(نابليون قبالة أبي الهول، للرسام جان ليون جيروم)
انكبَّ الاشتغال الفكري الناطق بالعربية، منذ بدايات
القرن العشرين، على تحليل الأزمات التي تضجُّ بها منطقتنا، ما أدى إلى امتلاء
المكتبة العربية بأعمالٍ تناقش هذه القضايا، ولعلّ أبرزها تلك التي تصدَّت لدراسة المواقف
من التراث. إلا أن هذا الاشتغال الفكري قلّما امتلك الجرأة والنية والأدوات لتجاوز
سطحية التحليل والنفاذ إلى الجذور، ما قد يُعَلِّلُ بقاء معظم النقاشات التراثية
تراوح في المكان طيلة قرنٍ من الزمن.
لقد كانت حملة نابليون على مصر واحدةً من الأحداث الرضّية
التي تم الارتطام فيها مع الحداثة، لتسهم في إيقاظ الوعي بانكسار الذات أمام "الغرب".
وقد دخلتْ منطقة الشرق الأوسط على إثْر ذلك في حلقةٍ مفرغةٍ من جلْد الذات، بعد أن
بدأتْ تَعِي أن هوّةً واسعةً باتتْ تفصلها عن الآخر. ومنذ تلك اللحظة الفارقة حَلَّتْ
"لعنة التراث" علينا كامتدادٍ لـ "لعنة الحداثة". فقد تم
تنصيب التراث كوثن، ليتلو ذلك استسلامٌ وتمجيدٌ للتراث، أو هروبٌ منه وازدراءٌ له.
وهكذا برز ارتهانٌ إلى مزيجٍ من المواقف المتناقضة والمستقطبة التي تتفاعل في ذات
المشهد الأليم، يمكن تلخيصها في موقفين رئيسيين: "تطرف التبجيل" و"تطرف
التحقير".
في "تطرف التبجيل"، الذي يتشبَّثُ به معظم التقليديين،
يُرْفَعُ التراث/الوثن إلى مصافِّ الآلهة التي لا تجوز مساءلتها. هنا يتحول التراث
من كونه جزءاً من ماضينا "نحن"، إلى كونه الجزء الوحيد الباقي لنا
"نحن". فيغدو التراث مكافئاً للذات، لدرجةٍ غدتْ معها الذات عديمة القيمة
دونه – إذ لا وجود لها (ولا وجود لنا) خارج نطاق التراث، وليس لدى الذات سوى هذا "التراث"
لتؤكد من خلاله، ومن خلاله فقط، وجودها. لا تَكْمُنُ الآفة الأساسية هنا في استلهام
الماضي، بل في تجميد وقَمْع الزمن، واعتبار الماضي المجيد، الذي تَمَّتْ كتابته
وفق قواعد أيديولوجية، نقطةً مرجعيةً ومطلقةً، مع محاولةٍ حثيثةٍ لبتر الحاضر
والمستقبل وإعادة تدشين الماضي عوضاً عنهما.
وعلى النقيض ظهر "تطرف التحقير" الذي يروِّجُ
له حشدٌ من المثقفين الحداثيين في محاولةٍ ساذجةٍ للتماهي والتماثل الظاهري مع
"الآخر". لا يكتفي هذا التيار بتحطيم الوثن، بل يسعى إلى استئصال التراث
الذي يُنْظَرُ إليه بازدراءٍ كونه مصدر التخلف الذي نعيش. يؤدي ذلك إلى حذف جزءٍ
من ماضينا "نحن"، وخلق فجوةٍ في الزمن، وإحداث رضٍّ في استمرارية
التاريخ النفسي للجماعات البشرية في المنطقة.
طبعاً هناك توجهٌ ثالثٌ يعمل على السير في منتصف الطريق،
مُدّعياً الوَسَطِيّة والأخذَ من الحداثة بما لا يتعارض مع القيم التراثية الأصيلة.
لكن يمكن القول أن هذا التوجه الثالث هو الأكثر نِفَاقاً (رغم حسن النوايا) كونه
يعيد إنتاج الواقع بصورة مشوهة، عبر خلطه المتعمد بين مفاهيم مختلفة كالتراث
والحداثة، وتشويهه المقصود للزمن الماضي والحاضر والمستقبل.
وعملياً تتشابه المواقف السابقة في إهمالها واغتيالها لمكامن
الإبداع الذاتي، وفي عدم قدرتها على الخلاص من "لعنة التراث". وفي معظم
هذه الحالات تتم مقاربة التراث وكأنه كتلةٌ صامتةٌ وثابتةٌ وأبدية، في "صورته
النمطية"، في صيغته الأرثوذوكسية السِّرَاطِيّة الـمُؤَدْلَجَة والمتفق عليها،
تلك التي تشكلتْ عبر تراكمٍ من المصالح والمرويات، وبمباركة الخطاب السلطوي السائد
والمنتصر الذي دوّن هذا "التراث" كجزء من الماضي الوردي والتليد. تغدو
هذه "الصورة النمطية" أكثر تعقيداً حين تتقاطع مع الحضور المتوهم للمقدّس
في كافة مفاصل التراث، وفي النزوع المؤدلج للتأريخ (أي علم كتابة التاريخ) في
المنطقة، ما يؤدي إلى حذف البعد الدنيوي في تشكل التراث: وعليه تتحول الشخصيات
التاريخية إلى رموزٍ دينية لا تخطئ، والمعارك إلى ملاحم ذات بُعْدٍ ميثولوجي، وسفك
الدم إلى عنفٍ مقدسٍ وتقربٍ من الله، والأعراف والعادات الاجتماعية المحلية إلى
قوانين مقدسةٍ ومنزلة وذات أثرٍ كَوْني.
لقد أدّى التمسك بهذه "الصورة النمطية" على
المستوى الفكري والتربوي إلى خطأٍ منهجيٍّ قاتلٍ، وإلى إخفاء مكامن الغنى الحقيقي
في التراث، والسكوت عن أسباب النهضة التي رافقتْ المراحل الأولى من تشكل ثقافة
المنطقة في القرون الهجرية الأربعة الأولى. فقد شهدت تلك المراحل مستوىً عالياً من
التبادل والانزياح والتفاعل الثقافي المبكر بين المسلمين وبين ما يحيط بهم من
ثقافاتٍ عريقةٍ استوطنت العراق وبلاد الشام ومصر، دون أن يترافق ذلك مع شعورٍ
عميمٍ بالدونية أو الاستعلاء أو تقوقعٍ على الذات في مواجهة "الآخر".
لا بدَّ إذن من إعادة البعد الزمني الدنيوي إلى التراث،
وتخليصه مما أضيف إليه من بهرجاتٍ وقداسةٍ، وإخضاعه إلى تفكيكٍ منهجيٍّ علميٍّ
وتاريخيٍّ بعيداً عن الحقن الأيديولوجي الخارق للطبيعة، بخاصة على مستوى السياسة
والقانون. ولا بد أن يسعى الاشتغال الفكري إلى استقصاء كثيرٍ من القضايا المسكوت
عنها فيما يتعلق بالتراث (مثال: إن "الصورة النمطية" للتراث ليست سوى حصيلةٍ
للتزاوج البطيء والمتأخر بين الفكر الديني والسلطات الحاكمة بعد القرن
الخامس/السادس الهجري، مع تراكماتٍ في العهد العثماني، وإحياءٍ انتقائيٍّ وأيديولوجيٍّ
مع المد العروبي القومي).
لكن من المهم أيضاً الابتعاد عن التَّعَسْكُر الـمُبَسَّط
بين تطرف التبجيل والماضوية، أو التحقير والقطيعة، أو الوسطية والإصلاح. فضرورةُ
أخذ موقفٍ من التراث، وكلُّ النقاش الفكري المرتبط بذلك، ليس سوى أزمةٍ ثانويةٍ
تنبع من السياق الثقافي العام في المنطقة. وربما من الأجْدى، بدلاً من حَصْر
الخيارات في المواقف المذكورة آنفاً، طرحُ أسئلةٍ من قبيل: لماذا يجب أصلاً أن
نأخذ موقفاً من التراث؟ لماذا يُسْمَحُ أصلاً للماضي أن يؤثر في حاضر ومستقبل
المنطقة إلى هذا الحد؟ لماذا يُسْمَحُ للماضي أن يقرر ويفرز ويُقْصِي ويتدخل في
تحديد أنظمة الحكم والسياسة والاقتصاد والقانون؟ أسئلةٌ إشكاليةٌ يجب عرضها بجرأةٍ
وروحٍ علميةٍ على مشرحة الإجابة، إنْ أردنا خلاصاً ما من "لعنة التراث"
التي ما فتئت تلاحقنا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق