لعنة التراث - مقالٌ منشورٌ في ملحق تيارات في صحيفة الحياة



(نابليون قبالة أبي الهول، للرسام جان ليون جيروم)

انكبَّ الاشتغال الفكري الناطق بالعربية، منذ بدايات القرن العشرين، على تحليل الأزمات التي تضجُّ بها منطقتنا، ما أدى إلى امتلاء المكتبة العربية بأعمالٍ تناقش هذه القضايا، ولعلّ أبرزها تلك التي تصدَّت لدراسة المواقف من التراث. إلا أن هذا الاشتغال الفكري قلّما امتلك الجرأة والنية والأدوات لتجاوز سطحية التحليل والنفاذ إلى الجذور، ما قد يُعَلِّلُ بقاء معظم النقاشات التراثية تراوح في المكان طيلة قرنٍ من الزمن.
لقد كانت حملة نابليون على مصر واحدةً من الأحداث الرضّية التي تم الارتطام فيها مع الحداثة، لتسهم في إيقاظ الوعي بانكسار الذات أمام "الغرب". وقد دخلتْ منطقة الشرق الأوسط على إثْر ذلك في حلقةٍ مفرغةٍ من جلْد الذات، بعد أن بدأتْ تَعِي أن هوّةً واسعةً باتتْ تفصلها عن الآخر. ومنذ تلك اللحظة الفارقة حَلَّتْ "لعنة التراث" علينا كامتدادٍ لـ "لعنة الحداثة". فقد تم تنصيب التراث كوثن، ليتلو ذلك استسلامٌ وتمجيدٌ للتراث، أو هروبٌ منه وازدراءٌ له. وهكذا برز ارتهانٌ إلى مزيجٍ من المواقف المتناقضة والمستقطبة التي تتفاعل في ذات المشهد الأليم، يمكن تلخيصها في موقفين رئيسيين: "تطرف التبجيل" و"تطرف التحقير".
في "تطرف التبجيل"، الذي يتشبَّثُ به معظم التقليديين، يُرْفَعُ التراث/الوثن إلى مصافِّ الآلهة التي لا تجوز مساءلتها. هنا يتحول التراث من كونه جزءاً من ماضينا "نحن"، إلى كونه الجزء الوحيد الباقي لنا "نحن". فيغدو التراث مكافئاً للذات، لدرجةٍ غدتْ معها الذات عديمة القيمة دونه – إذ لا وجود لها (ولا وجود لنا) خارج نطاق التراث، وليس لدى الذات سوى هذا "التراث" لتؤكد من خلاله، ومن خلاله فقط، وجودها. لا تَكْمُنُ الآفة الأساسية هنا في استلهام الماضي، بل في تجميد وقَمْع الزمن، واعتبار الماضي المجيد، الذي تَمَّتْ كتابته وفق قواعد أيديولوجية، نقطةً مرجعيةً ومطلقةً، مع محاولةٍ حثيثةٍ لبتر الحاضر والمستقبل وإعادة تدشين الماضي عوضاً عنهما.
وعلى النقيض ظهر "تطرف التحقير" الذي يروِّجُ له حشدٌ من المثقفين الحداثيين في محاولةٍ ساذجةٍ للتماهي والتماثل الظاهري مع "الآخر". لا يكتفي هذا التيار بتحطيم الوثن، بل يسعى إلى استئصال التراث الذي يُنْظَرُ إليه بازدراءٍ كونه مصدر التخلف الذي نعيش. يؤدي ذلك إلى حذف جزءٍ من ماضينا "نحن"، وخلق فجوةٍ في الزمن، وإحداث رضٍّ في استمرارية التاريخ النفسي للجماعات البشرية في المنطقة.
طبعاً هناك توجهٌ ثالثٌ يعمل على السير في منتصف الطريق، مُدّعياً الوَسَطِيّة والأخذَ من الحداثة بما لا يتعارض مع القيم التراثية الأصيلة. لكن يمكن القول أن هذا التوجه الثالث هو الأكثر نِفَاقاً (رغم حسن النوايا) كونه يعيد إنتاج الواقع بصورة مشوهة، عبر خلطه المتعمد بين مفاهيم مختلفة كالتراث والحداثة، وتشويهه المقصود للزمن الماضي والحاضر والمستقبل.
وعملياً تتشابه المواقف السابقة في إهمالها واغتيالها لمكامن الإبداع الذاتي، وفي عدم قدرتها على الخلاص من "لعنة التراث". وفي معظم هذه الحالات تتم مقاربة التراث وكأنه كتلةٌ صامتةٌ وثابتةٌ وأبدية، في "صورته النمطية"، في صيغته الأرثوذوكسية السِّرَاطِيّة الـمُؤَدْلَجَة والمتفق عليها، تلك التي تشكلتْ عبر تراكمٍ من المصالح والمرويات، وبمباركة الخطاب السلطوي السائد والمنتصر الذي دوّن هذا "التراث" كجزء من الماضي الوردي والتليد. تغدو هذه "الصورة النمطية" أكثر تعقيداً حين تتقاطع مع الحضور المتوهم للمقدّس في كافة مفاصل التراث، وفي النزوع المؤدلج للتأريخ (أي علم كتابة التاريخ) في المنطقة، ما يؤدي إلى حذف البعد الدنيوي في تشكل التراث: وعليه تتحول الشخصيات التاريخية إلى رموزٍ دينية لا تخطئ، والمعارك إلى ملاحم ذات بُعْدٍ ميثولوجي، وسفك الدم إلى عنفٍ مقدسٍ وتقربٍ من الله، والأعراف والعادات الاجتماعية المحلية إلى قوانين مقدسةٍ ومنزلة وذات أثرٍ كَوْني.
لقد أدّى التمسك بهذه "الصورة النمطية" على المستوى الفكري والتربوي إلى خطأٍ منهجيٍّ قاتلٍ، وإلى إخفاء مكامن الغنى الحقيقي في التراث، والسكوت عن أسباب النهضة التي رافقتْ المراحل الأولى من تشكل ثقافة المنطقة في القرون الهجرية الأربعة الأولى. فقد شهدت تلك المراحل مستوىً عالياً من التبادل والانزياح والتفاعل الثقافي المبكر بين المسلمين وبين ما يحيط بهم من ثقافاتٍ عريقةٍ استوطنت العراق وبلاد الشام ومصر، دون أن يترافق ذلك مع شعورٍ عميمٍ بالدونية أو الاستعلاء أو تقوقعٍ على الذات في مواجهة "الآخر".
لا بدَّ إذن من إعادة البعد الزمني الدنيوي إلى التراث، وتخليصه مما أضيف إليه من بهرجاتٍ وقداسةٍ، وإخضاعه إلى تفكيكٍ منهجيٍّ علميٍّ وتاريخيٍّ بعيداً عن الحقن الأيديولوجي الخارق للطبيعة، بخاصة على مستوى السياسة والقانون. ولا بد أن يسعى الاشتغال الفكري إلى استقصاء كثيرٍ من القضايا المسكوت عنها فيما يتعلق بالتراث (مثال: إن "الصورة النمطية" للتراث ليست سوى حصيلةٍ للتزاوج البطيء والمتأخر بين الفكر الديني والسلطات الحاكمة بعد القرن الخامس/السادس الهجري، مع تراكماتٍ في العهد العثماني، وإحياءٍ انتقائيٍّ وأيديولوجيٍّ مع المد العروبي القومي).
لكن من المهم أيضاً الابتعاد عن التَّعَسْكُر الـمُبَسَّط بين تطرف التبجيل والماضوية، أو التحقير والقطيعة، أو الوسطية والإصلاح. فضرورةُ أخذ موقفٍ من التراث، وكلُّ النقاش الفكري المرتبط بذلك، ليس سوى أزمةٍ ثانويةٍ تنبع من السياق الثقافي العام في المنطقة. وربما من الأجْدى، بدلاً من حَصْر الخيارات في المواقف المذكورة آنفاً، طرحُ أسئلةٍ من قبيل: لماذا يجب أصلاً أن نأخذ موقفاً من التراث؟ لماذا يُسْمَحُ أصلاً للماضي أن يؤثر في حاضر ومستقبل المنطقة إلى هذا الحد؟ لماذا يُسْمَحُ للماضي أن يقرر ويفرز ويُقْصِي ويتدخل في تحديد أنظمة الحكم والسياسة والاقتصاد والقانون؟ أسئلةٌ إشكاليةٌ يجب عرضها بجرأةٍ وروحٍ علميةٍ على مشرحة الإجابة، إنْ أردنا خلاصاً ما من "لعنة التراث" التي ما فتئت تلاحقنا. 

الفكر كضحية للنخب التقليدية: من مواقف الرفض إلى مهادنة الحداثة في الشرق الأوسط[1]



صورةٌ متخيلةٌ لرفاعة رافع الطهطاوي بالزيِّ الإفرنجي بريشة الفنان محمد العيسوي (المصدر محاضرةٌ ألقيت في مكتبة الإسكندرية في مصر، للباحث صبري أبو علم بعنوان "رفاعة الطهطاوي .. رؤية من قريب")

لقراءة المقال من موقع الصحيفة يرجى الضغط هنا

بات من التقليدي النظر إلى حملة نابليون على مصر، وما رافقها من علماء وباحثين، كحدثٍ مهمٍّ أسَّسَ للصدمة الثقافية التي عاشها "الشرق" إزاء حداثة "الغرب". لم يكن هذا اللقاء بكلِّ تأكيدٍ الأول بين ثقافتين عملاقتين، فكُتُبُ التاريخ ملأى بلقاءات الرَّحَّالة والعلماء والبعثات الدبلوماسية والقوافل التجارية والحملات العسكرية. لكن ما جعل صدمة اللقاء مع الحملة الفرنسية فريدةً من نوعها هو دورها في التأسيس لوعيٍ ذاتيٍّ بالواقع المتخلف للمنطقة بالمقارنة مع "الآخر"؛ وعيٌ هزَّ الساحة الفكرية الراكدة، واستدعى سلسلةً من ردود الأفعال والمواقف تجاه الحداثة في مرحلةٍ سميت بـ "اليقظة العربية".
في هذا السياق عَمَدَت "النخب التقليدية" بأنماطها الدينية والحاكمة وغيرها إلى اتخاذ مواقف مُهَادِنة للحداثة: هدنةٌ مَرْحَلِيّةٌ تسعى إلى التغطية على مواقف رفض الحداثة التي كانت تتنامى نتيجةً للوعي الذاتي بواقع المنطقة. لقد اعترفتْ هذه المواقف التي رافقت "اليقظة العربية"، وبنوعٍ من التسليم، بفارقٍ شاسعٍ على مستوى القوة المادية والتَّحَضُّر والأخلاق العامة، وعملتْ بالتالي على التنبيه إلى حالة التخلف والضعف السائدة. ويبدو أن مثل هذه المواقف الـمُهَادِنَة ما كان لها أن تكون لولا وجود مستوىً من النباهة لدى بعض رجالات "اليقظة العربية"، ورعايةٍ تنويريةٍ، وإنْ بالحد الأدنى، من نخبٍ فكريةٍ وافدةٍ، أو من "نخبٍ حاكمةٍ" ذات نَفَسٍ إصلاحيٍّ (نسبياً).
وكمثال بارزٍ على شريحةٍ من رجالات اليقظة العربية المحسوبين على "النخب الدينية" تُمْكِنُ الإشارة إلى الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي (ت. 1873م)؛ الـمُرَافِق الديني للبعثة المصرية التي توجّهتْ إلى فرنسا عام 1825م. فقد ترك الطهطاوي، وهو الشيخ الأزهري الذي عاش في عقده الثالث الصدمة الثقافية في أوروبا، ترك كتاباً بعنوان: "تخليص الإبريز في تلخيص باريز" يوثِّقُ فيه جانباً من مشاهداته اليومية. يشكِّل الكتاب نموذجاً لمواقف الـمُهَادَنَة التي أبْدَاها عالمٌ إسلاميٌّ رسميٌّ مع الحداثة، بعد أن استثمر مناخ الانفتاح النسببي في مصر في ظلِّ حكم محمد علي باشا (ت. 1849م). وفي صورةٍ مماثلةٍ يمكن ذكر عدة مناطق كانت قد خرجتْ عن سيطرة الدولة العثمانية كالمغرب وتونس (وربما كانت الأخيرة من أكثر الأمثلة نضجاً في المنطقة الناطقة بالعربية).
أما في المناطق التابعة للسلطنة العثمانية (كما في بلاد الشام) فلم تكن مواقف المهادنة تجاه الحداثة متأثرةً بمواقف السلطة المركزية، وهذا ما أعطى دوراً مهماً للاحتكاك المباشر بين الجماعات المحلية وبين الأفكار الحداثية (مثلاً عبر مدارس الإرساليات الأجنبية التي انتشرت على الضفة الشرقية للبحر المتوسط). لا يعني ما سبق أن "النخب الحاكمة" في الدولة العثمانية كانتْ بعيدةً عن مواقف المهادنة. فرغم الفساد المتغلغل في مفاصل الدولة سعى بعض الإصلاحيين في القرن التاسع عشر، كمصطفى رشيد باشا (ت. 1858م) ومحمد أمين علي باشا (ت. 1871م)، إلى إطلاق عملية تغييرٍ شاملة. وقد تلاقتْ هذه المساعي، للمفارقة، مع ضغوطاتٍ كانتْ تمارسها القوى الأجنبية عبر قناصلها الذين أخذوا على عاتقهم "حماية" مصالح وسلامة بعض الأقلّيات. وهكذا فقد تم البدء بتحديث التشريعات والقوانين الناظمة للسلطنة، فكان فرمان التنظيمات (خطي شريف غولهانه) الذي انطلق عام 1839م في عهد السلطان محمود الثاني (ت. 1839م)، وفرمان إصلاحات (خطي شريف همايون) عام 1856م في عهد السلطان عبد المجيد الأول (ت. 1861م).
لم يطرأ في هذه الأثناء تغيرٌ مهمٌ في الواقع الاجتماعي/الثقافي/الاقتصادي سواء في المناطق التي خرجتْ أو بقيتْ تابعةً للسلطنة العثمانية. فباستثناء صعود شريحةٍ جديدةٍ ارتبطتْ بالقوى الأجنبية على مستوى الوكالات التجارية والترجمة، بقيتْ "النخب ذات الثروة" في هذه المرحلة امتداداً "للنخب الحاكمة والدينية"، أو "للنخب الأهلية" التقليدية كزعماء العشائر والوجاهات العائلية والمخاتير. وبقيت المنظومة الاجتماعية والاقتصادية تتبع أساساً الأعراف والتقاليد المحلية والريعية.
وبالتوازي، ومنذ أواسط/أواخر القرن التاسع عشر، بدأتْ طبقةٌ جديدةٌ من "النخب الفكرية" بالتشكُّل في المنطقة، مستفيدةً من الحراك الفكري في "الغرب"، ومن الانفتاح الذي كان يفرض نفسه تحت رعاية بعض "النخب الحاكمة". وقد أسست "النخب الفكرية" حالةً مختلفةً بالقياس إلى المنظومة القائمة التي اعتادتْ مقاربة الأشياء والمفاهيم وِفْقَ أعراف تقليدية أو رُؤىً مُقَدَّسَة. كما أنها أطلقتْ، بعد قرونٍ من احتكار الساحة الفكرية من قِبَلِ "النخب الدينية"، منافسةً مع الفقهاء والوُعَّاظ التقليديين حول من سيمتلك "سيادة" العلم/المعرفة، وحول تعريف ومحتوى وغاية العلم/المعرفة.
ضمّتْ هذه "النخب الفكرية" في صفوفها مزيجاً من الرموز الدينية الإصلاحية (كعبد الرحمن الكواكبي، حسن العطار، علي عبد الرازق، وغيرهم)، والرموز غير الدينية (كبطرس البستاني، فرح أنطون، شبلي شميل، وساطع الحصري، وغيرهم). وقد تبنَّتْ توجهاتٍ ليبراليةً أو قوميةً أو تقليديةً إصلاحية، ما أدّى إلى مواجهاتٍ بين مختلف التيارات الفكرية كانت المناظرة بين محمد عبده (ت. 1905م) وفرح أنطون (ت. 1922م) مثالاً صارخاً عنها حسب الباحث محمد الحداد. وتمكن هنا هنا العودة إلى أعمال الراحلين رئيف الخوري وهشام شرابي كآثارٍ كلاسيكيّةٍ تُؤَرِّخُ للأفكار التي حملها رجالات تلك المرحلة.
أفْضَى مجموع هذه التطورات الناجمة عن المواقف الـمُهادِنَة للحداثة إلى إغناء الساحة الفكرية، ونموّ الدوافع والعواطف القومية، وتدشين وعيٍ ذاتيٍّ بالهوية (أو الهويات)، مع تطلعاتٍ طموحةٍ ومتناقضةٍ وغائمةٍ نحو نهوضٍ ما. وترافق ذلك مع ثورةٍ واضحة في مجال التربية والتعليم (حيث بدأ هذا المجال لأول مرةٍ مُتاحاً لشرائحَ واسعةٍ من الناس). فتم تدشين التعليم الرسمي (وفيما بعد الإلزامي) بعد فَصْلِهِ نسبياً عن الدوائر الدينية؛ كما في إنشاء مدرسة المترجمين (مدرسة الأَلْسُن) في القاهرة عام 1835م حيث أشرف عليها الطهطاوي، أو في إنشاء المدرسة الصادقية في تونس عام 1875م من قِبَل خير الدين التونسي (ت. 1890م) في عهد الصادق باي (ت. 1882م). وأُدْخِلَتْ تعديلاتٌ إلى المناهج الدراسية شملت حتى معاهد الفكر الديني التقليدية كما في محاولات محمد عبده في الأزهر، والطاهر بين عاشور في الزيتونة. ومع مرور الزمن تم تدعيم هذه "النخب الفكرية" بأجيالٍ من خرّيجي مدارس القاهرة واستنبول وتونس، أو تحت رعاية الإرساليات الأجنبية كجامعة القديس يوسف والكلية البروتستانتية السورية (الجامعة الأمريكية في بيروت حالياً).
لكن يجب التأكيد على أن هذه التطورات لم تكن في كل الحالات تعبيراً عن تصالحٍ مُخْلِصٍ مع حداثة "الغرب"، بقدر ما كانتْ محاولةً للوصول إلى حالةٍ من النِّدِّيّة والتنافسية معه. "فالنخب الحاكمة" الإصلاحية وغيرها كانت مهووسةً بعُصاب السلطة، ومحصورةً ضمن بُنىً استبداديةٍ عتيقةٍ ومتحجّرة. كما أن المهادنة التي أظهرها هؤلاء الحُكَّام كانت نتيجةً لشعورٍ دفينٍ بالدُّونية تجاه التطور الـمُبْهِر الذي حققه "الآخر"، ونتيجةً لاندفاعٍ نحو اللَّحاق بهذا "الآخر" بقَصْدِ التغلُّب عليه. وهذا ما قد يفسر إهمال هذه "النخب الحاكمة" للأسس التي يجب أن يبنى عليها أي تغييرٍ حداثيٍّ شاملٍ ومُسْتَدَام على المستوى القانوني والاجتماعي والثقافي والسياسي، وانشغالها بدلاً من ذلك بإحداث تغييراتٍ جزئيةٍ ومحدودةٍ في مجالات تصنيع السلاح والتحديث الإداري. وقد تقاطع ما سبق مع الغياب المزمن في البنى الدستورية والقوانين، وتغييب الحريات والحقوق الأساسية على مستوى الممارسة والنظرية. ونتيجةً لهذا الوضع فقد غدا أيُّ إصلاحٍ سلطويٍّ قضيةً تابعةً لمزاجية الحاكم حتى على مستوى التربية والتعليم (كما في نَفْي الطهطاوي إلى السودان عام 1850م في عهد الخديوي عباس (ت. 1854م)). وعلى المستوى العملي فقد فشلتْ هذه التغيرات الجزئية في الوصول إلى النتائج المرجوة (حتى لو افترضنا حسن النية عند القائمين على عملية الإصلاح). ففي الدولة العثمانية مثلاً، وبسبب ضعف مركزية الدولة وهزال سيطرتها على الولايات والأطراف البعيدة، وبسبب استفحال الأعراف المحلية والتقليدية كلما ابتعدنا عن المركز، لم يتسنّى للإصلاحات أن تثمر. فاقتصر أثر "التنظيمات" العثمانية على استنبول وبعض المراكز المدينية، دون أثرٍ عميقٍ ومستمرٍ على المناطق البعيدة عن السلطة المركزية (كما في معظم مناطق بلاد الشام والجزيرة العربية والبلقان).
ولم تكن "النخب الدينية" (حتى الإصلاحية منها) في حالٍ أفضل من حال "النخب الحاكمة". صحيحٌ أن بعض رجال الدين قد أبْدَى قدراً من المرونة، ولم يرفض رفضاً مطلقاً تلك الحداثة (في صورةٍ موقتةٍ على الأقل)، إلا أن المواقف كانت مشبعةً إجمالاً بمركزية الذات؛ تلك المركزية المتقوقعة على نرجسية الأنا، والمؤمنة بامتلاك الحقيقة الـمُطْلَقَة، والتي تعتبر كل ما أنجزته البشرية، باختلاف الأزمنة والأمكنة، امتداداً لتراثنا ولما هو موجودٌ عندنا "نحن". يضاف إلى ذلك أن غياب الكهنوت الإسلامي جعل مواقف المهادنة هَشَّةً، ومنعها من التحقُّق في صورةٍ شاملةٍ ومؤسساتية. فعلى مستوى الفكر الديني الرسمي برزتْ حالةٌ صارخةٌ من التباين واللاتجانس في هذه المواقف، حيث قاومتْ شرائح كثيرةٌ من الفقهاء والوعاظ أيَّ محاولاتٍ للتطويع الحداثي. أما الفكر الديني الشعبي وغير الرسمي والخارج عن السيطرة المباشرة للبلاط فقد بقي في حالةٍ من الرتابة والانغلاق، وبعيداً عن ضوضاء المجابهة مع الحداثة. وعليه لم يتشكَّل إصلاحٌ حقيقيٌّ وشاملٌ في الفكر الديني، بل محاولاتٌ سطحيةٌ ذات بعدٍ فرديٍّ وأثرٍ محدودٍ في أحسن الأحوال.
ترافقتْ هذه المواقف مع استمرارية "النخب الأهلية" في سيطرتها على مجتمعاتها المحلية، وبروز قضايا الانتماء إلى العشيرة والقبيلة والمنطقة والعائلة كعواملَ مُنَاقِضَةٍ ومُعيقَةٍ للانتماء إلى "الدولة" التي كانت إحدى أهم نتائج الحداثة (وعملياً كان "مفهوم الدولة" واحداً من العوامل التي أجَّجَتْ هذه الانتماءات الضيقة). ومع أن أصحاب الثروة ورؤوس الأموال -وهم شريحةٌ متماهيةٌ مع "النخب الأهلية"- كانوا أكثر براغماتيةً في تعاملهم مع "الآخر" (نزولاً عند منطق التجارة الباحثة عن الربح)، إلا أنهم لم يكونوا قادرين على ما يبدو على التَّحَرُّر وتشكيل فئةٍ برجوازيةٍ مستقلةٍ على غرار ما حدث في الغرب الأوروبي، وهذا ما أدّى إلى حرمان الحراك الحداثي في المنطقة من أساساته الاقتصادية-البرجوازية (بالمعنى المديني، وليس بالمعنى الرأسمالي الغربي بالضرورة).
ومع أن بروز "النخب الفكرية" في المنطقة كان باكورةً ليقظةٍ محتملة، إلا أن الطبيعة الفصامية والـمُؤَدْلَجَة لهذه "النخب الفكرية"، ومُيُولها الشوفينية، وتأثرها السَّطحي والحماسي بالفكر الغربي في صورته الجاهزة، ومزجها بين الفكر وبين الاصطفاف الحزبي والفئوي الضيق، كانتْ من الأسباب التي منعتها من التحول إلى نخبٍ من "المفكرين الأحرار"، ومنعتها من التعامل مع الأحداث بواقعيةٍ مُتَحَرِّرَةٍ من أَسْرِ الأيديولوجيات المحددة سلفاً والمتصارعة. أدى هذا الواقع إلى إبقاء آليات ومناهج التغيير في مرحلة "اليقظة العربية" مقتصرةً على "النخب الفكرية"، دون أن يُتَاحَ لهذه النخب (أو تُتِيحَ لنفسها) الوصول إلى قطاعاتٍ عريضةٍ من المجتمعات التي كانت مؤلفةً من جماعاتٍ أهليةٍ محليةٍ ومنفصلةٍ، ومشحونةً بأفكارٍ متوراثةٍ مغلوطةٍ أو غير دقيقةٍ عن بعضها. أعاقَ كلُّ ذلك ترجمة المفاهيم والأفكار على المستوى العملي، وجعلها غير مؤثرةٍ في صورةٍ عضويةٍ وصميمية. وتفاقم هذا الوضع مع التراكم الهائل للمشاكل الاجتماعية والاقتصادية، الذاتية والارتكاسية، ما خلق حلقةً مُفْرَغَةً: من انتشار الفقر والأمية والجهل، والتقوقع على الهويات المحلية والضيقة، ووجود هوّةٍ تُبَاعِدُ بين "النخب الفكرية" الهشة وبين قطاعاتٍ واسعةٍ من الشعوب (وفي المنطقة الناطقة بالعربية يجب الانتباه إلى الاختلاف الواسع بين "اللغة العربية" المكتوبة والمنطوقة رسمياً من قِبَل "النخب الفكرية"، وبين "اللغات العربية" المحكية والدارجة. ولا يخفى دور هذا الاختلاف الواسع في خلق حالةٍ لا واعيةٍ من الافتراق).
وغالباً ما نرى "النخب الفكرية" في المنطقة وقد وقعتْ في فخِّ الدعوة إلى إصلاحٍ سطحيٍّ وغير جذري، أو في فخِّ التماثل الاستسلامي مع "الغرب"؛ وفي الحالتين لم تستطع هذه "النخب الفكرية" فرض نفسها كلاعبٍ أساسيٍّ وقادرٍ على إحداثٍ تغييرٍ إيجابيٍّ حقيقيٍّ في المنطقة. فقد أدّت الدعوة إلى إصلاحٍ سطحيٍّ إلى تفريغ "النخب الفكرية" من دورها المزعوم، وتحويلها إلى فئةٍ طُفَيْلِيّةٍ تمتهن النفاق الفكري، وتبحث عن موقعٍ إرضائيٍّ في المجتمعات التي تعيش فيها. وعلى الطرف النقيض فقد اغتالت الصفةُ الاتباعيةُ العمياءُ الروحَ الإبداعيةَ التي يفترض وجودها في "النخب الفكرية"، ووضعتها في موقعٍ قطبيٍ عدائيٍّ ومعاكسٍ "للنخب الدينية" (بأنماطها التقليدية، وحتى الإصلاحية). ونتيجةً لذلك فقد تحولتْ قضايا الحداثة والفكر الحداثي إلى محورٍ وضحيةٍ للصراع والجدل القائم بين هذه الأقطاب.
إجمالاً يمكن النظر إلى المواقف الـمُهَادِنَة للحداثة في الشرق الأوسط (وإلى مواقف المنطقة إجمالاً خلال القرون القليلة الماضية) كشبكةٍ معقدةٍ من ردود الأفعال التي لم تستطع إحداث تغييراتٍ حقيقية ومستدامة، بخاصة وأن المنطقة قد أخذت موقعاً على هامش الحداثة: كمتفرجٍ مُنْفَعِلٍ على قضيةٍ لا دور له في صناعتها أو إنجازها أو تطويرها – طبعاً باستثناء استهلاكها.
لا بُدَّ أيضاً من الإشارة إلى فارقٍ جوهريٍّ بين المهادنة التي مارستها "النخب التقليدية" في ما بات يعرف باسم "العالم المتقدم" أو "الغرب"، وبين تلك المهادنة التي مارستها نظيراتها في "الشرق الأوسط". ففي الحالتين تأتي المهادنة على شكل ردود أفعالٍ تمارسها "النخب التقليدية"، التي اعتادتْ احتكار القوة، تجاه المتغيرات المحيطة. وفي الحالتين تأتي المهادنة كضرورةٍ محتومةٍ لا مَفَرَّ منها. لكن في حين هَادَنَت "النخب التقليدية" في الغرب كنتيجةٍ لأمرٍ واقعٍ تتم صناعته داخلياً وذاتياً مع حضورٍ قويٍّ "للنخب الفكرية"، هَادَنَت "النخب التقليدية" في الشرق الأوسط كنتيجةٍ لأمرٍ واقعٍ تتم فبركته في شكلٍ مستوردٍ من "الخارج" أو "الآخر" أو "الأجنبي"، مع غيابٍ شبه كاملٍ "للنخب الفكرية". ولهذا تبرز في منطقة الشرق الأوسط، في أحسن الأحوال، حالةٌ من المهادنة المشوهة والمجتزأة والمتأخرة جداً مع الحداثة: مهادنةٌ لم تأتي أصلاً كنتيجةٍ لنـيّةٍ في تحقيقها، أو كنتيجةٍ لمقاربةٍ مركزيةٍ أو شاملةٍ أو رؤيةٍ تستشرف المستقبل، بل كانتْ تتبع، في صورةٍ تاليةٍ ولاحقة، الضغوط والظروف والتبدلات التي يفرضها الوضع العام الخارجي، أو إملاء القوى التي عَمَدَتْ إلى تصدير الحداثة (كما كان جَلِـيّاً قبيل وأثناء المرحلة الاستعمارية). وعليه فالمواقف الـمُهادِنَة للحداثة في منطقتنا لم تكن سوى نوعٍ من الإذعان (القَسْري غالباً) لأمرٍ واقعٍ يُفْرَضُ عليها (نذكر على سبيل المثال الفتاوى التي حرّمت المطبعة والراديو والتلفزيون والسيارة والطائرة والوصول إلى القمر، ثم إباحتْ كل ما سبق اعتماداً على ذات الأدوات المنهجية في الفكر الديني!).
أخيراً يجب التأكيد على أن مواقف الـمُهَادَنَة، حتى في المجتمعات المتقدمة، لم تكن تصالحاً مع الحداثة، بل كانتْ هدنةً موقتةً تتبع طموحات بعض الأشخاص أو التجمعات السياسية والتوجهات الأيديولوجية، أو قطاعاتٍ من "النخب التقليدية" التي رأتْ في التغيير الحداثي (أو في مهادنته) مصلحةً لها، وفرصةً سانحةً للتخلّص من هَيْمَنَةِ قطاعاتٍ أخرى من "النخب التقليدية" المنافسة. وربما يكون غياب التصالح الكامل مع الحداثة (أو ما يفترض أن تكون عليه الحداثة)، وعدم القدرة على تحقيق تغييراتٍ جذريةٍ تقطع مع المنظومة القديمة، من العوامل التي مهّدتْ للتراجع الملحوظ عالمياً عبر تقييد حرية الفكر والتعبير وغيرها من الحريات الأساسية. فبعد فترةٍ من المهادنة مع الفكر الحداثي، عادت "النخب التقليدية" لتُحْكِمَ هَيْمَنَتَها من جديد على الفكر والاشتغال الفكري لكن في صورةٍ مُقَنَّعَةٍ ومُخَاتِلَة؛ وهذه النقطة الأخيرة قضيةٌ تستوجب النظر فيها بشيءٍ من التفصيل في مقالٍ منفصل.

لقراءة المقال من موقع الصحيفة يرجى الضغط هنا




[1]  هذا المقال استكمالٌ لسلسلةٍ من المقالات المنشورة في ملحق نوافذ بتاريخ 19 أيار 2013 (العدد 4692)، 16 حزيران 2013 (العدد 4718)، 4 آب 2013 (العدد 4767)، و10 تشرين الثاني 2013 (العدد 4859).

لعنة الحداثة - مقالٌ جديدٌ منشورٌ في صحيفة الحياة




صورة فوتوغرافية للراحل شكيب أرسلان

تمكن قراءة المقال من موقع الصحيفة بالضغط هنا

كتب المتحمس الإسلامي الراحل شكيب أرسلان، عام 1939، كتيباً بعنوان: "لماذا تأخّر المسلمون وتقدَّم غيرهم؟"، حاول فيه الوقوف على أسباب التخلف الـمُقيم في المنطقة. فمنذ دخول العالم الغربي على ضفّتي الأطلسي فيما باتَ يُعْرَف بعصر الحداثة والمنطقة، المسماة بالشرق الأوسط، تعاني من ركودٍ واضمحلالٍ فكريٍّ ينعكس على كافة مجالات الحياة. لم يكن هذا الوضع المأسوي سوى تراكمٍ لقرونٍ من استنقاع الأفكار الممتزج بأشكالٍ متعددةٍ من الاستبداد الثقافي والاجتماعي والسياسي. وقد تفاقم ما سبق مع انفجار الثورات العلمية والصناعية، وما نجم عنها من تقزيمٍ للشرق الأوسط، واضطرابٍ لحالة الرتابة الفكرية فيه.
بالتأكيد لا يكْمُنُ سبب هذا التخلف المزمن في غياب المحاولات النهضوية التي تَعَدَّدَتْ منذ القرن الثامن عشر. لكن العلّة، في رأيي، تكمن في المناهج التي سارتْ عليها مثل هذه المحاولات النهضوية. فقد اتخذت المنطقة، في محاولةٍ يائسةٍ لاكتشاف أو إعادة التوازن إلى ذاتها المتشظية، طيفاً من المواقف المتعاكسة؛ مواقف تتراوح بين محاولات التماثل مع "الحداثة الغربية"، إلى محاولات التماثل مع نقيضٍ مفترضٍ لها. وهذا ما يفسر اشتمال الحركات النهضوية على توجهاتٍ متناقضةٍ كالسلفية الدينية أو القومية أو الليبيرالية العربية، وعلى شخصياتٍ كمحمد عبده وفرح أنطون، ورشيد رضا وعلي عبد الرازق. ففي معظم هذه الحالات لم يتم النظر إلى الحداثة كضرورةٍ أو منتجٍ ذاتيٍّ من صميم إبداع وابتكار المنطقة، بل كانت الحداثة حالةً مستوردةً: فهي منتجٌ "للآخر الغربي"، منتجٌ أجنبيٌّ يعوزُه الانتماء الأصيل إلى هذه الأرض، منتجٌ يجب (أو لا يجب) أن يتم "استهلاكه"، أو اتخاذ موقفٍ منه. 
لقد حُوصِرَتْ المنطقة بين خياراتٍ متعاكسةٍ ترافقتْ مع اغتيال الإبداع، حتى باتتْ محكومةً استهلاكياً بإدمان منتجات الحداثة، مع تعميقٍ للشعور الدفين بالدونية تجاه "الآخر". ولم يُفْضِي هذا الوضع البائس إلى اجترار وإعادة إنتاج الأمر الواقع فقط، بل إلى جرِّ المنطقة إلى هوةٍ سحيقةٍ يتلاطم فيها اليأس والتطرف والعنف.
لكن كي نتبين بعضاً من جذور المشكلة، فلا بدَّ من العودة إلى صيغة السؤال المطروح: "لماذا تأخّر المسلمون وتقدَّم غيرهم؟". إذ يقدِّمُ السؤالُ المسلمين كجماعةٍ منفصلةٍ عن غيرها من الجماعات البشرية، محاولاً بنبرةٍ لا تخلو من كرامةٍ جريحةٍ تفسير السبب الذي جعل هذه الجماعة "المتعالية" تعيش هذه الأوضاع الـمُزْرِيَة. تمتلئُ مثلُ هذه النظرة بإرث العصور الوسطى الذي يقسم العالم إلى دار حربٍ وإسلام، وتتماهى مع قراءةٍ استشراقيةٍ تُظْهِرُ المسلمين وكأنهم كُلٌّ واحدٌ لا يتجزأ، والفكر الإسلامي وكأنه كتلةٌ مُصْمَتَةٌ وثابتةٌ عبر الأزمنة والأمكنة. في كل الأحوال تعكس هذه النظرة نزعةً متقوقعةً على الذات، وإدراكاً مفرطاً ومغلوطاً للهوية، وهاجساً عُصابياً بمركزية الأنا ونرجسيتها، مع مستوىً عالٍ من العنصرية الصارخة. يعمل ما سبق على تعميق العُزلة، سواء على مستوى اغتراب المسلمين كأفرادٍ ومجتمعاتٍ عن الجماعات الأخرى، أو على مستوى اغترابهم عن الحداثة كمفهومٍ إنساني. ولقد غدا هذا الاغتراب بصمةً رافقتْ المحاولات النهضوية في المنطقة، ليسهم في تكبيل هذه المحاولات، ويحكم عليها بفشلٍ مُسْبَقٍ، مع تحويلها إلى نافذةٍ نرقب من خلالها "الآخر" وإنجازاته. وبالإضافة إلى هذه العوامل الذاتية، فقد تأزَّمتْ هذه النظرة بوجود نزعةٍ مشابهةٍ ومتعاليةٍ وعنصريةٍ في "الغرب"؛ ما سيؤسس، بوجود الزَّخَم الاستشراقي، لعلاقةٍ مضطربةٍ بين القطبين المصطنعين: "الغرب والشرق".
يجب التأكيد على أن الحداثة ليستْ "شيئاً" ملموساً موجوداً "هناك"، وليست قضيةً متجانسةً وواضحة المعالم، أو مُلْكاً حصرياً لجهةٍ ما. كما أنها ليستْ حتميةً تاريخيةً، أو هدفاً للجموع أو النخب. بل هي تسميةٌ لاحقةٌ لسلسلةٍ من الظواهر التراكمية التي قد تتناقض وتتشابه وتتفاعل مع بعضها. لكن المغالطة تبرز حين يُخْتَزَلُ مصطلح الحداثة ليتحوَّل إلى كتلةٍ من الشرور التي تستدعي التقزُّز، أو إلى كتلةٍ من الإنجازات التي تستدعي الانبهار. هنا تُخْضَعُ الحداثة إلى عملية تقشيرٍ وانتزاعٍ من تعقيداتها وظروفها التاريخية والاقتصادية، دون الخَوْض في مقوِّماتها وشروط تحقُّقها، مع الإبقاء التبسيطي على نتائجها الظاهرة. تجدر الإشارة إلى أن هذه النتائج الظاهرة لم تكن محددةً سلفاً في الغرب الذي خاض صراعاً مريراً على مدى قرون، وذلك على خلاف الوضع في المنطقة التي اعتادتْ تقرير هذه النتائج مُقَدَّمَاً دون أخذٍ بشروطها. وبالمحصلة تعمل هذه المغالطة على المستوى المفاهيمي على تشويه إدراكنا للحداثة، قبل أن تطالبنا بإعلان مواقفنا منها.
ما يميز الظواهر الحداثية هو الإبداع الذاتي والتغيير الذي يتجاوز إرث العصور الوسطى، إضافةً إلى الروح الثورية المتمردة، والخصائص الصراعية. وكما هي الحال في أيِّ صراع، فالنتيجة معتمدةٌ على قوة الطرفين المتصارعين، وعلى قدرتهما على تدشين/مقاومة التغيير. لكن، بالإضافة إلى "القحط الإبداعي"، يبدو أن الذات ما قبل الحداثية في منطقتنا متضخمةٌ لدرجة أنها ترى في كل محاولةٍ لبناء ذاتٍ حداثيةٍ تهديداً لها. وهذا ما قد يفسر ردود الأفعال المتطرفة تجاه التغيير في بلدان المنطقة التي أدمنتْ، للمفارقة، على الحداثة في صورةٍ استهلاكية: فكلُّ سعيٍ نحو الحداثة يقابله تنكسٌ رجعيٌّ إلى ما قبلها، وكلُّ تماثلٍ مصطنعٍ مع الحداثة يقابله تماثلٌ كَيْدِيٌّ مع ما قبلها.
لقد امتزج إدراكنا المشوه للحداثة مع مواقفنا المفترضة منها، ليترك آثاراً سلبية تُدْخِلُنا في دوامةٍ عبثيةٍ تعيق اندماج المنطقة بركب الحضارة البشرية. ولا يجب التردد في إطلاق توصيف "لعنة الحداثة" على مجموع هذه الآثار؛ لعنةٌ تصيب المنطقة وتستفحل في العقلية السائدة، لتجعل منا شعوباً مصابةً بـ "حُمّى التماثل": التماثل مع صورٍ متخيلةٍ ومتضادةٍ للغرب الحداثي، أو للشرق العتيق، التماثل المحشور في حدودٍ ضيقة، بدلاً من سعيٍ حثيثٍ ومبتكر للنهوض من التخلف.
أخيراً، ثمة دربٌ للخلاص من "لعنة الحداثة". لكن مثل هذا الدرب لا يمكن السير فيه دون تعاونٍ إنسانيٍّ عقلانيٍّ وعابرٍ للحدود، يخلِّص الذات من نرجسية الأنا، ويسهِّلُ انفتاح الجماعات البشرية على بعضها بعد أن تتخلّى عن الاستعلاء العنصري واحتكار الحقيقة. 

تمكن قراءة المقال من موقع الصحيفة بالضغط هنا