صورة فوتوغرافية للراحل شكيب أرسلان
تمكن قراءة المقال من موقع الصحيفة بالضغط هنا
كتب المتحمس الإسلامي الراحل شكيب أرسلان، عام 1939، كتيباً
بعنوان: "لماذا تأخّر المسلمون وتقدَّم غيرهم؟"، حاول فيه الوقوف على
أسباب التخلف الـمُقيم في المنطقة. فمنذ دخول العالم الغربي على ضفّتي الأطلسي
فيما باتَ يُعْرَف بعصر الحداثة والمنطقة، المسماة بالشرق الأوسط، تعاني من ركودٍ
واضمحلالٍ فكريٍّ ينعكس على كافة مجالات الحياة. لم يكن هذا الوضع المأسوي سوى تراكمٍ
لقرونٍ من استنقاع الأفكار الممتزج بأشكالٍ متعددةٍ من الاستبداد الثقافي
والاجتماعي والسياسي. وقد تفاقم ما سبق مع انفجار الثورات العلمية والصناعية، وما نجم
عنها من تقزيمٍ للشرق الأوسط، واضطرابٍ لحالة الرتابة الفكرية فيه.
بالتأكيد لا يكْمُنُ سبب هذا التخلف المزمن في غياب
المحاولات النهضوية التي تَعَدَّدَتْ منذ القرن الثامن عشر. لكن العلّة، في رأيي،
تكمن في المناهج التي سارتْ عليها مثل هذه المحاولات النهضوية. فقد اتخذت المنطقة،
في محاولةٍ يائسةٍ لاكتشاف أو إعادة التوازن إلى ذاتها المتشظية، طيفاً من المواقف
المتعاكسة؛ مواقف تتراوح بين محاولات التماثل مع "الحداثة الغربية"، إلى
محاولات التماثل مع نقيضٍ مفترضٍ لها. وهذا ما يفسر اشتمال الحركات النهضوية على
توجهاتٍ متناقضةٍ كالسلفية الدينية أو القومية أو الليبيرالية العربية، وعلى
شخصياتٍ كمحمد عبده وفرح أنطون، ورشيد رضا وعلي عبد الرازق. ففي معظم هذه الحالات لم
يتم النظر إلى الحداثة كضرورةٍ أو منتجٍ ذاتيٍّ من صميم إبداع وابتكار المنطقة، بل
كانت الحداثة حالةً مستوردةً: فهي منتجٌ "للآخر الغربي"، منتجٌ أجنبيٌّ
يعوزُه الانتماء الأصيل إلى هذه الأرض، منتجٌ يجب (أو لا يجب) أن يتم "استهلاكه"،
أو اتخاذ موقفٍ منه.
لقد حُوصِرَتْ المنطقة بين خياراتٍ متعاكسةٍ ترافقتْ مع
اغتيال الإبداع، حتى باتتْ محكومةً استهلاكياً بإدمان منتجات الحداثة، مع تعميقٍ للشعور
الدفين بالدونية تجاه "الآخر". ولم يُفْضِي هذا الوضع البائس إلى اجترار
وإعادة إنتاج الأمر الواقع فقط، بل إلى جرِّ المنطقة إلى هوةٍ سحيقةٍ يتلاطم فيها
اليأس والتطرف والعنف.
لكن كي نتبين بعضاً من جذور المشكلة، فلا بدَّ من العودة
إلى صيغة السؤال المطروح: "لماذا تأخّر المسلمون وتقدَّم غيرهم؟". إذ
يقدِّمُ السؤالُ المسلمين كجماعةٍ منفصلةٍ عن غيرها من الجماعات البشرية، محاولاً
بنبرةٍ لا تخلو من كرامةٍ جريحةٍ تفسير السبب الذي جعل هذه الجماعة "المتعالية"
تعيش هذه الأوضاع الـمُزْرِيَة. تمتلئُ مثلُ هذه النظرة بإرث العصور الوسطى الذي
يقسم العالم إلى دار حربٍ وإسلام، وتتماهى مع قراءةٍ استشراقيةٍ تُظْهِرُ المسلمين
وكأنهم كُلٌّ واحدٌ لا يتجزأ، والفكر الإسلامي وكأنه كتلةٌ مُصْمَتَةٌ وثابتةٌ عبر
الأزمنة والأمكنة. في كل الأحوال تعكس هذه النظرة نزعةً متقوقعةً على الذات،
وإدراكاً مفرطاً ومغلوطاً للهوية، وهاجساً عُصابياً بمركزية الأنا ونرجسيتها، مع
مستوىً عالٍ من العنصرية الصارخة. يعمل ما سبق على تعميق العُزلة، سواء على مستوى
اغتراب المسلمين كأفرادٍ ومجتمعاتٍ عن الجماعات الأخرى، أو على مستوى اغترابهم عن
الحداثة كمفهومٍ إنساني. ولقد غدا هذا الاغتراب بصمةً رافقتْ المحاولات النهضوية
في المنطقة، ليسهم في تكبيل هذه المحاولات، ويحكم عليها بفشلٍ مُسْبَقٍ، مع
تحويلها إلى نافذةٍ نرقب من خلالها "الآخر" وإنجازاته. وبالإضافة إلى
هذه العوامل الذاتية، فقد تأزَّمتْ هذه النظرة بوجود نزعةٍ مشابهةٍ ومتعاليةٍ
وعنصريةٍ في "الغرب"؛ ما سيؤسس، بوجود الزَّخَم الاستشراقي، لعلاقةٍ مضطربةٍ
بين القطبين المصطنعين: "الغرب والشرق".
يجب التأكيد على أن الحداثة ليستْ "شيئاً" ملموساً
موجوداً "هناك"، وليست قضيةً متجانسةً وواضحة المعالم، أو مُلْكاً
حصرياً لجهةٍ ما. كما أنها ليستْ حتميةً تاريخيةً، أو هدفاً للجموع أو النخب. بل
هي تسميةٌ لاحقةٌ لسلسلةٍ من الظواهر التراكمية التي قد تتناقض وتتشابه وتتفاعل مع
بعضها. لكن المغالطة تبرز حين يُخْتَزَلُ مصطلح الحداثة ليتحوَّل إلى كتلةٍ من
الشرور التي تستدعي التقزُّز، أو إلى كتلةٍ من الإنجازات التي تستدعي الانبهار.
هنا تُخْضَعُ الحداثة إلى عملية تقشيرٍ وانتزاعٍ من تعقيداتها وظروفها التاريخية
والاقتصادية، دون الخَوْض في مقوِّماتها وشروط تحقُّقها، مع الإبقاء التبسيطي على
نتائجها الظاهرة. تجدر الإشارة إلى أن هذه النتائج الظاهرة لم تكن محددةً سلفاً في
الغرب الذي خاض صراعاً مريراً على مدى قرون، وذلك على خلاف الوضع في المنطقة التي اعتادتْ
تقرير هذه النتائج مُقَدَّمَاً دون أخذٍ بشروطها. وبالمحصلة تعمل هذه المغالطة على
المستوى المفاهيمي على تشويه إدراكنا للحداثة، قبل أن تطالبنا بإعلان مواقفنا
منها.
ما يميز الظواهر الحداثية هو الإبداع الذاتي والتغيير
الذي يتجاوز إرث العصور الوسطى، إضافةً إلى الروح الثورية المتمردة، والخصائص
الصراعية. وكما هي الحال في أيِّ صراع، فالنتيجة معتمدةٌ على قوة الطرفين المتصارعين،
وعلى قدرتهما على تدشين/مقاومة التغيير. لكن، بالإضافة إلى "القحط
الإبداعي"، يبدو أن الذات ما قبل الحداثية في منطقتنا متضخمةٌ لدرجة أنها ترى
في كل محاولةٍ لبناء ذاتٍ حداثيةٍ تهديداً لها. وهذا ما قد يفسر ردود الأفعال المتطرفة
تجاه التغيير في بلدان المنطقة التي أدمنتْ، للمفارقة، على الحداثة في صورةٍ
استهلاكية: فكلُّ سعيٍ نحو الحداثة يقابله تنكسٌ رجعيٌّ إلى ما قبلها، وكلُّ
تماثلٍ مصطنعٍ مع الحداثة يقابله تماثلٌ كَيْدِيٌّ مع ما قبلها.
لقد امتزج إدراكنا المشوه للحداثة مع مواقفنا المفترضة
منها، ليترك آثاراً سلبية تُدْخِلُنا في دوامةٍ عبثيةٍ تعيق اندماج المنطقة بركب
الحضارة البشرية. ولا يجب التردد في إطلاق توصيف "لعنة الحداثة" على
مجموع هذه الآثار؛ لعنةٌ تصيب المنطقة وتستفحل في العقلية السائدة، لتجعل منا
شعوباً مصابةً بـ "حُمّى التماثل": التماثل مع صورٍ متخيلةٍ ومتضادةٍ
للغرب الحداثي، أو للشرق العتيق، التماثل المحشور في حدودٍ ضيقة، بدلاً من سعيٍ
حثيثٍ ومبتكر للنهوض من التخلف.
أخيراً، ثمة دربٌ للخلاص من "لعنة الحداثة".
لكن مثل هذا الدرب لا يمكن السير فيه دون تعاونٍ إنسانيٍّ عقلانيٍّ وعابرٍ للحدود،
يخلِّص الذات من نرجسية الأنا، ويسهِّلُ انفتاح الجماعات البشرية على بعضها بعد أن
تتخلّى عن الاستعلاء العنصري واحتكار الحقيقة.
تمكن قراءة المقال من موقع الصحيفة بالضغط هنا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق