خبراء وكتلة شحمية




خبراء وكتلة شحمية[1]

القرارات المصيرية تؤخذ في اللحظات المصيرية. تنفسوا الصعداء. أصرّتْ أم عصام على الوقوف، بعد أن رفضتْ دعوات أبو عصام للجلوس. كان الاضطراب سيد الموقف وهما يسترجعان الحوار الذي جرى قبيل دقائق:
-       أبو عصام ... ما رأيك؟
-       أعتقد أنه ممتاز ... ولكن رأيي ليس مهماً ... المهم أن نستمع إلى رأيهم
-       أرجو أن نخرج من هذا الاختبار العصيب بأقل الخسائر
-       أرجو ذلك يا أم عصام
-       وجهكَ شاحب
-       أنتِ أيضاً
-       لم أنمْ طيلة الليل ... أنا متوترة
-       لا أخفيكِ يا أم عصام ... لم أشعر بمثل هذا التوتر منذ زمن بعيد
-       ألومكَ يا أبو عصام
-       لأني قمتُ بدعوتهم على العشاء؟
-       أجل
-       يا أم عصام ... جاؤوا مؤخراً إلى هذه البلاد ... كما أننا لم نلتقي بهم منذ سنين ... كنا جيراناً كما تعلمين
-       ولكن يا أبو عصام كان يمكنكَ أن تخترع حجةً ما وتتملص من هذه الدعوة
-       هذا ما حصل يا أم عصام ... تفاءلي بالخير، فمن يدري فقد نجتاز الاختبار بنجاح
-       أبو عصام ... هل تعتقد أننا قادرون على ذلك؟
-       فليكن إيمانك بالله قوياً يا أم عصام
-       ونِعْم بالله ...
-       ومن ناحيةٍ أخرى فهم لا ذنب لهم
-       معك حق ... لا ذنب لهم يا أبو عصام ... (جرس الباب)
-       أم عصام ... استعدي ... يبدو ان ضيوفنا قد وصلوا ...

