكثير من التحفظات على ما
أقول، لكنه كان مهتماً بالحديث عن مراكز التبرع بالدماغ.
-
هل تذكر يا صديقي، في ذلك الزمن الجميل، كيف كان توزيع القطرميزات يتم تحت
شعار "قطرميزٌ لكل عائلة، وقطعةٌ دماغيةٌ في كل قطرميز" .
-
سقى الله تلك الأيام.
-
أذكر أن بعض الناس كان يعيد استعمال القطع الدماغية عن طريق حشرها في أدمغة
الأطفال.
-
ومنهم من يستخدم القطرميزات للتبرك والاستشفاء.
-
صحيح! كانت عمتي تحتفظ بمجموعةٍ من القطرميزات للحصول على البركة والرزق.
-
لكن الحكومة منعت كل ذلك الآن.
-
ماذا تعني؟
-
كنتَ خارج البلاد حينها. لقد صدر قانونٌ منذ سنوات يسمح فقط باستخدام القطع
الدماغية في الطبخ! وعملياً أصبح طبخ القطع الدماغية طقساً شعبياً يمارسه الجميع.
في الحقيقة صار عندنا طبقٌ تقليديٌّ يُقَدَّمُ في المطاعم والفنادق والولائم.
اعتقدتُ بدايةً أن صديقي يمازحني، وأن هذه مجرد إشاعةٍ
يتناقلها الناس. فمجتمعنا لن يرضى بتناول قطع دماغية تبرع بها البشر. ولكن حين
دخلتْ زوجة صديقي أدركتُ كم كنتُ مخطئاً ...
-
أهلاً بضيفنا ... الغداء جاهز تفضلوا ... قطعٌ دماغيةٌ بشريةٌ مقليةٌ مع
"بيضات الغنم"!
*******
ما يزال جسدي ممداً على السرير تحت الغطاء. فوقي مصباح
دائري مسلط علي. ما تزال يدي اليسرى تستر عورتي، وقلبي يعمل بانتظام. أنا في
المشفى. ونوبات الغثيان تجتاحني كل بضع دقائق. أريد أن أتجشأ. ها أنا ذا أتجشأ. وها
أنا ذا أستذكر ما حدث في منزل صديقي. ماذا لو كانت تلك القطع الدماغية جزءاً من
دماغي؟ ماذا لو افترضنا ذلك؟ في هذه الحالة إنها "أنا" ... أو هي جزءٌ
منّي ... قطعٌ دماغيةٌ بشريةٌ مقليةٌ مع "بيضات الغنم" ... جزءٌ منّي
"أنا" مستلقٍ هناك على المقلاة، أتخيل نفسي: تغطيني قطرات السمن المغلي،
وتحيط بي خصيةٌ تم انتزاعها من خروف! يا للعار! غثيان. إسعاف. طبقي محوري. أصبح
شريط الأحداث متماسكاً ومكتملاً. تبدو ذاكرتي نقيةً كالماء. بدأتُ أتذكر ما حصل.
فتحتُ عيني وإذ بي أرى الممرضة متوسطة الجمال وهي تحدق
بي، وفي فمها علكة.
-
هل أنت جاهز.
-
كما تريدون!
ورويداً رويداً أصابتني موجةٌ من الضعف والتلاشي،
واعْتَرَاني إحساسٌ غريب؛ أجزمُ أني لا أستطيع أن أسميه تفاؤلاً. في الحقيقة هو
إحساسٌ يميل إلى التشاؤم. أو ربما هو تشاؤمٌ بكل ما في الكلمة من معنى. لكنه
تشاؤمٌ ناضج. تشاؤمٌ مختلفٌ عن ذاك الذي يصيب المراهقين. تشاؤمٌ يدفعني إلى
الاستمتاع بوقع الأقدام التي تقترب، إلى الترحيب بأولئك الذين سيدخلون من باب
الغرفة، إلى الابتسام في وجه كل من سينظر إلي، إلى الاحتفاء بكل سكينٍ ستنغرس بي. دخل
الجراح. كان يخفي وجهه، ولكن كان من السهل أن ألاحظ نظرة الاحتقار التي رمقني بها،
قبل أن ينادي على الممرضة متوسطة الجمال. غبتُ عن الوعي، أو هكذا خُيِّلَ لي.
قاموا بفتح جمجمتي، وفجأةً بدأتِ "القصص والحكايا" تخرج من رأسي. كانت
"القصص والحكايا" ترقص وتتناول الـمُكَسّرات، ترفرف وتطير، أو تتأرجح
على مصباح الغرفة، وتقف على كتف الجراح وتتبادل معه النّكات، أو تلعق الدم الذي
يغطي المشهد، وأخرى تُكَنِّسُ "القصص والحكايا" التي رفضتِ الخروج. استغرق
تفريغ "القصص والحكايا" ساعةً كاملةً تنفّس الجرّاح في نهايتها الصعداء ثم
طلب الهاتف:
- سيدي ... نعم ... إنه جاهز ... حاضر ... حاضر ... سأسمح
لهم بالدخول ... فوراً بالحال ... أطال الله بعمركم يا سيدي ... حفظكم الله ...
وأعلى مراتبكم إلى العلا ...
أغلق الجراح السماعة، خلع القفازات وأنزل الكمامة، ثم طلب
من الممرضة متوسطة الجمال أن تُدخلهم. كانت العلكة ما تزال في فمها. وخلال لحظات
كانت غرفة العمليات مليئةً بذكورٍ يلبسون ثياباً خضراء، على صدورهم نياشين، وعلى
أكتافهم طيورٌ ونجومٌ وسيوف، ترافقهم كائناتٌ بقبعاتٍ كبيرة، وفي يد كلٍّ منهم
قطرميزٌ فارغ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق