خبراء وكتلة شحمية[1]
القرارات المصيرية تؤخذ في اللحظات المصيرية. تنفسوا
الصعداء. أصرّتْ أم
عصام على الوقوف، بعد أن رفضتْ دعوات أبو عصام للجلوس. كان الاضطراب سيد الموقف وهما
يسترجعان الحوار الذي جرى قبيل دقائق:
-
أبو عصام ... ما رأيك؟
-
أعتقد أنه ممتاز ... ولكن رأيي ليس مهماً ... المهم أن نستمع إلى رأيهم
-
أرجو أن نخرج من هذا الاختبار العصيب بأقل الخسائر
-
أرجو ذلك يا أم عصام
-
وجهكَ شاحب
-
أنتِ أيضاً
-
لم أنمْ طيلة الليل ... أنا متوترة
-
لا أخفيكِ يا أم عصام ... لم أشعر بمثل هذا التوتر منذ زمن بعيد
-
ألومكَ يا أبو عصام
-
لأني قمتُ بدعوتهم على العشاء؟
-
أجل
-
يا أم عصام ... جاؤوا مؤخراً إلى هذه البلاد ... كما أننا لم نلتقي بهم منذ
سنين ... كنا جيراناً كما تعلمين
-
ولكن يا أبو عصام كان يمكنكَ أن تخترع حجةً ما وتتملص من هذه الدعوة
-
هذا ما حصل يا أم عصام ... تفاءلي بالخير، فمن يدري فقد نجتاز الاختبار
بنجاح
-
أبو عصام ... هل تعتقد أننا قادرون على ذلك؟
-
فليكن إيمانك بالله قوياً يا أم عصام
-
ونِعْم بالله ...
-
ومن ناحيةٍ أخرى فهم لا ذنب لهم
-
معك حق ... لا ذنب لهم يا أبو عصام ... (جرس الباب)
-
أم عصام ... استعدي ... يبدو ان ضيوفنا قد وصلوا ...
انطلق أبو عصام وهو يفرك يديه الباردتين باضطراب، كي
يفتح الباب. فقد وصل المدعوون على العشاء. الشاب الحلبي برفقة أخته الشابة
الحلبية. هما أبناء "أم عبدو" زوجة "أبو عبدو"، رحمهما الله.
تبادل الجمعُ التحيات والعبارات الودية، ثم مد أبو عصام
ذراعه داعياً الضيوف للدخول إلى غرفة الضيوف وابتسامةٌ وَجِلَةٌ ترتسم على وجهه. ودّعْنا
شهر رمضان الكريم منذ يومين، وها نحن نحتفلُ بعيد الفِطْرِ السعيد. بعد احتساء
القهوة نادتْ أم عصام من المطبخ لتعلن أن الطعام جاهز، فانتقل الجميع ليجلسوا إلى
الطاولة التي كانت تحمل ما لذَّ وطاب. كانت وليمةً عامرةً حاولت فيها أم عصام أن تُظْهِرَ
كل ما تعلمته في عالم المطبخ.
أومأ أبو عصام بيده في دعوةٍ للضيوف كي يباشروا طعامهم. ودون
مقدمات، غَمَسَ الشابُ الحلبي الجالس إلى زاوية المائدة، بجوار أخته الحلبية، مِلْعَقَتَهُ
في الصحن المتوضع قبالته. ثم رَفَعَ الملعقةَ ببطءٍ وقد امتلأتْ بكَثِيبٍ مُؤَنَّفٍ
من الطعام. أوْقَفَ الشابُ الحلبي المِلْعَقَةَ في منتصف المسافة التي تفصل بين
الصحن وفمه، ليتأمل باحترامٍ بالغٍ الطعامَ المحمول على الملعقة والبخار الذي كان
يتصاعد منه. ثم ما لبث أن أخذ فَمُهُ شكلَ حَلَقةٍ تامّةِ الاستدارة يخرجُ منها
تيارٌ من الهواء كي يُبَرِّدَ الطعام الحار. أبو عصام مولعٌ بالطعام الحار، وأم
عصام تعرف ذلك جيداً. وفي أقل من ثانية بدأتْ يد الشاب الحلبي التي تحمل الملعقة
بالتحرك بهدوءٍ وسَكِينَةٍ باتجاه فمه الذي بدا منبسطاً ونصف مفتوحٍ هذه المرة.
وبحركةٍ متماسكةٍ، تتصفُ بالمهارة والدقة والخبرة، انزلقتِ الملعقة في جوف الفم
الذي أطبق عليها بإحكام، مع انتباجٍ في الخدين، ووضوح في العروق التي تعبر صدغه
المتعرق الخالي من الشعر. "تساقط الشعر شائع عند شباب هذه الأيام". قال
أبو عصام في سره وهو يتحسس صلعته. اختفت الملعقة في فم الشاب الحلبي. لم يَعُدْ
يظهر منها سوى سُوَيْقَتُها البارزة من الفم، والمستندةُ برفقٍ على يده الواثقة. وبُعَيْدَ
لحظةٍ خَرَجَتِ الملعقة فارغةً وهي تلمع بلونها الفضي، ليبدأ فمُ الشاب الحلبي بالتحرك
ببطءٍ ماضغاً اللقمة المتشرّبة بالدسم واللحم. أعصابُ عائلة أبو عصام مشدودةٌ، وأفواههم
مشدوهةٌ تُتَمْتِمُ ما تحفظه من أدعيةٍ وأذكار. عيون الشاب الحلبي مغمضةٌ في جوٍّ
ثقيلٍ مُشْبَعٍ بالخرس. هو يمضغ. فجأةً توقّفَ عن المضغ. يبدو أنه بدأ بابتلاع
اللقمة. هذا واضح من ارتفاع وانخفاض "جوزة الحلق/تفاحة آدم" المتبارزة
من رقبته النحيفة المُزَيّنة بالعروق البارزة. اللقمةُ تتابع طريقها. تسيل ببطءٍ وإصرارٍ
نحو الأسفل. تتدحرجُ على النسيج اللحمي الدافئ والمنبسط. تسقطُ مهشمةً، ممضوغةً،
رطبةً، بلا رجعةٍ، في المعدة. ستمضي بعدها في رحلتها. إلى اللقاء.
هدووووووء
هسسسسسسس (هَمَسَ أبو عصام وهو يضعُ سبّابته بشكلٍ شاقوليٍ أمام فمه المزموم
بإحكام لضمان لفظ حرف "السين" في كلمة هسسسسسسس). فالشاب الحلبي يُرَكّز.
دعوه يركز. "هل أعجبكَ؟" سارعتْ أم عصام بالسؤال ... وفجأة وكزها أبو
عصام "لحظة يا امرأة انتظري قليلاً ... إنه يركّز" ... همس أبو عصام، في
حين تابَعَ الشاب الحلبي انغماسه في حالة التأمل الصامتة وكأنَّ شيئاً لم يَكُنْ.
للحلبيين فلسفةٌ خاصةٌ في تَذَوُّق الأطعمة، ومهارةٌ استثنائيةٌ في تصنيف المذاقات
والروائح والنكهات. قاموسهم المعرفي، في هذا المجال، قضيةٌ لا يمكن نكرانها أو إغفالها.
بلغ الاضطراب ذروته عند أم عصام وأبو عصام. أما الأولاد
فقد غطّوا أعينهم جَزَعاً. سيصدرُ الحُكْم خلال ثوان. قال أبو عصام في سِرِّه: "إنْ
لم يكن في الثانية القادمة ففي الثانية التي بعدها، أو في أسوأ الاحتمالات في
الثانية التي تليها".
فجأةً فتح الشاب الحلبي عينيه. لم ينبس بكلمةٍ. لم
يتنحنح. لم يتمايل. لم يسعل. لا أثر للمشاعر على وجهه الجامد. تحركت يده التي تقبض
على الملعقة نحو الأسفل. غمس الملعقة، مرةً أخرى، في الصحن المتوضع قبالته. ترى هل
يريد التأكد من أمرٍ ما؟ "ترى هل الطعام مالح؟" تسأل أم عصام في سِرِّها
... إنه يعيد الكَرّة، وها هي الملعقة تتجه نحو فمه، وتختفي في جوفه،تاركةً
سويقتها البارزة ... ها هي الملعقة تخرج من جديد فارغةً وهي تلمع بلونها الفضي،
ليبدأ الفم بعدها بالمضغ، والابتلاع. جوزة الحلق/تفاحة آدم ترتفع نحو الأعلى ثم
تنخفض نحو الأسفل، في تواترٍ فريد، في تناغم. "تناول الطعام عند الحلبيين
عبارةٌ عن ممارسةٍ موسيقية، عبارة عن موشح، أو مجموعةٍ من الموشحات، أو سلسلةٍ من
القدود". قال أبو عصام في سره وهو يتأمل عملية المضغ والابتلاع عند الضيف.
وبثباتٍ بدأتْ ملامحُ ابتسامةٍ خفيفةٍ ترتسم على وجه
الشاب الحلبي ... ورويداً رويداً بدأ عَرْضُ الابتسامة يزداد بتسارعٍ ملحوظٍ،
وبصورة لا إرادية بدأ أبو عصام وأم عصام برسم ابتسامةٍ على وجهيهما، لكن ابتسامة
الشاب الحلبي توقفتْ فجأةً في وسط المسافة قبل أن تتحول إلى ابتسامةٍ كاملة! فجأة
صار وجه أبو عصام شاحباً. في حين أخذت أم عصام نفساً عميقاً مع غصة واضحة وقلقة.
التفتَ الشاب الحلبي إلى الشابة الحلبية وقال: عزيزتي ما رأيك أن تُجَرِّبي؟ نظرتِ
الشابة الحلبية بثباتٍ واضحٍ، هزّتْ رأسها، ثم تناولتْ الملعقة لتعيد الأداء الذي
قام به الشاب الحلبي بحذافيره. هي تمضغ بهدوء. عيناها مغمضتان. كتلةٌ شحميةٌ ثخينةٌ
تبرز من تحت ذقن الشابة الحلبية وتتكاملُ مع كتلتها الجسدية الممتلئة والمليئة
بالمنحنيات. ومن الواضح أن المضغ يؤدي إلى اهتزاز تلك الكتلة الهائلة، وبشكلٍ متناغمٍ
ومتماوجٍ مع حركة الفم وتقلص العضلات والتنفس. طبعاً كانت هذه الأفكار تجول في رأس
أبو عصام الذي تلقّى، ودون سابق إنذار، ضربةً موفقةً من مِرْفَقِ أم عصام الأيمن،
مع دعسةٍ لئيمةٍ على قدمه اليسرى. إذ يبدو أن أم عصام قد استطاعتْ، بحكم إتقانها
للحاسة السادسة، أن تقرأ أفكار زوجها المسكين. كاد أبو عصام أن يصرخ، إلا أنه كَبَتَ
ألمه مغمضاً عينيه، ومحاولاً توجيه أفكاره ليركز على الطعام الذي سيتم تقييمه خلال
لحظات. وفي هذه الأثناء، توقفتِ الشابة الحلبية عن المضغ. وبدأتْ تبتلع اللقمة. بهدوء.
بمقدارٍ عالٍ من التأني. بخليطٍ من الرفق والحنان والحزم. من الصعب متابعة مسار
اللقمة ضمن رقبتها البضة والممتلئة والتي تبدو للمراقب وكأنها غير موجودة: وكأن رأس
الشابة الحلبية مستمرٌ مع جسدها دون حاجةٍ إلى تلك المسافة الفاصلة التي تسمى بالرقبة؛
لوهلةٍ يمكن القول أن الرقبة عبارةٌ عن عضوٍ زائد عن الحاجة! فتحتِ الشابة الحلبية
عينيها، وسارعتْ بالنظر إلى الشاب الحلبي. هزَّ الاثنان رأسيهما بهدوء وكأنهما قد
توافقا على فكرةٍ معينة. "لدى الحلبيين قدرةٌ هائلةٌ على تراود وتبادل
الأفكار عن بعد خاصة إن تعلقت تلك الأفكار بقضايا المطبخ. أعتقد أن السبب وراثي".
قال أبو عصام في نفسه، وهو يهز رأسه.
-
ألا يُذَكِّرُكِ الطعم عموماً بطبخنا حلب؟
-
أتفق معك ... هناك تشابهٌ لا بأس به
-
وماذا عن كمية الدسم؟
-
أعتقد أنه أشبه بطبخ السيدة ازدهار ... هل تذْكُرُها؟
-
طبعاً. لا يمكن أن أنسى طعم الكبة بالسماقية التي تعدها في المناسبات
تبع ذلك انفراجٌ في أسارير الضيفين بعد لحظاتٍ صعبةٍ من
التركيز المهيب ... وتُوِّجَ ذلك بابتسامةٍ حقيقيةٍ وكاملةٍ على وجه الشاب الحلبي
والشابة الحلبية.
-
اسمحي لي يا أختي أم عصام أن أنطق بالحكم بالنيابة عن كِلَيْنا
-
تفضل يا أخي
-
سلمتْ يداكِ يا أم عصام ... سلمتْ يداكِ ... الطعام مُتْقَنٌ ... فيه
إشاراتٌ واضحة لنَفَس المطبخ الحلبي وخاصة طبخ السيدة ازدهار ... توازن السمن
والدسم ملحوظ ... هناك انسجامٌ تامٌ بين المرق وباقي المكونات ... ومن الواضح أن
الطعام مطبوخٌ بتقنيةٍ عالية ... كمية الملح والبهارات متوازنة ... أما الطعم فهو
غير اعتباطيٍ على الإطلاق ... طعمٌ مدروسٌ ... يتلاعب في جوف الفم وينزلق على
اللثة وحواف اللسان، ثم يهرول في الحلق، ويغرغر في الحشا، ليمنح المرء مذاقاً
عميقاً مُحدباً مع لمساتٍ مُقعرة ضاربةٍ على الاخضرار ... لا يسعني في هذا المقام
سوى أن أسجل إعجابي ... وعليه أُوَقِّعْ ...
[1] هذا عنوان رواية من تأليف الروائي الراحل عُبيدة
قرقناوي (ت. ٢٠١٢). نشرت الرواية عام 2005 وحصلت على جائزة الإبداع الثقافي. النص
مأخوذ مع بعض التصرف من المقطع الأخير من الرواية.