انطلق أبو عصام وهو يفرك يديه الباردتين باضطراب، كي يفتح الباب. فقد وصل المدعوون على العشاء. الشاب الحلبي برفقة أخته الشابة الحلبية. هما أبناء "أم عبدو" زوجة "أبو عبدو"، رحمهما الله.
تبادل الجمعُ التحيات والعبارات الودية، ثم مد أبو عصام ذراعه داعياً الضيوف للدخول إلى غرفة الضيوف وابتسامةٌ وَجِلَةٌ ترتسم على وجهه. ودّعْنا شهر رمضان الكريم منذ يومين، وها نحن نحتفلُ بعيد الفِطْرِ السعيد. بعد احتساء القهوة نادتْ أم عصام من المطبخ لتعلن أن الطعام جاهز، فانتقل الجميع ليجلسوا إلى الطاولة التي كانت تحمل ما لذَّ وطاب. كانت وليمةً عامرةً حاولت فيها أم عصام أن تُظْهِرَ كل ما تعلمته في عالم المطبخ.
أومأ أبو عصام بيده في دعوةٍ للضيوف كي يباشروا طعامهم. ودون مقدمات، غَمَسَ الشابُ الحلبي الجالس إلى زاوية المائدة، بجوار أخته الحلبية، مِلْعَقَتَهُ في الصحن المتوضع قبالته. ثم رَفَعَ الملعقةَ ببطءٍ وقد امتلأتْ بكَثِيبٍ مُؤَنَّفٍ من الطعام. أوْقَفَ الشابُ الحلبي المِلْعَقَةَ في منتصف المسافة التي تفصل بين الصحن وفمه، ليتأمل باحترامٍ بالغٍ الطعامَ المحمول على الملعقة والبخار الذي كان يتصاعد منه. ثم ما لبث أن أخذ فَمُهُ شكلَ حَلَقةٍ تامّةِ الاستدارة يخرجُ منها تيارٌ من الهواء كي يُبَرِّدَ الطعام الحار. أبو عصام مولعٌ بالطعام الحار، وأم عصام تعرف ذلك جيداً. وفي أقل من ثانية بدأتْ يد الشاب الحلبي التي تحمل الملعقة بالتحرك بهدوءٍ وسَكِينَةٍ باتجاه فمه الذي بدا منبسطاً ونصف مفتوحٍ هذه المرة. وبحركةٍ متماسكةٍ، تتصفُ بالمهارة والدقة والخبرة، انزلقتِ الملعقة في جوف الفم الذي أطبق عليها بإحكام، مع انتباجٍ في الخدين، ووضوح في العروق التي تعبر صدغه المتعرق الخالي من الشعر. "تساقط الشعر شائع عند شباب هذه الأيام". قال أبو عصام في سره وهو يتحسس صلعته. اختفت الملعقة في فم الشاب الحلبي. لم يَعُدْ يظهر منها سوى سُوَيْقَتُها البارزة من الفم، والمستندةُ برفقٍ على يده الواثقة. وبُعَيْدَ لحظةٍ خَرَجَتِ الملعقة فارغةً وهي تلمع بلونها الفضي، ليبدأ فمُ الشاب الحلبي بالتحرك ببطءٍ ماضغاً اللقمة المتشرّبة بالدسم واللحم. أعصابُ عائلة أبو عصام مشدودةٌ، وأفواههم مشدوهةٌ تُتَمْتِمُ ما تحفظه من أدعيةٍ وأذكار. عيون الشاب الحلبي مغمضةٌ في جوٍّ ثقيلٍ مُشْبَعٍ بالخرس. هو يمضغ. فجأةً توقّفَ عن المضغ. يبدو أنه بدأ بابتلاع اللقمة. هذا واضح من ارتفاع وانخفاض "جوزة الحلق/تفاحة آدم" المتبارزة من رقبته النحيفة المُزَيّنة بالعروق البارزة. اللقمةُ تتابع طريقها. تسيل ببطءٍ وإصرارٍ نحو الأسفل. تتدحرجُ على النسيج اللحمي الدافئ والمنبسط. تسقطُ مهشمةً، ممضوغةً، رطبةً، بلا رجعةٍ، في المعدة. ستمضي بعدها في رحلتها. إلى اللقاء.
 هدووووووء هسسسسسسس (هَمَسَ أبو عصام وهو يضعُ سبّابته بشكلٍ شاقوليٍ أمام فمه المزموم بإحكام لضمان لفظ حرف "السين" في كلمة هسسسسسسس). فالشاب الحلبي يُرَكّز. دعوه يركز. "هل أعجبكَ؟" سارعتْ أم عصام بالسؤال ... وفجأة وكزها أبو عصام "لحظة يا امرأة انتظري قليلاً ... إنه يركّز" ... همس أبو عصام، في حين تابَعَ الشاب الحلبي انغماسه في حالة التأمل الصامتة وكأنَّ شيئاً لم يَكُنْ. للحلبيين فلسفةٌ خاصةٌ في تَذَوُّق الأطعمة، ومهارةٌ استثنائيةٌ في تصنيف المذاقات والروائح والنكهات. قاموسهم المعرفي، في هذا المجال، قضيةٌ لا يمكن نكرانها أو إغفالها.
بلغ الاضطراب ذروته عند أم عصام وأبو عصام. أما الأولاد فقد غطّوا أعينهم جَزَعاً. سيصدرُ الحُكْم خلال ثوان. قال أبو عصام في سِرِّه: "إنْ لم يكن في الثانية القادمة ففي الثانية التي بعدها، أو في أسوأ الاحتمالات في الثانية التي تليها".
فجأةً فتح الشاب الحلبي عينيه. لم ينبس بكلمةٍ. لم يتنحنح. لم يتمايل. لم يسعل. لا أثر للمشاعر على وجهه الجامد. تحركت يده التي تقبض على الملعقة نحو الأسفل. غمس الملعقة، مرةً أخرى، في الصحن المتوضع قبالته. ترى هل يريد التأكد من أمرٍ ما؟ "ترى هل الطعام مالح؟" تسأل أم عصام في سِرِّها ... إنه يعيد الكَرّة، وها هي الملعقة تتجه نحو فمه، وتختفي في جوفه،تاركةً سويقتها البارزة ... ها هي الملعقة تخرج من جديد فارغةً وهي تلمع بلونها الفضي، ليبدأ الفم بعدها بالمضغ، والابتلاع. جوزة الحلق/تفاحة آدم ترتفع نحو الأعلى ثم تنخفض نحو الأسفل، في تواترٍ فريد، في تناغم. "تناول الطعام عند الحلبيين عبارةٌ عن ممارسةٍ موسيقية، عبارة عن موشح، أو مجموعةٍ من الموشحات، أو سلسلةٍ من القدود". قال أبو عصام في سره وهو يتأمل عملية المضغ والابتلاع عند الضيف.
وبثباتٍ بدأتْ ملامحُ ابتسامةٍ خفيفةٍ ترتسم على وجه الشاب الحلبي ... ورويداً رويداً بدأ عَرْضُ الابتسامة يزداد بتسارعٍ ملحوظٍ، وبصورة لا إرادية بدأ أبو عصام وأم عصام برسم ابتسامةٍ على وجهيهما، لكن ابتسامة الشاب الحلبي توقفتْ فجأةً في وسط المسافة قبل أن تتحول إلى ابتسامةٍ كاملة! فجأة صار وجه أبو عصام شاحباً. في حين أخذت أم عصام نفساً عميقاً مع غصة واضحة وقلقة. التفتَ الشاب الحلبي إلى الشابة الحلبية وقال: عزيزتي ما رأيك أن تُجَرِّبي؟ نظرتِ الشابة الحلبية بثباتٍ واضحٍ، هزّتْ رأسها، ثم تناولتْ الملعقة لتعيد الأداء الذي قام به الشاب الحلبي بحذافيره. هي تمضغ بهدوء. عيناها مغمضتان. كتلةٌ شحميةٌ ثخينةٌ تبرز من تحت ذقن الشابة الحلبية وتتكاملُ مع كتلتها الجسدية الممتلئة والمليئة بالمنحنيات. ومن الواضح أن المضغ يؤدي إلى اهتزاز تلك الكتلة الهائلة، وبشكلٍ متناغمٍ ومتماوجٍ مع حركة الفم وتقلص العضلات والتنفس. طبعاً كانت هذه الأفكار تجول في رأس أبو عصام الذي تلقّى، ودون سابق إنذار، ضربةً موفقةً من مِرْفَقِ أم عصام الأيمن، مع دعسةٍ لئيمةٍ على قدمه اليسرى. إذ يبدو أن أم عصام قد استطاعتْ، بحكم إتقانها للحاسة السادسة، أن تقرأ أفكار زوجها المسكين. كاد أبو عصام أن يصرخ، إلا أنه كَبَتَ ألمه مغمضاً عينيه، ومحاولاً توجيه أفكاره ليركز على الطعام الذي سيتم تقييمه خلال لحظات. وفي هذه الأثناء، توقفتِ الشابة الحلبية عن المضغ. وبدأتْ تبتلع اللقمة. بهدوء. بمقدارٍ عالٍ من التأني. بخليطٍ من الرفق والحنان والحزم. من الصعب متابعة مسار اللقمة ضمن رقبتها البضة والممتلئة والتي تبدو للمراقب وكأنها غير موجودة: وكأن رأس الشابة الحلبية مستمرٌ مع جسدها دون حاجةٍ إلى تلك المسافة الفاصلة التي تسمى بالرقبة؛ لوهلةٍ يمكن القول أن الرقبة عبارةٌ عن عضوٍ زائد عن الحاجة! فتحتِ الشابة الحلبية عينيها، وسارعتْ بالنظر إلى الشاب الحلبي. هزَّ الاثنان رأسيهما بهدوء وكأنهما قد توافقا على فكرةٍ معينة. "لدى الحلبيين قدرةٌ هائلةٌ على تراود وتبادل الأفكار عن بعد خاصة إن تعلقت تلك الأفكار بقضايا المطبخ. أعتقد أن السبب وراثي". قال أبو عصام في نفسه، وهو يهز رأسه.
-       ألا يُذَكِّرُكِ الطعم عموماً بطبخنا حلب؟
-       أتفق معك ... هناك تشابهٌ لا بأس به
-       وماذا عن كمية الدسم؟
-       أعتقد أنه أشبه بطبخ السيدة ازدهار ... هل تذْكُرُها؟
-       طبعاً. لا يمكن أن أنسى طعم الكبة بالسماقية التي تعدها في المناسبات
تبع ذلك انفراجٌ في أسارير الضيفين بعد لحظاتٍ صعبةٍ من التركيز المهيب ... وتُوِّجَ ذلك بابتسامةٍ حقيقيةٍ وكاملةٍ على وجه الشاب الحلبي والشابة الحلبية.
-       اسمحي لي يا أختي أم عصام أن أنطق بالحكم بالنيابة عن كِلَيْنا
-       تفضل يا أخي
-       سلمتْ يداكِ يا أم عصام ... سلمتْ يداكِ ... الطعام مُتْقَنٌ ... فيه إشاراتٌ واضحة لنَفَس المطبخ الحلبي وخاصة طبخ السيدة ازدهار ... توازن السمن والدسم ملحوظ ... هناك انسجامٌ تامٌ بين المرق وباقي المكونات ... ومن الواضح أن الطعام مطبوخٌ بتقنيةٍ عالية ... كمية الملح والبهارات متوازنة ... أما الطعم فهو غير اعتباطيٍ على الإطلاق ... طعمٌ مدروسٌ ... يتلاعب في جوف الفم وينزلق على اللثة وحواف اللسان، ثم يهرول في الحلق، ويغرغر في الحشا، ليمنح المرء مذاقاً عميقاً مُحدباً مع لمساتٍ مُقعرة ضاربةٍ على الاخضرار ... لا يسعني في هذا المقام سوى أن أسجل إعجابي ... وعليه أُوَقِّعْ ...

