أتفقُ معكم. أملكُ عدداً قليلاً من ’نِقَاطِ الضعف‘. عددها
لا يتجاوز عدد أصابع اليدين. وفي أحسن الأحوال، يمكن أن أضيف إليها عدد الأباخس في
قدمي اليسرى. ومع أني لا أملك الكثير من نقاط الضعف (أؤكد مرةً أخرى على أني أتفق
معكم في هذا)، إلا أني أعيش في قناعةٍ تامةٍ بما أنعمه الله عليّ.
من العسير جداً أن أتذكر بالتفصيل كيف حصلتُ على هذه
المجموعة المتميزة من ’نقاط الضعف‘. ثلاثٌ منها على الأقل رافقتني مُذْ
كنتُ صغيراً. يقال إننا قد وُلِدْنَا في أيامٍ متقاربة، وكبرنا معاً كأخوة في ذات
المنزل. كنا نلعب بدمىً مصنوعةٍ من الصوف والقش، ونختبئ تحت سرير جدتي بعد أن نكسر
قطرميز المخلل أو نوسخ السجادة في غرفة الجلوس. وحين كان يحل الظلام كانت أمي
تحملنا إلى غرفة النوم كي تقص علينا حكاية. واحدةٌ من نقاط ضعفي كانتْ تحب قصة
ليلى والذئب. كنتُ أبكي، وأشد شعرها، وأقفزُ على رفّاساتِ السرير، وأنا أصرُّ على
الاستماع إلى قصة الراعي الكذّاب.
أما ’نقاط الضعف‘ الأخرى فقد قابلتها مع تقدمي بالعمر:
في حصص التدريب العسكري، في الشارع، في عيادة طبيب الأسنان، في قاعات الامتحان، في
المطبخ، في مقر العمل. أضيف إلى ذلك نقطةَ ضعفٍ منحني إياها ما يسمى بالجنس اللطيف،
وأخرى كانت من نصيبي حين تم توزيع التَرِكَة بعد أن توفي المرحوم أبي. بقي أن أشير
إلى نقطتَيْ ضعفٍ تكرّمتْ عليّ بهما الجهات المختصة بمناسبة احتفالية المواطن
المثالي.
أعمل في مطبعة. يبدأ دوامي في العاشرة صباحاً، ويستمر
إلى حدود السادسة مساء، مع يوم عطلة في الأسبوع. أتفقُ معكم، فقد قضى الروتين
اليومي البائس علي، حوّلني إلى مجرّد كائنٍ ممل، قلّص من ذاكرتي المكانية وجعلها
محصورةً في مقر العمل. أحفظ بدقة كل التشققات وبقع الرطوبة التي تملأ جدران المطبعة،
وعدد الانخفاسات في البلاط القديم في مكتبي. لكني مع ذلك حافظتُ على ’نقاط ضعفي‘،
تشبثتُ بها، ولم أتخلى عنها. ومع مرور الزمن صرتُ مدمناً عليها. تطور الأمر إلى هواية
تجميع واقتناء ’نقاط الضعف‘، مع أملٍ حقيقيٍّ بالحصول على المزيد! أعيشُ في حالة
تَحَفُّزٍ دائم، أتتبعُ أخبار ’نقاط الضعف‘ بشغف، أشترك في عدة مجلات مختصة في هذا
المجال، وأسارعُ لأكون سباقاً في الحصول
على آخر الإصدارات.
ينتهي الدوام، فأخرج متجهاً إلى منزلي مشياً على
الأقدام. بمجرد وصولي أغسل يديّ من آثار الحبر ورائحة الورق. ثم أجلس إلى طاولةٍ يتوضع
عليها حوضٌ زجاجيٌ مملوءٌ بالماء. في هذا الحوض الزجاجي تسبحُ سمكةٌ برتقاليةٌ
اسمها نادين. لا يوجد سببٌ معينٌ لتسمية السمكة باسم نادين. في البداية نَشَبَ
خلافٌ مع أخي حول الاسم (كنتُ أميل إلى اسم "لمياء")، وتعمق هذا الخلاف
حتى وصل درجة القطيعة. إلا أننا قررنا الاحتكام إلى قطعةٍ نقديةٍ من فئة الليرة
السورية الواحدة كي نقرر الاسم. في الحقيقة لا أعرف رأي السمكة (نادين) باسمها. ترى
هل تحبه؟ هل تكرهه؟ هل كانت تميل إلى اسم "لمياء"؟ لدى نادين جلدٌ لامعٌ
وأملس، فمٌ عريضٌ بلا شفاه، وعيونٌ مدورةٌ بلا حواجب أو رموش. أحدقُ بعمقٍ في بؤبؤ
عينيها، أغوص فيهما، وأرحل بعيداً وأنا أتساءل إن كانت سعيدةً باسمها. نادين لا
تبتسم، لكنها في الوقت نفسه لا تبكي. ومع ذلك ينتابني إحساسٌ بأنها حزينة، وبأنها
كانت تفضل اسم "لمياء". أحياناً أشعر أنها تود أن تنطق وتبوح بذلك،
لكنها تبقى محافظةً على رباطة جأشها بكل شجاعة دون أن تذرف أي دمعة. لهذا لم يتغير
سلوكها بعد أن أطلقنا عليها اسم نادين (حتى لو كانت تميل إلى اسم "لمياء")،
بل بقيتْ تسبحُ دون نطقٍ أو غناء، تسبح وحيدةً بِصَمْت، في مساراتٍ دائريةٍ ومتداخلةٍ
في الماء؛ مساراتٍ دائريةٍ بلا لونٍ ولا رائحةٍ، كالماء. مساراتٍ دائريةٍ تامة
الاستدارة، بلا زوايا ولا انكسارات ولا مراكز. مساراتٍ تشبه تلك التي نقرأ عنها،
تلك التي نعيشها، وتلك التي نَمُوتُها.
بالقرب من الحوض الزجاجي الذي اعتادتْ نادين على السباحة
فيه، أبدأ جلسة التأمل المسائية: أُخْرِجُ ’نقاط ضعفي‘ واحدةً تلو أخرى، أرصفُها
بإتقان على سطح الطاولة، وأبدأ بتأمُّلِها وأنا أرتب خصلاتِ شعرها، التي تنساب
باستهتارٍ غَجَرِيٍّ مثيرٍ، وراء صِوان آذانها الصغيرة المُدَببة.
لا يمكنني أن أتصور أن هناك من يتخلى عن ’نقاط ضعفه‘
بسهولة. لكن الأخبار المريعة على كل لسان، والشائعات تتحدث عن ’نقاط ضعفٍ‘ يتخلّى
عنها أصحابها طوعاً أو كراهية. وحالياً هناك ميليشياتٌ مختصةٌ بسرقة وخطف ’نقاط
الضعف‘. يأتي أفرادها كل بضعة أيام، كالكلاب الشاردة. أعرفهم قبل أن يقرعوا الباب.
كل الميليشيات متشابهةٌ حتى لو اختلفت التسميات: سُعالهم النُّحاسي الـمُمَيّز،
رائحة جواربهم المتخمرة، ملابسهم التي تميل إلى الاخضرار، وصوتُ قرعهم الهمجي على
أبواب المنازل في جوف الليل.
إنها الواحدة بعد منتصف الليل. قرعٌ مجنونٌ يهز الباب
القصديري الصدئ. لم يوقظني هذا القرع الأهوج لأني لم أكن نائماً. ها قد جاؤوا كي
يسرقوا مني نقاط ضعفي. هل أفتح لهم الباب؟ القرع المجنون يعلو. شتائم. هل أفتح لهم
الباب؟ لا ... لا لن أفتح. من الأفضل أن أبقى مسترخياً مكاني، فهم سيكسرون الباب
خلال لحظات بكل الأحوال. هنا سمعتُ صوت الباب القصديري الصدئ وهو يرتطمُ ببهو
المنزل. ها هم يندفعون بعنفٍ كالتيوس، ويدخلون دون استئذان. يتوجه ثلاثةٌ منهم إلى
المطبخ كي يُفرغوا البراد، وينطلق آخر إلى المرحاض، في حين ينفجر أربعةٌ منهم في
وجهي غاضبين، وهم يسألون عن ’نقاط ضعفي‘. ها أنا أنظر في أعينهم بتصميم. لا أعترف.
لن أعترف. لا رغبة عندي كي أعترف. ليس عندي ’نقاط ضعف‘ أصلاً. أجبتهم وذَقْنِي
مرفوعة. جبيني مرفوع. عيوني متحفزة، وحواجبي تُوحي بحالةٍ من التحدي الغاضب
والحذر. صدري منفوشٌ كَدِيكِ الحَبَش. لكنهم لم يصدقوني. شخصان عملاقان يمسكان بي،
وثالثٌ يصرخ في وجهي بعيونٍ يقدح منها الشرر. يفتشون المنزل. يقلبون أغراضه رأساً على
عَقِب. أسمع صوت تحطيم الأثاث. ولكنهم لا يمكنهم أن يتخيلوا أني أرصفُ ’نقاط ضعفي‘
بجوار الحوض الزجاجي حيث تسبح نادين، تلك السمكة البرتقالية الوديعة (التي كنتُ أميل
إلى تسميتها "لمياء"، وبالمناسبة فأنا ما زلتُ مُصِرّاً على موقفي، وعندي
يقينٌ بأن السمكة كانت ستختار اسم "لمياء" لو كانت تملك القدرة على
الاختيار). ها أنا ذا أفتح عيني لأرى بقعاً من الدم على الأرض، على البنطال، وعلى
القميص. لو كانت هناك مرآةٌ أمامي لكنتُ سأرى ازرقاقاً حول عيني، والدم يسيل من
أنفي المتورم. لكن المرآة في الحمام، وأنا مستلقٍ بإنهاكٍ على أرضية غرفة الجلوس. حين
استجمع قوتي سأنهض لأتأمل وجهي في المرآة. أما الآن فلا بأس ببعض الراحة. فقد يئسوا
أخيراً ... ضربوني بعنف، دون أن ينسى كبيرهم أن يلكمني في وجهي بكل لؤم، قبل أن
يخرجوا وهم يشتمون ويهددون.
ذهب هؤلاء الفُجّار بعيداً، وحلَّ الصمت في أرجاء المنزل
المحطم. لن أعترف، ولن أتخلى عن ’نقاط ضعفي‘. سأدافع عنها ما حييتْ، ولا أخجل من
قول ذلك. كل ما أحتاجه هو المزيد من التصميم والثبات. أعرف أنهم سيعودون، وحتى ذلك
الحين، علي أن أشتري حوضاً زجاجياً جديداً، كي أضع فيه سمكةً برتقاليةً جديدةً، وأطلق
عليها اسم نادين (مع يقيني بأنها سوف تختار اسم "لمياء" لو كانت تملك
القدرة على الاختيار).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق