حين يتحكم البعير بمستقبل الوطن



في كل شعوب العالم توجد نسبةٌ من المواطنين تسير على خطا البعير. قد تكون نسبة هذه الشريحة البهائمية في منطقتنا أعلى من المعدل المتعارف عليه بشرياً وذلك لأسبابٍ عديدة: منها وجود الأنظمة الدكتاتورية التي ساهمت في نشر التخلف والجهل والتقوقع وغيرها من الأمراض الاجتماعية المزمنة والمستفحلة. ومع أن هذه الشريحة، التي لا تملك أدنى حسٍّ بالمسؤولية الأخلاقية والوطنية، لا تشمل كامل المجتمع، إلا أنها الأعنف والأعلى صوتاً بحكم همجيتها وزعرنتها وعنفها (ملاحظة: هذه الشريحة البهائمية مكونة من مختلف الطوائف والانتماءات المناطقية والاجتماعية وغيرها)
لقد عاثت أطيافٌ من هذه الشريحة البهائمية فساداً في البلاد بعد استيلاء "المافيا القديمة" على السلطة منذ عقود. لكن الوضع لم يتغير الآن. كل ما حدث هو أن "المافيا الجديدة" تعيش طور تشكلها وتحاول أخذ نصيبها مما فاتها! وهكذا بدأنا نرى في صفوف المعارضين كثيراً من اللاهثين بجنونٍ وراء شهوة السلطة والانتقام، أولئك الذين لا يملكون (وفي صورةٍ مشابهة تماماً للمافيا القديمة) أي رؤية أو استراتيجيا: حفنةٌ من الجهلة والمتسلقين والهمج الرعاع ممن يبعق وهو يتشدق بالحديث عن مصير الوطن، ليرسم مصير ملايين السوريين بالقهر والإرهاب وسفك الدماء، وبسلاحه المرتهن لكل شيء عدا الوطن، وبتطرفه ورجعيته وعشوائيته البائسة.
أخيراً لا بد من تسجيل ملاحظةٍ هامة: الرعاع والبعير الذين يشكلون في مجموعهم هذه الشريحة البهائمية ليسوا كما يتصور البعض بثيابٍ رثةٍ وطبقةٍ مسحوقة إلخ. فالرعاع انتماءٌ يتحدد قبل كل شيء بالخواء الأخلاقي والقذارة الروحية – المشهد السوري مثلاً مشهدٌ ممتلئٌ حتى التخمة برعاعٍ يرتدون ربطات العنق ويتحدثون من عواصم أوروبية وعربية إضافةً طبعاً إلى رعاع السلطة والنظام ومن هم على شاكلتهم ممن كانوا أصل البلاء على مدى عقود من الانغلاق والتدهور.


الفكر كضحية للنخب التقليدية: من مواقف الرفض إلى مهادنة الحداثة في الغرب - مقال منشور في ملحق نوافذ في جريدة المستقبل


 


(جزءٌ مُكَبَّرٌ من لوحة "تتويج الإمبراطور نابليون والإمبراطورة جوزفين في كاتدرائية نوتردام في باريس في الثاني من كانون الأول/ديسمبر 1804م"، انتهى العمل باللوحة من قِبَل جاك-لويس دافيد عام 1807م. متحف اللوفر)


شَهِدَ عام 1804 تتويج نابليون بونابرت (ت. 1821م) كإمبراطورٍ لفرنسا. وكما تقول الرواية المشهورة فقد رفض نابليون أن يقوم البابا "بيوس السابع" (ت. 1823م) بمراسم التتويج المتعارف عليها، بل انتزع التاج ليعمد إلى تتويج نفسه بنفسه. تُمَثِّلُ هذه اللحظة الرمزية، التي تم تخليدها فنياً في لوحة جاك-لويس دافيد (ت. 1825م)، انفصالاً بين النخبة السلطوية المتمثلة بالإمبراطور وبين النخبة الدينية المتمثلة، في هذه الحالة، برأس الكنيسة الكاثوليكية؛ لحظة انفصالٍ تحمل في ثناياها انزياحاً في مفهوم السيادة، وفي ممارسة مفهوم السيادة التي بدأتْ بالتشكل في صورةٍ مركزيةٍ في إطار ما سيعرف فيما بعد بالدولة الحديثة: كانعكاسٍ لروحٍ حداثيةٍ جديدةٍ، وفي سياق مَوْجَةٍ من المدِّ العلماني الفرنسي خصوصاً، والأوروبي عموماً، الذي كان قد انطلق قُبَيْلَ وأثناء وبُعَيْدَ الثورة الفرنسية. بالإضافة إلى ذلك فقد حملت هذه اللحظة مصالحةً حَذِرَةً وسطحيةً مع الماضي (كما يظهر بوضوح في نمط الملابس، واستبداد الإمبراطور، وفكرة التتويج بِحَدِّ ذاتها)، لتُشَكِّلَ امتداداً لاتفاقية الكونكوردا عام 1801م، تلك الاتفاقية التي نظّمت وفصّلت العلاقة بين الدولة والكنيسة، أو بين المنظومة السياسية والمنظومة الدينية، ليترسّخ هذا الانفصال في مرحلةٍ لاحقةٍ في التشريعات البونابرتية والقوانين المدنية والعامة.
لم تكن المعاني التي حملتها هذه اللحظة فريدةً من نوعها، بل هي أثرٌ من آثار الحداثة التي كانت تكتسح أوروبا الغربية وتفرض تبدّلاً في مواقف "النخب التقليدية": من رفض الفكر الحداثي إلى عقد مُهَادَنَةٍ معه. فعلى خلاف التحالف الوثيق على مدى التاريخ الـمُدَوَّن، مَالَتْ بعض "النخب السلطوية" إلى دعم بعض "النخب الفكرية" وتبنّي الدفاع عن الفكر الحداثي كشعارٍ مُعْلَنٍ لها، حتى لو أدّى ذلك إلى تخلخلٍ في تحالفاتها مع باقي أنماط "النخب التقليدية".
وكمثالٍ على هذا التخلخل يمكن ذكر النضال المرير في سبيل تحرير العبيد وإلغاء الرِّق؛ هذا النضال الذي روَّجتْ ونظَّرَتْ له كثيرٌ من "النخب الفكرية" في عصر التنوير كقطيعةٍ مع المنظومة القديمة (وانضم إليها بالمناسبة شريحةٌ من "النخب الدينية" من أتباع الكنيسة الإنجيلية). ومع أن هذه الدعوات قد نالتْ حظوةً عند بعض "النخب السلطوية"، إلا أنها جابهتْ استهجانَ كثيرٍ من "النخب الدينية" المتعصّبة و"النخب الأهلية" و"النخب ذات الثروة" من تجار النخاسة وغيرهم من المستفيدين من تجارة العبيد، ما أفْضى إلى صراعٍ طويلٍ بين مناصري ورافضي إلغاء الرق؛ صراعٌ انزلق، في أمريكا الشمالية على سبيل المثال، إلى حربٍ أهليةٍ طاحنةٍ حصدتْ مئات الآلاف من الأرواح. وهكذا أفْضَتِ الـمُهَادَنَةُ التي عقدتها "النخب السلطوية" مع مظهرٍ من مظاهر الفكر الحداثي (قضية إلغاء الرق في المثال المذكور) إلى نتائج إيجابية على رغم ما رافقها من صدامٍ عنفي.
وعلى العكس فقد تأتي المهادنة بنتائج سلبية. ويمكن هنا ذكر الشيوعية التي يفترض أن تشكل نظرياً، في جانبٍ منها على الأقل، أفضل تصالحٍ وانسجامٍ جذريٍّ مع الحداثة (إنْ أردنا تعريف الأخيرة بأنها تغييرٌ راديكاليٌّ وشاملٌ في المنظومة القديمة). فالشيوعية، كما يتم تقديمها في أدبياتها المبكرة، تجسيدٌ لحلمٍ طوباويٍّ في أقصى تجليّاته: المساواة الـمُطْلَقَة في إطار مشروعٍ خَلَاصِيٍّ يشمل كامل الجنس البشري، عبر إلغاء "النخب التقليدية" المنتمية إلى الماضي، وإلغاء احتكارها للقوة والثروة والفكر. إلا أن ما تم تطبيقه بعد صعود الشيوعية إلى السلطة، بعد اتخاذها شكل ثورةٍ شعبيةٍ كاسحةٍ ودموية، كان مثالاً فاقعاً على النتائج السلبية للمهادنة الموقتة بين السلطة (أو السعي إليها) وبين الفكر الحداثي؛ مهادنةٌ أفْضَتْ إلى نتائج مخيبةٍ للآمال: تسلقٌ خبيثٌ على أحلام البسطاء للوصول إلى السلطة، اجتثاثٌ دمويٌّ "للنخب التقليدية القديمة" فقط لتَحُلَّ "نخبٌ جديدةٌ" مكانها لكن تحت تسمياتٍ مختلفة، يضاف إلى ذلك تشكيلُ قطبٍ معاكسٍ للمنظومة القديمة التي تمّت الثورة عليها بالأساس، وتصوير الفكر الحداثي وكأنه منتجٌ حَصْرِيٌّ وأيديولوجيٌّ للغرب الإمبريالي.
لكن المهادنة التي أبدتها "النخب السلطوية" مع الفكر الحداثي (بغض النظر عن النتائج) لا تعني أن "النخب الدينية" في أوروبا قد استمرّت في اتخاذ مواقف متشنجة ورافضة للحداثة. بل على العكس، فقد عَمَدَتْ، هي الأخرى، إلى عقد مهادنةٍ مع الفكر الحداثي. فقد نشأتْ، على سبيل المثال، طوائف من المسيحية البروتستانتية دون أن تحوي على بُنىً كهنوتية تقليدية، وفي حالةٍ من التناغم النسبي مع الحداثة، كونها قد ترعرعتْ وتزامنتْ أصلاً مع لحظات التغيير الحداثي. وهذا ما جعل من البروتستانتية نقطةً محوريةً في المنظومة الصناعية إن أردنا الاستشهاد بعالم الاجتماع "ماكس ويبر Max Weber" (ت. 1920م)، مع الإشارة إلى أن هذا الدور الحداثي المنفتح يتناقض مع الدور المتعصب المنغلق الذي تلعبه أطرافٌ من البروتستانتية في وقتنا الراهن بخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية (وهذا يحتاج تفصيلاً في مقامٍ آخر). وفي صورةٍ مشابهةٍ يمكن الحديث عن التنوير اليهودي الأشكنازي أو مايسمى بـ "هالاخاه". وعلى النقيض فقد عَمَدَت المسيحية الكاثوليكية، بعد قرونٍ من التصلّب الدوغمائي، إلى التصالح البراغماتي والتدريجي مع الحداثة، حيث تُوِّجَ ذلك في مجمع الفاتيكان الثاني في الستينيات من القرن الماضي.
وعلى رغم التغيرات المهادنة التي أصابت مواقف "النخب السلطوية والدينية" تجاه الفكر الحداثي، إلا أن التغيرات العميقة التي أصابت الاقتصاد تبقى ربما العلامة الفارقة الأكبر أثراً. فعلى شاكلة ما حدث مع "النخب الفكرية" (أو ما يسمى بالمثقفين) التي تم تدشينها في مراحل سابقة، فقد ظهرتْ تدريجياً شريحةٌ مستحدثةٌ ومستقلةٌ وطموحةٌ من أبناء الطبقات الوسطى والمتعلّمة التي كانت قد استفادت من التغير الذي أصاب المنظومة التعليمية، ومن الانتعاش التدريجي للتجارة على مدى قرونٍ من عمر ما يسمى بالمدن الحرّة المنتشرة على امتداد الجغرافيا الأوروبية. وقد انتظمتْ هذه "النخب الاقتصادية الجديدة" في برجوازيةٍ صاعدة، لتشمل أيضاً مجموعاتٍ من الإقطاعيين والزعماء المحليين والـمُلّاك المتفرقين الذين انتهزوا رياح التغيير الحداثي. فنشأت المصارف ونضجت أسواق الأوراق المالية، وانتظمت قواعد تأسيس الشركات والمعاملات التجارية، وبدأت عجلة الاقتصاد، وكنتيجةٍ مباشرةٍ للثورة الصناعية، تأخذ صيغةً رأسماليةً على حساب الاقتصاد الإقطاعي العتيق، لتحتل موقعاً أساسياً من مفهوم الدولة الحديثة. وبالتوازي، وفي إطار صعود الفكر الإيديولوجي الليبرالي كنتيجةٍ للحداثة، تمتّعتْ هذه "النخب الاقتصادية الجديدة" بشيءٍ من الاستقلال النسبي، مع قدرتها على التحرر من حالة التماهي (أو حالة التحالف الوثيق) التي كانت تصهر "النخب الاقتصادية القديمة" مع "النخب السلطوية" و"النخب الدينية" في طبقةٍ نخبويةٍ معزولةٍ عن الشعب (إذ كثيراً ما كان الملك/الحاكم هو الكاهن الأكبر، والغني الأكثر ثراءً).
من الضروري أن نُخْضِعَ التغيرات التي طرأتْ على العلاقات بين مختلف أنماط "النخب التقليدية" إلى دراسةٍ دقيقةٍ بُغْيَةَ استيعاب التغيرات اللاحقة في علاقة هذه "النخب التقليدية" مع الفكر الحداثي، وفي تطوّر الفكر الحداثي بحدِّ ذاته. إذ يبدو أن التخلخل في العلاقات بين "النخب التقليدية"، وقدرتها على التعايش، أو رغبتها في التعايش مع "النخب الفكرية" الصاعدة، كان واحداً من العوامل الحاسمة في تحديد معالم وحدود واستمرارية الانفتاح الفكري، وفي تدشين الحوامل السياسية والاقتصادية والثقافية اللازمة لمثل هذا الانفتاح الفكري.
لقد بَرَزَ على هامش هذه التغيرات، وربما في صورةٍ غير مباشرة، مستوىً ملحوظٌ من حرية الفكر الذي تلاقى، لأول مرةٍ، مع بيئةٍ حاضنةٍ نسبياً للعمل المؤسساتي، وزَخَمٍ من "النخب الفكرية" القادرة على النهوض والاشتغال. وهذا ما أدْخَلَ العالم الغربي في أواخر القرن التاسع عشر فيما يسمى بظاهرة نهاية القرن Fin de Siècle؛ كاستجابةٍ جماعيةٍ للحداثة، وكامتدادٍ لسيرورةٍ بدأتْ تدريجياً منذ قرون، وكمساهمةٍ فعالةٍ في ازدهار الفكر الحداثي وِفْقَ أدواتٍ ومناهج من داخل المنظومة الجديدة. وقد استمرّتْ هذه الظاهرة حتى العقود الأولى من القرن العشرين، وشَهِدَتْ نشاطاً فكرياً وثقافياً خلّاقاً وملحوظاً في "الغرب"، ما أدّى إلى تغيراتٍ زلزاليةٍ وثوريةٍ على أكثر من صعيدٍ فكريٍّ: نظرية النسبية والفيزياء الكمومية، أنماطٌ جديدةٌ من الرياضيات غير الإقليدية، الفن الحداثي في القصة والرسم والموسيقا وغيرها، النظرية الخلوية والجرثومية في الطب، التحليل النفسي وعلم الأعصاب ونظرية التطور، المدارس الفلسفية الكبرى، تغيراتٌ على مستوى علم الإناسة والاجتماع واللسانيات والجيولوجيا، وتبدلاتٌ في المنظومة التربوية والصحية والحضور النسوي، يضاف إلى كلِّ ذلك جرعةٌ واضحةٌ من حرية الصحافة والأناركية وروح التمرد إلخ. ولم يكبح هذا الصعود سوى الاحتكاك العنفي بين النزعات القومية ذات الميول العنصرية، واندلاع الحروب العالمية التي ألقتْ بآثارها المدمِّرة على القارة الأوروبية العجوز، ونقلت مركز الثقل الفكري إلى الولايات المتحدة الأمريكية؛ فقد هاجرتْ كثيرٌ من العقول الأوروبية لتستقر في العالم الجديد، كما حدث مثلاً مع مدرسة فرانكفورت الرائدة في النظرية النقدية (حيث استقرتْ في نيويورك بعد صعود النازية في الثلاثينيات من القرن الماضي).
وهنا يجب التأكيد على أن المهادنة التي أظهرتها "النخب التقليدية" مع الفكر الحداثي لا تعني تصالحاً حقيقياً معه، ولا تعني بالضرورة تغييراً راديكالياً وجذرياً في القواعد الأساسية التي تقوم عليها المنظومة السائدة. بل على العكس يمكن القول بأن مواقف المهادنة المذكورة كانت مرحلةً انتقاليةً مَهَّدَتْ للتحول إلى مواقف "الهيمنة الـمُقَنَّعة" التي باتتْ تمارسها، في صورةٍ مُخَاتِلَةٍ، "نخبٌ تقليديةٌ" جديدةٌ ومعاصرةٌ، بعد أن ورثتْ روح التسلط والاستئثار بالقوة عن أسلافها.
أخيراً تجب الإشارة إلى أن الصورة المختصرة التي تم عرضها في هذا المقال تنطبق، في شكلٍ أساسيٍّ، على عددٍ من المجتمعات في أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية (أو ما يسمى تجاوزاً بالغرب). وعليه لا بُدَّ، قبل المضي في مناقشة مواقف "الهيمنة المقنعة" على الفكر الحداثي، من الإشارة في مقالٍ منفصلٍ إلى الانتقال من مواقف الرفض إلى المهادنة في منطقتنا المسماة بالشرق الأوسط.

لقراءة المقال من موقع الصحيفة الرجاء الضغط هنا

مأساة الطفولة في المشهد السوري - مقال قديم منشور في صحيفة الحياة

(صراع من أجل البقاء للفنان وسام الجزائري)

طفلٌ سوريٌّ مَحْمُولٌ على الأكتاف يهتفُ بعبارات التهديد والوعيد بالقتل. طفلٌ ثانٍ يَرْوي على أسماعنا، في تَمَاسُكٍ مُدْهِشٍ وسَرْدٍ رهيبٍ ودموعٍ مَكْبُوتَةٍ، كيف تَحَوَّلَ أفراد عائلته إلى مُجَرَّدِ أشلاء. وثالثٌ يعمل مُمَرِّضاً ومساعداً طبياً في عمليات بَتْرِ الأطراف في مشفىً ميدانيٍّ مُهَدَّدٍ بالقصف في أيِّ لحظة. وطفلٌ آخر يرتدي أمشاط الرصاص، ويحمل سلاحاً أطول من قامته الغَضّة، وفي يمينه سيجارةٌ يدخنها، لتَتَصَدَّرَ صُورَتُه صفحات الجرائد الأجنبية.
تَخْلُو الصور ومقاطع الفيديو المَذْكُورة من مشاهدِ الموتِ الفَجِّ، إلا أنها تعبقُ بالموت المُضْمَرِ، في أقسى مشاهِدِه المُتَخَيَّلَة، مع قاسمٍ مُشْتَرَكٍ يجعلها استمراراً تراجيدياً لأطفال درعا: الاستباحة الهَمَجِيّة والأليمة "للطفل السوري"، الذي انْتُزِعَ من المدرسة وباحة اللعب وأقلام التلوين، ليُرْمَى به وسط هذا الجحيم الأرضي. فأيُّ طفولةٍ تلك التي تُحْرَمُ من أبسط مُقَوِّمَاتِ الطفولة؟
في هذا السياق أصْدَرَتِ اليونيسيف، في آذار/مارس 2013، تقريراً حَمَلَ عنوان "أطفال سوريا: جيلٌ ضائع". يسردُ التقرير توَزُّعَ الأطفال في المناطق الساخنة ودول الجوار، مع عَرْضٍ لأوضاعهم العامة والصحية، وتعدادٍ "لإنجازات" المنظمات الدولية في استجابتها الباهتة للأزمة الإنسانية التي تعاني منها سوريا. كما يحفل التقرير بكثيرٍ من الإحصائيات المؤلمة مُشِيراً، على سبيل المثال، إلى أن الأطفال يُشَكِّلُون 50% من اللاجئين السوريين خارج البلاد، وأن مليونين من الأطفال في حاجةٍ إلى مساعداتٍ عَاجِلَةٍ تبلغ نفقاتها بحدود 200 مليون دولار (تَمَّ تأمينُ خُمْسِها فقط!).
يُعْتَبَرُ الأطفالُ عُرْضَةً إلى مختلف أشكال الاستغلال المادي/الجسدي خصوصاً في سياق العنف والفوضى. وفي ظلِّ الاقتتال المُسْتَعِرِ في سوريا، والخراب الذي طَالَ المناطق السكنية في المدن والبلدات والقرى (منها ما سُوِّيَ بالأرض)، فقد بلغ عدد الضحايا من الأطفال ما يزيد عن ستة آلاف، عدا عشرات الآلاف من الجرحى والمصابين. وفي أعنف الأشكال الراديكاليَّة يغدو الطفل أداةً وجزءاً من الصراع العنفي؛ إنْ على مستوى التجنيد كعنصرٍ مقاتلٍ مُقْبِلٍ على الفناء على خطوط "الجبهة"، أو على مستوى "الجسد" المُسْتَبَاح أولاً بالقتل، والمُسْتَبَاح تالياً بالحَمْل على الأكُف؛ في فعلٍ استعراضيٍّ فظيعٍ يتكاملُ مع فظاعة الموت؛ وكأن وحشيّة قاتل الطفل لا يُمْكِنُ لها أن تتجلّى إلا عبر العرض الوحشي لجسد الطفل/الضحية.
أما الأطفال الناجون من الموت، ومن وحشية تجار الحروب، فسوف "يعيشون" في ظلِّ الفقر والتشريد، مع حرمانٍ شبه كاملٍ من الرعاية الصحية، والتغذية المتوازنة، وغيرها من المستلزمات الأساسية للحياة والنمو السليم.
يجب التوقف عند عُمْقِ الرضوض المعنوية/النفسية التي تتركُ آثارها في ذهنية الطفل وتحفر في ذاكرته. فالطفل السوري ينام ويستيقظ على وَقْع أصوات الرصاص والمدافع والمفخخات والصواريخ، وعلى مشاهد الدم المَعْروضة على الشاشات. ومع تزايد عدد الأيتام الذين فقدوا الأهل، يزداد العبء النفسي الناجم عن الحرمان العاطفي وفقدان الشعور بالأمان. يُضافُ إلى ما سَبَقَ فجوةٌ عميقةٌ على مستوى التحصيل المعرفي بعد تَشَتُّتِ الكادر التعليمي، وتدمير آلاف المدارس، أو تحويلها إلى مقار للنازحين أو حملة السلاح أو للاعتقال والتعذيب. في حين بَرَزَتْ مؤخراً، في الشمال السوري، ظاهرةُ المدارس التي تتبنّى قراءةً متعصبةً للفكر الديني، وتُطَبِّقُ مناهج مؤدلجةً (قد لا تختلف كثيراً، من ناحية المبدأ، عن المناهج الإيديولوجية البعثية التي كانتْ تُدَرَّسُ على مدى عقود). كما لا يجب أن نُقَلِّلَ من شأن الأحقاد التي يَسْكُبُها "الكبار" سَكْباً، على مستوى الحوارات اليومية، في مسامع الأطفال وأبصارهم وقلوبهم. وكأن هؤلاء "الكبار" لا يَكْتَفُون بالفظاعات التي يَرْتَكِبُونَها، بل يُصِرُّون على توريثِ الأطفالِ أمراضَهم ومآلاتِ عنفهم. ولعلّه من النافِلِ القولُ بأن المأساة مضاعفةٌ عند الأطفال المُنْحَدِرِين أصلاً من خلفيةٍ اجتماعيةٍ مُهَمَّشَةٍ، ما يُعَمِّقُ من المعاناة واللامساواة المُسْتَفْحِلَةِ في "المجتمع السوري".
وفي سياق جمودٍ فكريٍّ ومؤسساتيٍّ يُخَيِّمُ على المنطقة، تُعِيرُ قِلّةٌ من السوريين بالاً للآثار التي يتركها الصراع العنفي على الأطفال. ففي سوريا جيلٌ مُثْقَلٌ بالرضوض النفسية والملوثات الفكرية، مع هُوَّةٍ أليمةٍ تتسع يومياً على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والمعرفي. ومع ذلك لا نجد، بعد عامَيْن، حِراكاً مَدَنِيَّاً متناسباً مع حجم الكارثة. نَلْحَظُ هذا التقصير على مستوى المبادرات الدولية والإقليمية، أو على مستوى المبادرات السورية، سواء في مخيمات اللاجئين خارج سوريا، أو في الداخل السوري. حيث تكاد هذه المبادرات أن تكون شبه غائبةٍ، وإن وُجِدَتْ فمعظمها لا يَتَّصِفُ بالجدِّية، أو يميل إلى مُجَرَّدِ الاستعراض، أو المُسَاوَمَة على الولاءات.
لا خلاف على أن أفضل استجابةٍ لهذا الوضع الكارثي هي في إيجاد حلٍّ جذريٍّ للأزمة، لا الاكتفاء بتجميلها "إنسانياً" في صورة إغاثيةٍ عبر مساعداتٍ من هنا وتبرعاتٍ من هناك؛ فالأعمال الإغاثية، على أهميتها، ليستْ سوى ردة فعلٍ يُفْتَرَضُ أن تكون مؤقتةً، وهي بالتأكيد ليستْ بجوابٍ شافٍ ومُستدام. لكن مثل هذا الحلِّ الجذري، المستند بَديهَةً إلى وقف العنف، في حاجةٍ إلى إرادةٍ سوريةٍ مسؤولةٍ تَعْضُدُها عمليةٌ سياسيةٌ جادّة. هذا ما أفاد به التقرير الأخير للأخضر الإبراهيمي، وهذا ما طَرَحَهُ الشيخ معاذ الخطيب في مبادرته التي تلتقي مع مساعي عددٍ من قوى المعارضة (سوريا بين احتمالات التفاوض والتشظي، الحياة، 29 آذار/مارس 2013). وإلى أن تقتنع الأطراف العنفية (وأولها النظام)، أو تُجْبَرَ على أن تقتنعَ، بالتخلّي عن أحلام الحسم العسكري، ستبقى هذه الصورة المثاليّة بعيدةً عن التحقيق، وستبقى المأساة السورية مُرَشَّحَةً للاستفحال.
أطفالُ سوريا مسؤوليةٌ كبرى على عاتِقِ كلِّ سوريٍّ، وحمايتهم وتحييدهم جسدياً ونفسياً عن فظاعات العنف، أوْلَى من تسجيل السوريين "الكبار" لانتصاراتٍ عَبَثِيّةٍ على بعضهم، أو تحقيقهم لمكاسب بطوليةٍ على خطوط الجبهة التي تُفَتِّتُ وتُدَمِّرُ الوطن. وأخيراً فعلى كلِّ حريصٍ على سوريا أن يتذكر بأن استباحةَ الأطفال استباحةٌ للجيل الصاعد في سوريا؛ استباحةٌ تَذْبَحُ بصَمْتٍ مستقبلَ وطنٍ يبحثُ عَبَثاً عن مستقبل.
تمكن قراءة المقال من موقع الصحيفة بالضغط هنا.