قفز الأطفال فرحين ... وعانق الجميع بعضهم ... وهكذا عَمّتِ السعادة في أرجاء المنزل، وعاش أبو عصام وأم عصام في هناءٍ وسرور، وأنجبوا المزيد من الأطفال: صبياناً وبنات.


[1]  هذا عنوان رواية من تأليف الروائي الراحل عُبيدة قرقناوي (ت. ٢٠١٢). نشرت الرواية عام 2005 وحصلت على جائزة الإبداع الثقافي. النص مأخوذ مع بعض التصرف من المقطع الأخير من الرواية.

سمكةٌ برتقاليةٌ اسمها نادين



 أتفقُ معكم. أملكُ عدداً قليلاً من ’نِقَاطِ الضعف‘. عددها لا يتجاوز عدد أصابع اليدين. وفي أحسن الأحوال، يمكن أن أضيف إليها عدد الأباخس في قدمي اليسرى. ومع أني لا أملك الكثير من نقاط الضعف (أؤكد مرةً أخرى على أني أتفق معكم في هذا)، إلا أني أعيش في قناعةٍ تامةٍ بما أنعمه الله عليّ.
من العسير جداً أن أتذكر بالتفصيل كيف حصلتُ على هذه المجموعة المتميزة من ’نقاط الضعف‘. ثلاثٌ منها على الأقل رافقتني مُذْ كنتُ صغيراً. يقال إننا قد وُلِدْنَا في أيامٍ متقاربة، وكبرنا معاً كأخوة في ذات المنزل. كنا نلعب بدمىً مصنوعةٍ من الصوف والقش، ونختبئ تحت سرير جدتي بعد أن نكسر قطرميز المخلل أو نوسخ السجادة في غرفة الجلوس. وحين كان يحل الظلام كانت أمي تحملنا إلى غرفة النوم كي تقص علينا حكاية. واحدةٌ من نقاط ضعفي كانتْ تحب قصة ليلى والذئب. كنتُ أبكي، وأشد شعرها، وأقفزُ على رفّاساتِ السرير، وأنا أصرُّ على الاستماع إلى قصة الراعي الكذّاب.
أما ’نقاط الضعف‘ الأخرى فقد قابلتها مع تقدمي بالعمر: في حصص التدريب العسكري، في الشارع، في عيادة طبيب الأسنان، في قاعات الامتحان، في المطبخ، في مقر العمل. أضيف إلى ذلك نقطةَ ضعفٍ منحني إياها ما يسمى بالجنس اللطيف، وأخرى كانت من نصيبي حين تم توزيع التَرِكَة بعد أن توفي المرحوم أبي. بقي أن أشير إلى نقطتَيْ ضعفٍ تكرّمتْ عليّ بهما الجهات المختصة بمناسبة احتفالية المواطن المثالي.
أعمل في مطبعة. يبدأ دوامي في العاشرة صباحاً، ويستمر إلى حدود السادسة مساء، مع يوم عطلة في الأسبوع. أتفقُ معكم، فقد قضى الروتين اليومي البائس علي، حوّلني إلى مجرّد كائنٍ ممل، قلّص من ذاكرتي المكانية وجعلها محصورةً في مقر العمل. أحفظ بدقة كل التشققات وبقع الرطوبة التي تملأ جدران المطبعة، وعدد الانخفاسات في البلاط القديم في مكتبي. لكني مع ذلك حافظتُ على ’نقاط ضعفي‘، تشبثتُ بها، ولم أتخلى عنها. ومع مرور الزمن صرتُ مدمناً عليها. تطور الأمر إلى هواية تجميع واقتناء ’نقاط الضعف‘، مع أملٍ حقيقيٍّ بالحصول على المزيد! أعيشُ في حالة تَحَفُّزٍ دائم، أتتبعُ أخبار ’نقاط الضعف‘ بشغف، أشترك في عدة مجلات مختصة في هذا المجال، وأسارعُ لأكون سباقاً في الحصول على آخر الإصدارات.
ينتهي الدوام، فأخرج متجهاً إلى منزلي مشياً على الأقدام. بمجرد وصولي أغسل يديّ من آثار الحبر ورائحة الورق. ثم أجلس إلى طاولةٍ يتوضع عليها حوضٌ زجاجيٌ مملوءٌ بالماء. في هذا الحوض الزجاجي تسبحُ سمكةٌ برتقاليةٌ اسمها نادين. لا يوجد سببٌ معينٌ لتسمية السمكة باسم نادين. في البداية نَشَبَ خلافٌ مع أخي حول الاسم (كنتُ أميل إلى اسم "لمياء")، وتعمق هذا الخلاف حتى وصل درجة القطيعة. إلا أننا قررنا الاحتكام إلى قطعةٍ نقديةٍ من فئة الليرة السورية الواحدة كي نقرر الاسم. في الحقيقة لا أعرف رأي السمكة (نادين) باسمها. ترى هل تحبه؟ هل تكرهه؟ هل كانت تميل إلى اسم "لمياء"؟ لدى نادين جلدٌ لامعٌ وأملس، فمٌ عريضٌ بلا شفاه، وعيونٌ مدورةٌ بلا حواجب أو رموش. أحدقُ بعمقٍ في بؤبؤ عينيها، أغوص فيهما، وأرحل بعيداً وأنا أتساءل إن كانت سعيدةً باسمها. نادين لا تبتسم، لكنها في الوقت نفسه لا تبكي. ومع ذلك ينتابني إحساسٌ بأنها حزينة، وبأنها كانت تفضل اسم "لمياء". أحياناً أشعر أنها تود أن تنطق وتبوح بذلك، لكنها تبقى محافظةً على رباطة جأشها بكل شجاعة دون أن تذرف أي دمعة. لهذا لم يتغير سلوكها بعد أن أطلقنا عليها اسم نادين (حتى لو كانت تميل إلى اسم "لمياء")، بل بقيتْ تسبحُ دون نطقٍ أو غناء، تسبح وحيدةً بِصَمْت، في مساراتٍ دائريةٍ ومتداخلةٍ في الماء؛ مساراتٍ دائريةٍ بلا لونٍ ولا رائحةٍ، كالماء. مساراتٍ دائريةٍ تامة الاستدارة، بلا زوايا ولا انكسارات ولا مراكز. مساراتٍ تشبه تلك التي نقرأ عنها، تلك التي نعيشها، وتلك التي نَمُوتُها.
بالقرب من الحوض الزجاجي الذي اعتادتْ نادين على السباحة فيه، أبدأ جلسة التأمل المسائية: أُخْرِجُ ’نقاط ضعفي‘ واحدةً تلو أخرى، أرصفُها بإتقان على سطح الطاولة، وأبدأ بتأمُّلِها وأنا أرتب خصلاتِ شعرها، التي تنساب باستهتارٍ غَجَرِيٍّ مثيرٍ، وراء صِوان آذانها الصغيرة المُدَببة.
لا يمكنني أن أتصور أن هناك من يتخلى عن ’نقاط ضعفه‘ بسهولة. لكن الأخبار المريعة على كل لسان، والشائعات تتحدث عن ’نقاط ضعفٍ‘ يتخلّى عنها أصحابها طوعاً أو كراهية. وحالياً هناك ميليشياتٌ مختصةٌ بسرقة وخطف ’نقاط الضعف‘. يأتي أفرادها كل بضعة أيام، كالكلاب الشاردة. أعرفهم قبل أن يقرعوا الباب. كل الميليشيات متشابهةٌ حتى لو اختلفت التسميات: سُعالهم النُّحاسي الـمُمَيّز، رائحة جواربهم المتخمرة، ملابسهم التي تميل إلى الاخضرار، وصوتُ قرعهم الهمجي على أبواب المنازل في جوف الليل.
إنها الواحدة بعد منتصف الليل. قرعٌ مجنونٌ يهز الباب القصديري الصدئ. لم يوقظني هذا القرع الأهوج لأني لم أكن نائماً. ها قد جاؤوا كي يسرقوا مني نقاط ضعفي. هل أفتح لهم الباب؟ القرع المجنون يعلو. شتائم. هل أفتح لهم الباب؟ لا ... لا لن أفتح. من الأفضل أن أبقى مسترخياً مكاني، فهم سيكسرون الباب خلال لحظات بكل الأحوال. هنا سمعتُ صوت الباب القصديري الصدئ وهو يرتطمُ ببهو المنزل. ها هم يندفعون بعنفٍ كالتيوس، ويدخلون دون استئذان. يتوجه ثلاثةٌ منهم إلى المطبخ كي يُفرغوا البراد، وينطلق آخر إلى المرحاض، في حين ينفجر أربعةٌ منهم في وجهي غاضبين، وهم يسألون عن ’نقاط ضعفي‘. ها أنا أنظر في أعينهم بتصميم. لا أعترف. لن أعترف. لا رغبة عندي كي أعترف. ليس عندي ’نقاط ضعف‘ أصلاً. أجبتهم وذَقْنِي مرفوعة. جبيني مرفوع. عيوني متحفزة، وحواجبي تُوحي بحالةٍ من التحدي الغاضب والحذر. صدري منفوشٌ كَدِيكِ الحَبَش. لكنهم لم يصدقوني. شخصان عملاقان يمسكان بي، وثالثٌ يصرخ في وجهي بعيونٍ يقدح منها الشرر. يفتشون المنزل. يقلبون أغراضه رأساً على عَقِب. أسمع صوت تحطيم الأثاث. ولكنهم لا يمكنهم أن يتخيلوا أني أرصفُ ’نقاط ضعفي‘ بجوار الحوض الزجاجي حيث تسبح نادين، تلك السمكة البرتقالية الوديعة (التي كنتُ أميل إلى تسميتها "لمياء"، وبالمناسبة فأنا ما زلتُ مُصِرّاً على موقفي، وعندي يقينٌ بأن السمكة كانت ستختار اسم "لمياء" لو كانت تملك القدرة على الاختيار). ها أنا ذا أفتح عيني لأرى بقعاً من الدم على الأرض، على البنطال، وعلى القميص. لو كانت هناك مرآةٌ أمامي لكنتُ سأرى ازرقاقاً حول عيني، والدم يسيل من أنفي المتورم. لكن المرآة في الحمام، وأنا مستلقٍ بإنهاكٍ على أرضية غرفة الجلوس. حين استجمع قوتي سأنهض لأتأمل وجهي في المرآة. أما الآن فلا بأس ببعض الراحة. فقد يئسوا أخيراً ... ضربوني بعنف، دون أن ينسى كبيرهم أن يلكمني في وجهي بكل لؤم، قبل أن يخرجوا وهم يشتمون ويهددون.
ذهب هؤلاء الفُجّار بعيداً، وحلَّ الصمت في أرجاء المنزل المحطم. لن أعترف، ولن أتخلى عن ’نقاط ضعفي‘. سأدافع عنها ما حييتْ، ولا أخجل من قول ذلك. كل ما أحتاجه هو المزيد من التصميم والثبات. أعرف أنهم سيعودون، وحتى ذلك الحين، علي أن أشتري حوضاً زجاجياً جديداً، كي أضع فيه سمكةً برتقاليةً جديدةً، وأطلق عليها اسم نادين (مع يقيني بأنها سوف تختار اسم "لمياء" لو كانت تملك القدرة على الاختيار).

دماغٌ وقطرميز




كنتُ أقص هذه الحكاية على ممرضةٍ متوسطة الجمال، عريضة الحوض، تدير ظهرها لي. اكتشفتُ أنها متوسطة الجمال حين استدارتْ، إذ ليس من عادتي أن أحكُمَ على جمال الوجه دون النظر إلى الوجه. مع التأكيد، منعاً من الدخول في أي جدلٍ مع القراء الأعزاء، بأن الجمال قضيةٌ نسبيةٌ يختلف تقييمها من شخصٍ لآخر. المهم في الموضوع هو أني حين وصلتُ إلى منتصف الحكاية التي كنت أقصها على الممرضة متوسطة الجمال أحسستُ بأن الدموع على وشك أن تنهمر من عينيها. توقفتُ عن الحديث في محاولةٍ مني لإعطائها الوقت الكافي للتعبير عن تأثرها. إلا أن الدموع، وعلى خلاف توقعاتي، لم تنهمر. بقيتْ الممرضةُ تحدق بي، ثم ما لبثتْ أن بدأتْ بالتثاؤب. تثاءبَتْ. ثم تثاءبتْ مرةً أخرى. وبعد أن انتهتْ الممرضة من تثاؤبها أخبرتني بأن المرضى الثلاثة الذين كانوا قبلي قد لاقوا حتفهم على طاولة العمليات "هذه"، وأشارتْ بإصبعها إلى الطاولة التي أستلقي عليها. ابْتَسَمَتِ الممرضة، فوجدتُ نفسي مضطراً لأن أبتسم. وهكذا مَرَّتْ لحظاتٌ تبادلنا فيها الابتسام، قبل أن تستدير الممرضة خارجةً مع حوضها العريض وجمالها المتوسط.
حالياً أنا وحيدٌ في غرفة العمليات. فوقي مصباحٌ دائريٌ مُسَلَّطٌ علي. أشم رائحةً واخزةً لكحولٍ طبي، وأسمع صوت دقات قلبي وهي تنطلق من جهازٍ متوضع إلى يميني. نظرتُ إلى شمالي وإذ بي أرى طاولةً يغطيها قماشٌ يشبه القماش الذي يغطي جسدي. أخرجتُ يدي ورفعتُ الغطاء قليلاً عني موجهاً ببصري نحو الأسفل. لو كنتُ أنثى لرأيتُ ثديين بارزين ومنسدلين باسترخاءٍ على صدري. ولكني لستُ بأنثى، وهذا ما يفسر ربما وجود تلك الحلمتين الغائرتين وسط كومةٍ من الشعر الأسود المقزز. تُرى ما الحكمة من وجود حلماتٍ للذكور؟ هل سيتطور العلم يوماً ونصبح –نحن معاشر الذكور- قادرين على إنتاج الحليب؟ خطرتْ لي هذه التساؤلات وعيناي تتابعان الجولة عبر بطني المتضخمة. تجاوزتُ السرة متجهاً ببصري صوب الجزء الذي يميزنا كذكور، لألاحظ بأني بلا سروالٍ داخلي! وبصورة لا إرادية حركتُ راحة كفي الأيسر كي أغطي العورة. أحسستُ بدفء المنطقة وأنا أتذكر مدى أهميتها. تنهدتُ، وتمنيتُ لو أستطيع تدخين سيجارة. ومن جديد جالَ بصري باضطرابٍ في أنحاء الغرفة علّي أعثر على شخصٍ كي أطلب منه إذناً بالتدخين. يقال أن التدخين ممنوعٌ في المشافي، ولكن لا بأس من المحاولة. فتحتُ فمي وسألتُ: هل من أحدٍ هنا؟ سمعتُ صوتي بشكلٍ واضح وهو يخرجُ من فمي، إلا أني لم أتلقى أي إجابة، في حين استمرتْ دقاتُ قلبي تنطلق من الجهاز المتوضع إلى يميني. الغرفة خاليةٌ، لا أثر لأحد، حتى الممرضة متوسطة الجمال لم تعد موجودة. ولهذا فقد قررتُ أن أقص هذه الحكاية عليكم أنتم أيها القراء الأعزاء.

*******
تبدأ حكايتي مع عودتي إلى الوطن بعد غيابٍ طويل. إنه عيد الأضحى؛ لوحةٌ متناقضةٌ سوريالية المذاق تندمج فيها ضحكات الأطفال البريئة، وألوان الملابس الزاهية، مع رائحة الأضاحي المذبوحة، وسواقي الدم المتخثر والجلد المسلوخ على حواف الأرصفة القذرة. قبل أن أغادر الوطن كنتُ مُدْرِكاً لأهمية التكافل الاجتماعي، كنتُ مؤمناً بأن الصدقات حقٌ للفقراء والمساكين، وكنتُ مقتنعاً بضرورة التبرع بالأشياء التي تفيض عن حاجتنا إلى الآخرين. ولهذا فقد كنتُ من أشد المتحمسين لمراكز "التبرع بالدماغ" التي تم افتتاحها بمبادراتٍ أهليةٍ تحت رعاية الحكومة. في ذلك الزمن الجميل، وقبل الغوص في وحل الغربة، اعتدتُ بين فترةٍ وأخرى أن أتبرع بأجزاء من دماغي، خاصة في مواسم الأعياد.
لن تصدقوا مدى سعادتي حين علمتُ أن مراكز التبرع بالدماغ ما تزال على رأس عملها، وأنها تقدم خدماتها للمواطنين مقابل رسومٍ رمزية. وبما أن عودتي قد تزامنتْ مع عيد الأضحى فقد خرجتُ في صبيحة اليوم الأول من خيمتي، متوجهاً صَوْب مركزٍ للتبرع بالدماغ يقع على حافة المدينة. عبرتُ الشارع المهترئ الذي تبرز من وسطه نخلةٌ ممشوقة. بات للشارع اسمٌ جديدٌ يختلف عن الاسم القديم. لكن لم يكن لتغيير اسم الشارع أثرٌ يُذكر. فقد مشيتُ على الرصيف الأوسط، كما كنتُ أفعل في ذلك الزمن الجميل، دون أي مشاكل أو صعوبات. وبعد أن عبرتُ القنطرة وجدتُ نفسي وقد وصلتُ المركز المقصود. يقول الناس بأنه أفضل وأحدث مركزٍ في المدينة، فقد قامتْ بافتتاحه منذ بضع سنين مجموعةٌ من الآنسات المتخصصات في استئصال الأجزاء الدماغية.
في ذلك المركز الجميل، جلستُ على كرسي الانتظار. قبالتي طاولةٌ احتشدتْ عليها صحفٌ ومجلاتٌ ملونة. هناك جريدةٌ طُبِعَتْ على صفحتها الأولى صورةٌ لرئيس الوزراء وهو يبتسم معانقاً وفداً شقيقاً/صديقاً. وتحت الجريدة تظهر صورةٌ لفخذٍ أنثويٍ على غلاف مجلةٍ مشهورة. يبدو الفخذ انسيابياً بقوامٍ حريريٍ متماسك، وبلونٍ برونزي يلمع بإغراءٍ تحت ضوء الفلاش. انتابني فضولٌ لمعرفة صاحبة الفخذ. إذا أزحتُ الجريدة قليلاً، وأبعدتُ صورة رئيس الوزراء، حينها سيكون غلاف المجلة مكشوفاً بكامله للعين المجردة، وسيكون بمقدوري ربما اكتشاف هوية صاحبة الفخذ. كل ما علي فعله هو إزاحة الصحيفة. أو لعله من الأفضل الانتظار قليلاً ... أراهنُ بأن أحد الزبائن يفكر بما أفكر فيه، وقد يقوم هو بهذه الحركة قبلي. لهذا أقترح أن أنتظر قليلاً. تباً لرئيس الوزراء.

-        عملٌ نبيل. قطع صوتٌ ذكوريٌ الحوارَ الغرائزي الذي كان يدور في مخيلتي.
-        عفواً؟
-        إنهنّ يعملنَ بجدٍ ونشاط، وبكثيرٍ من الإخلاص والتفاني. أجاب عجوز في الثمانين مشيراً إلى الآنسات اللواتي افتتحن المركز، ثم سعل ...
-        عملية التبرع لا تستغرق كثيراً من الوقت، والنتائج مضمونةٌ في أغلب الأحوال. علق زبونٌ تبدو عليه علائم البهجة. ما دفعني إلى المشاركة:
-        سمعتُ أن مراكز التبرع بالدماغ قد صارتْ منتشرةً في كل ربوع الوطن. مجتمعنا في أمس الحاجة لمثل هذا النوع من التكافل الاجتماعي.
-        للأسف قلةٌ من المراكز حصل على ترخيص، ومعظمها يعمل بصورة غير نظامية.  
-        يا أخوتي ... إذا خليت خربت! قال العجوز الثمانيني. ثم سعل مرة أخرى. هز الحاضرون برؤوسهم موافقين.

*******
كما أخبرتكم فقد أخبروني بأن هذا المركز من أفضل مراكز المدينة. قد لا يتفق معي البعض، وقد يسارع آخرون إلى القول بأن وجهة النظر هذه متحيزة. ولكن بالتأكيد لا خلاف في أن هذا المركز أفضل من المركز الأخضر الذي يقع في الجهة الغربية من المدينة حيث لا توجد آنسات ... بل جموعٌ من الذكور ... يلبسون ثياباً خضراء، ويضعون على صدورهم النياشين، ويحملون على أكتافهم طيوراً ونجوماً وسيوفاً، ترافقهم كائناتٌ تلبس قبعاتٍ كبيرة.
ما يزعج في المركز الأخضر هو إدمانه على الغش وسوء معاملة الزبائن. هناك لا يعيرونك أي اهتمام، حتى أنهم لا يترددون في أخذ الأجزاء التي يحتاجونها من دماغك دون إذنٍ مسبق. يتعاملون معك ببساطة وكأنكَ حشرة. كثيرةٌ هي الشائعات التي يتناقلها الناس عن المركز الأخضر. يقال أن شخصاً تم أخذ نصف دماغه كاملاً، وحين حاول الاعتراض اتصل أصحاب المركز الأخضر بالشرطة التي اعتقلته، لتنقطع أخباره بعدها. صَرَّحَ صديقُه لإذاعةٍ محلية بأنه قد تم العثور على يده المبتورة في سلّة المهملات. ولكن لا شيء مؤكد. قصةٌ أخرى تُحكى عن شخصٍ رفع دعوى عليهم، فخسرها، وحكم القاضي عليه بدفع غرامة اعتذار، ما كلّفه مصادرة أجزاء إضافية من دماغه، إضافةً إلى بيته ودعوى طلاق بالإكراه من زوجته بحكم الارتداد عن الجماعة. وفي موسم القمح الماضي تم تنفيذ حكمٍ مشابهٍ بحق شخصٍ آخر، وحالياً يقاوم هذا الشخص محاولات الممرضين لإقناعه بأن يستر عورته عندما يندفع صارخاً في ممرات مشفى الأمراض العقلية.

*******
كنتُ أنظر بشغفٍ إلى الفخذ الأنثوي المرتسم بإغراءٍ على غلاف المجلة، محاولاً في مخيلتي رسم ملامح صاحبة الفخذ، انحناءات جسدها البض، رطوبته، حرارته، لدونته، قدرته على الارتجاج والتمعُّج. لكن صورة رئيس الوزراء، بشواربه التي تغطي شفته العليا، كانت عائقاً حقيقياً يُـثَـبِّطُ خيالي المجنح.
-        أستاذ تفضل.
قالت إحداهن بنبرة ساحرة، فانقطع سيلُ الأفكار التي كانت تتدحرج في رأسي. ربما يمكنني تأجيل التحديق في الفخذ الأنثوي المرتسم على غلاف المجلة إلى جلسةٍ أخرى. أما الآن فما علي سوى النهوض دون تلكؤ. وهذا ما كان: نهضتُ، والإشراق يتراقصُ على محيّاي. نفضتُ عن سترتي الغبار الذي بدأ يتطاير بحماسةٍ باهرة. مئات ذرات الغبار انتشرت في أرجاء المكان لتتراقص تحت أشعة الشمس الخجولة. تأكدتُ من موضع ربطة العنق ورسمتُ ابتسامةَ امتنانٍ عريضة على وجهي، ثم تبعتُ تلك الحسناء بقامة منتصبة، ونظراتي لا تفارق الكتلةَ شبه الكروية والمنبلجة من أسفل ظهرها، والمحشورة بإتقانٍ في بنطلونٍ مصنوعٍ من الجلد الأسود. كان الالتصاق بين البنطال وبين الكتلة المنبلجة مثيراً للاهتمام، مشكلاً نوعاً من التكامل الغامض مع صورة الفخذ الأنثوي المرتسم على غلاف المجلة. في هذه الحياة لحظاتٌ كفيلةٌ بإطلاق القريحة، وتحرير الخيال. هذا المكان مصنعٌ حقيقيٌ لتخريج الأدباء، واحةٌ لإعداد الشعراء. هذا المركز رائع.
رافقتني الحسناء حتى وصلتُ إلى كرسي التبرع: كرسيٌ مزودٌ بمسندٍ للرأس ومثبتات للأطراف العلوية والسفلية. هناك مرآةٌ أمامها رفٌ عريضٌ رُصِفَتْ عليه كافة الأدوات اللازمة للتبرع: منشار، مطرقة، شامبو، مسامير وبراغي، مجفف شعر (سيشوار)، مثقابٌ كهربائي، عدة أمشاط، مثقابٌ يدوي، معجون حلاقة إلخ. جلستُ على الكرسي وبدأتُ أتأمل لحيتي الكثة، وأطقطق أصابع يدي، محاولاً بطرف لساني إخراج قطعة نعناع محشورة في أسناني الأمامية. بعد دقائق من التحضيرات اقتربتْ آنسةٌ جميلةٌ لتُعَرِّفَ عن نفسها بأن اسمها وداد، وبأنها من سيقوم بالمهمة. لبست الآنسة وداد قفازاتٍ من القِنّب، ثم وضعتْ كمامةً تاركةً عيونها الساحرة باديةً للعيان.  
وباحترافيةٍ ملحوظةٍ باشرتِ الآنسة وداد مهمتها: أولاً غسلتْ شعري بشامبو منعشٍ برائحةٍ تقع في مكانٍ ما بين التفاح وصوت النحل. أحببتُ هذه الخطوة، وأحببتُ يدها الناعمة وهي تعربش عليّ كعنكبوتٍ سكران، وتداعب بلطفٍ أنثويٍ شعري الجّعد. ثم تناولتْ الآنسة وداد موساً وحلقتْ شعري، وباشرتْ فوراً بسلخ فروة الرأس بمشرطٍ حاد: دم! رأيتُ الدم وهو يُلَوِّنُ ويَقْطُرُ من نصلةِ السكين. كان يلمع باستهزاءٍ تحت ضوء الغرفة، ويعكس بإثارةٍ خفيّة وجه الآنسة وداد وعينيها الواسعتين. وخلال ثوانٍ أحسستُ بالدم يسيل دافئاً، شاهدتُ لونه القاني وهو يرسم خطاً شاقولياً متعرّجاً؛ بدءاً بحافة الجرح مروراً بالصدغ، ليعبر من أمام صيوان الأذن ويتقدم بإصرارٍ على خدّي، ثم ينحرف ليصل زاوية الفم. هنا بات بإمكاني مد لساني كي أَتَلَمَّظَ طعم الدم المالح. لكني في اللحظة التي حاولتُ فيها مد لساني سارعت الآنسة وداد، وبنباهةٍ ملحوظة، بوضع بعض المناديل البيضاء (كلينكس) التي بدأت تَغُبُّ الدمَ بشراهة.
بعد أن توقف النزيف أخبرتني الآنسة وداد أنها جاهزةٌ لفتح جمجمتي باستخدام مثقابٍ كهربائي. ضَغَطَتْ وداد على زر التشغيل، فانطلق صوت المثقاب حاداً كصوت الحفّارة التي يستعملها أطباء الأسنان. اقترب المثقاب مني، ومع اقترابه كان صوته الحاد يغدو أكثر حدّة. استمر المثقاب بالاقتراب حتى لامسَ جدار الجمجمة. حينها تغير الصوت وأصبح خشناً ومكتوماً، وأحسستُ باهتزازٍ يَسْري في جسدي. شاهدتُ ذرات العظم المحترق وهي تتطاير كالطحين، شممتُ رائحة العظم المحترق وهي تنتشر في أرجاء المكان. ولمحتُ ذاك الخيط الرفيع من الدخان الرمادي وهو ينبعثُ من فوهة الحفرة التي كانت تتشكل في جمجمتي. أغمضتُ عيني، وبدأتُ أستجمعُ في مخيلتي كل هذه الأحاسيس محاولاً استيعابها، ومحاولاً استرجاع ذكريات الزمن الجميل: صوت المثقاب، الاهتزاز الذي يسري في جسدي، مشهد ورائحة العظم المحترق والمتطاير، وخيط الدخان المتصاعد. شعورٌ لذيذٌ وفريد، شعورٌ بالتميز، شعورٌ نخبويٌ لا يعيشه إلا أولئك المحظوظون، أولئك الذين تُثقب جماجمهم بمثقابٍ كهربائي. هي النوستالجيا حين نستحضرها من الماضي لنعيشها في الزمن الحاضر. لم يقطع هذه النشوة العظيمة سوى الانقطاع الفجائي للتيار الكهربائي! توقف المثقاب عن العمل، وهرب ذلك الشعور النخبوي تاركاً وراءه شعوراً شائعاً بالألم الـمُمِض والعميق. أطلقت الآنسة وداد شتيمةً لطيفةً وأنيقة، فحاولتُ أن أتبادل النظرات معها عبر المرآة المصلوبة قبالتي، إلا أن الظلام حالَ دون العثور على عينيها الواسعتين. فما كان من الآنسة سوى أن استأذنتْ بصوتٍ ساحرٍ لتهرع إلى الغرفة المجاورة. وهكذا صرتُ وحيداً أتأملُ ألمي. رفعتُ يدي وغَمَسْتُ أصابعي أتحسسُ موضع العملية. لم تكن الحفرة مكتملةً، كانت أشبه بمنطقةٍ منخسفةٍ حوافها غير منتظمة. كانت ذرات العظم المحترق متناثرةً على رأسي. منها ما كان محشوراً في لحيتي وقد اختلط بالدماء المتخثرة. أنزلتُ يدي ببطء. ولوهلة رغبتُ في لَحْس أصابعي وتذوق ذلك المزيج الغريب من الدم المتخثر والعظم المحترق. إلا أني عدلتُ عن الفكرة، ومسحتُ أصابعي بالبنطال، ثم تابعتُ تأملي لألمي الممض والعميق محاولاً، في الوقت نفسه، أن أستذكر الشعور النخبوي الذي هرب مني. بعد دقائق عادت الآنسة وداد وهي تحمل معها بعض الشموع التي تم توزيعها في أنحاء الغرفة. وبفضل ضوء الشموع أصبحتُ قادراً على استخدام حاسة البصر مرةً أخرى. تبادلتُ النظرات مع عينيها الواسعتين من خلال المرآة المصلوبة قبالتي. ودون وَجَل تناولت الآنسة وداد مثقاباً يدوياً كي تتابع ثقب جمجمتي وسط هذا الجو الرومانسي. المثقاب اليدوي متعبٌ. ولهذا فقد كانتِ وداد تكُزُّ على أسنانها، وهي تدير المثقاب بأناملها الناعمة، متوقفةً بين الفينة والأخرى كي أمسح لها قطرات العرق الرقيقة من على جبينها الجميل. كانت قطرات العرق مُرْتَصِفَةً كحبات اللؤلؤ لتشكل، مع الخيال المرتسم على الحيطان والضوء البرتقالي المنبعث من الشموع، لوحةً مغرية. وبعد جهدٍ جهيدٍ فُتِحَ ثقبٌ في الجمجمة، وانبعثتْ رائحةُ الدماغ لتملأ أرجاء المكان. للدماغ رائحةٌ قلويةٌ وواخزة؛ رائحةٌ يمكن أن تدفع ببعض الناس إلى العطاس أو الغثيان أو الإغماء. أما أنا فأملك، بسبب الاعتياد، مشاعر حيادية تجاه هذه الرائحة، فهذه ليست المرة الأولى التي أتبرع فيها بأجزاء من دماغي. وفي هذه الأثناء، وبينما كنت أتذوق الرائحة مغمضاً عيني، كانت الآنسة وداد قد تناولتْ كماشةً معقمةً كي توسع الثقب المحفور في جمجمتي. وبعد أن وصل الثقب إلى حجمٍ مناسب حملتْ سكيناً حاداً لتقشير السحايا. وأخيراً تناولتْ وداد ملقطاً وانتزعتْ بضع قطع من دماغي أخبرتُها مسبقاً أني لم أعد في حاجةٍ إليها. كنتُ أتأمل المهمة بسعادةٍ عميقةٍ وعيونٍ لامعةٍ وشفاهٍ مبتسمة، على ضوء الشموع، وعبر المرآة الضخمة المصلوبة قبالتي على الجدار. وضعتِ الآنسة وداد القطعة الدماغية في قطرميزٍ مع بعض السكر، وشيءٍ من حليب التين. ثم ناولتني القطرميز مع فاتورةٍ لدفع التكاليف.

*******
في موسم الأعياد كانت الشاحنات تخرج من المركز وهي محملةٌ بقطرميزاتٍ محشوةٍ بقطعٍ دماغيةٍ تبرّع بها الذكور بكل كرم. وبعد اجتياز البوابة الحديدية الصدئة، تتجه كل شاحنةٍ إلى الجهات الأربعة، وتقطع الإشارات الحمراء، لتصل إلى الحاجز العسكري الذي في يتمركز في بداية الطريق. 

-        قف. إلى أين؟ سأل العسكري الواقف على الحاجز.
-        إلى الجهات الأربعة. أجاب سائق الشاحنة التي تحمل قطعاً من دماغي.
-        وماذا تحمل معك؟
-        قطرميزات!
-        قطرميزات؟
-        نعم قطرميزات محشوةٌ بقطعٍ دماغية ... تبرع بها بعض الذكور بكل كرم. قال سائق الشاحنة.
-        قطرميزات ... قطعٌ دماغية ... تبرع بها بعض الذكور بكل كرم! ... صرخ العسكري كي يُعْلِمَ الضابط المسؤول، فما كان من الأخير سوى أن حَرَّكَ يده ببطءٍ مشيراً إليهم بالسماح للشاحنة بالعبور. وهكذا عبرت الشاحنة التي تحمل قطعاً من دماغي لتصل إلى المحتاجين في مكانٍ ما وراء الحاجز في وطني.

*******
في الأسبوع الماضي دعيتُ إلى زيارة صديقٍ قديم يعيش مع عائلته الصغيرة والمتفاهمة. لم نلتقي منذ عقود. ولهذا فقد كانت في جعبتي كميةٌ هائلةٌ من الـ "القصص والحكايا". كان يبدي الكثير من التحفظات على ما أقول، لكنه كان مهتماً بالحديث عن مراكز التبرع بالدماغ.

-        هل تذكر يا صديقي، في ذلك الزمن الجميل، كيف كان توزيع القطرميزات يتم تحت شعار "قطرميزٌ لكل عائلة، وقطعةٌ دماغيةٌ في كل قطرميز" .
-        سقى الله تلك الأيام.
-        أذكر أن بعض الناس كان يعيد استعمال القطع الدماغية عن طريق حشرها في أدمغة الأطفال.
-        ومنهم من يستخدم القطرميزات للتبرك والاستشفاء.
-        صحيح! كانت عمتي تحتفظ بمجموعةٍ من القطرميزات للحصول على البركة والرزق.
-        لكن الحكومة منعت كل ذلك الآن.
-        ماذا تعني؟
-        كنتَ خارج البلاد حينها. لقد صدر قانونٌ منذ سنوات يسمح فقط باستخدام القطع الدماغية في الطبخ! وعملياً أصبح طبخ القطع الدماغية طقساً شعبياً يمارسه الجميع. في الحقيقة صار عندنا طبقٌ تقليديٌّ يُقَدَّمُ في المطاعم والفنادق والولائم.

اعتقدتُ بدايةً أن صديقي يمازحني، وأن هذه مجرد إشاعةٍ يتناقلها الناس. فمجتمعنا لن يرضى بتناول قطع دماغية تبرع بها البشر. ولكن حين دخلتْ زوجة صديقي أدركتُ كم كنتُ مخطئاً ...
-        أهلاً بضيفنا ... الغداء جاهز تفضلوا ... قطعٌ دماغيةٌ بشريةٌ مقليةٌ مع "بيضات الغنم"!

*******
ما يزال جسدي ممداً على السرير تحت الغطاء. فوقي مصباح دائري مسلط علي. ما تزال يدي اليسرى تستر عورتي، وقلبي يعمل بانتظام. أنا في المشفى. ونوبات الغثيان تجتاحني كل بضع دقائق. أريد أن أتجشأ. ها أنا ذا أتجشأ. وها أنا ذا أستذكر ما حدث في منزل صديقي. ماذا لو كانت تلك القطع الدماغية جزءاً من دماغي؟ ماذا لو افترضنا ذلك؟ في هذه الحالة إنها "أنا" ... أو هي جزءٌ منّي ... قطعٌ دماغيةٌ بشريةٌ مقليةٌ مع "بيضات الغنم" ... جزءٌ منّي "أنا" مستلقٍ هناك على المقلاة، أتخيل نفسي: تغطيني قطرات السمن المغلي، وتحيط بي خصيةٌ تم انتزاعها من خروف! يا للعار! غثيان. إسعاف. طبقي محوري. أصبح شريط الأحداث متماسكاً ومكتملاً. تبدو ذاكرتي نقيةً كالماء. بدأتُ أتذكر ما حصل.
فتحتُ عيني وإذ بي أرى الممرضة متوسطة الجمال وهي تحدق بي، وفي فمها علكة.
-        هل أنت جاهز.
-        كما تريدون!
ورويداً رويداً أصابتني موجةٌ من الضعف والتلاشي، واعْتَرَاني إحساسٌ غريب؛ أجزمُ أني لا أستطيع أن أسميه تفاؤلاً. في الحقيقة هو إحساسٌ يميل إلى التشاؤم. أو ربما هو تشاؤمٌ بكل ما في الكلمة من معنى. لكنه تشاؤمٌ ناضج. تشاؤمٌ مختلفٌ عن ذاك الذي يصيب المراهقين. تشاؤمٌ يدفعني إلى الاستمتاع بوقع الأقدام التي تقترب، إلى الترحيب بأولئك الذين سيدخلون من باب الغرفة، إلى الابتسام في وجه كل من سينظر إلي، إلى الاحتفاء بكل سكينٍ ستنغرس بي. دخل الجراح. كان يخفي وجهه، ولكن كان من السهل أن ألاحظ نظرة الاحتقار التي رمقني بها، قبل أن ينادي على الممرضة متوسطة الجمال. غبتُ عن الوعي، أو هكذا خُيِّلَ لي. قاموا بفتح جمجمتي، وفجأةً بدأتِ "القصص والحكايا" تخرج من رأسي. كانت "القصص والحكايا" ترقص وتتناول الـمُكَسّرات، ترفرف وتطير، أو تتأرجح على مصباح الغرفة، وتقف على كتف الجراح وتتبادل معه النّكات، أو تلعق الدم الذي يغطي المشهد، وأخرى تُكَنِّسُ "القصص والحكايا" التي رفضتِ الخروج. استغرق تفريغ "القصص والحكايا" ساعةً كاملةً تنفّس الجرّاح في نهايتها الصعداء ثم طلب الهاتف:
    -  سيدي ... نعم ... إنه جاهز ... حاضر ... حاضر ... سأسمح لهم بالدخول ... فوراً بالحال ... أطال الله بعمركم يا سيدي ... حفظكم الله ... وأعلى مراتبكم إلى العلا ...
أغلق الجراح السماعة، خلع القفازات وأنزل الكمامة، ثم طلب من الممرضة متوسطة الجمال أن تُدخلهم. كانت العلكة ما تزال في فمها. وخلال لحظات كانت غرفة العمليات مليئةً بذكورٍ يلبسون ثياباً خضراء، على صدورهم نياشين، وعلى أكتافهم طيورٌ ونجومٌ وسيوف، ترافقهم كائناتٌ بقبعاتٍ كبيرة، وفي يد كلٍّ منهم قطرميزٌ فارغ.