(صراع من أجل البقاء للفنان وسام الجزائري)
طفلٌ سوريٌّ مَحْمُولٌ على الأكتاف يهتفُ بعبارات
التهديد والوعيد بالقتل. طفلٌ ثانٍ يَرْوي على أسماعنا، في تَمَاسُكٍ مُدْهِشٍ وسَرْدٍ
رهيبٍ ودموعٍ مَكْبُوتَةٍ، كيف تَحَوَّلَ أفراد عائلته إلى مُجَرَّدِ أشلاء. وثالثٌ
يعمل مُمَرِّضاً ومساعداً طبياً في عمليات بَتْرِ الأطراف في مشفىً ميدانيٍّ مُهَدَّدٍ
بالقصف في أيِّ لحظة. وطفلٌ آخر يرتدي أمشاط الرصاص، ويحمل سلاحاً أطول من قامته
الغَضّة، وفي يمينه سيجارةٌ يدخنها، لتَتَصَدَّرَ صُورَتُه صفحات الجرائد الأجنبية.
تَخْلُو الصور ومقاطع الفيديو المَذْكُورة من مشاهدِ
الموتِ الفَجِّ، إلا أنها تعبقُ بالموت المُضْمَرِ، في أقسى مشاهِدِه المُتَخَيَّلَة،
مع قاسمٍ مُشْتَرَكٍ يجعلها استمراراً تراجيدياً لأطفال درعا: الاستباحة الهَمَجِيّة
والأليمة "للطفل السوري"، الذي انْتُزِعَ من المدرسة وباحة اللعب وأقلام
التلوين، ليُرْمَى به وسط هذا الجحيم الأرضي. فأيُّ طفولةٍ تلك التي تُحْرَمُ من
أبسط مُقَوِّمَاتِ الطفولة؟
في هذا السياق أصْدَرَتِ اليونيسيف، في آذار/مارس 2013،
تقريراً حَمَلَ عنوان "أطفال سوريا: جيلٌ ضائع". يسردُ التقرير توَزُّعَ
الأطفال في المناطق الساخنة ودول الجوار، مع عَرْضٍ لأوضاعهم العامة والصحية، وتعدادٍ
"لإنجازات" المنظمات الدولية في استجابتها الباهتة للأزمة الإنسانية
التي تعاني منها سوريا. كما يحفل التقرير بكثيرٍ من الإحصائيات المؤلمة مُشِيراً،
على سبيل المثال، إلى أن الأطفال يُشَكِّلُون 50% من اللاجئين السوريين خارج
البلاد، وأن مليونين من الأطفال في حاجةٍ إلى مساعداتٍ عَاجِلَةٍ تبلغ نفقاتها
بحدود 200 مليون دولار (تَمَّ تأمينُ خُمْسِها فقط!).
يُعْتَبَرُ الأطفالُ عُرْضَةً إلى مختلف أشكال الاستغلال
المادي/الجسدي خصوصاً في سياق العنف والفوضى. وفي ظلِّ الاقتتال المُسْتَعِرِ في
سوريا، والخراب الذي طَالَ المناطق السكنية في المدن والبلدات والقرى (منها ما سُوِّيَ
بالأرض)، فقد بلغ عدد الضحايا من الأطفال ما يزيد عن ستة آلاف، عدا عشرات الآلاف من
الجرحى والمصابين. وفي أعنف الأشكال الراديكاليَّة يغدو الطفل أداةً وجزءاً من
الصراع العنفي؛ إنْ على مستوى التجنيد كعنصرٍ مقاتلٍ مُقْبِلٍ على الفناء على خطوط
"الجبهة"، أو على مستوى "الجسد" المُسْتَبَاح أولاً بالقتل،
والمُسْتَبَاح تالياً بالحَمْل على الأكُف؛ في فعلٍ استعراضيٍّ فظيعٍ يتكاملُ مع
فظاعة الموت؛ وكأن وحشيّة قاتل الطفل لا يُمْكِنُ لها أن تتجلّى إلا عبر العرض
الوحشي لجسد الطفل/الضحية.
أما الأطفال الناجون من الموت، ومن وحشية تجار الحروب،
فسوف "يعيشون" في ظلِّ الفقر والتشريد، مع حرمانٍ شبه كاملٍ من الرعاية
الصحية، والتغذية المتوازنة، وغيرها من المستلزمات الأساسية للحياة والنمو السليم.
يجب التوقف عند عُمْقِ الرضوض المعنوية/النفسية التي تتركُ
آثارها في ذهنية الطفل وتحفر في ذاكرته. فالطفل السوري ينام ويستيقظ على وَقْع
أصوات الرصاص والمدافع والمفخخات والصواريخ، وعلى مشاهد الدم المَعْروضة على
الشاشات. ومع تزايد عدد الأيتام الذين فقدوا الأهل، يزداد العبء النفسي الناجم عن الحرمان
العاطفي وفقدان الشعور بالأمان. يُضافُ إلى ما سَبَقَ فجوةٌ عميقةٌ على مستوى
التحصيل المعرفي بعد تَشَتُّتِ الكادر التعليمي، وتدمير آلاف المدارس، أو تحويلها
إلى مقار للنازحين أو حملة السلاح أو للاعتقال والتعذيب. في حين بَرَزَتْ مؤخراً،
في الشمال السوري، ظاهرةُ المدارس التي تتبنّى قراءةً متعصبةً للفكر الديني،
وتُطَبِّقُ مناهج مؤدلجةً (قد لا تختلف كثيراً، من ناحية المبدأ، عن المناهج
الإيديولوجية البعثية التي كانتْ تُدَرَّسُ على مدى عقود). كما لا يجب أن نُقَلِّلَ
من شأن الأحقاد التي يَسْكُبُها "الكبار" سَكْباً، على مستوى الحوارات
اليومية، في مسامع الأطفال وأبصارهم وقلوبهم. وكأن هؤلاء "الكبار" لا يَكْتَفُون
بالفظاعات التي يَرْتَكِبُونَها، بل يُصِرُّون على توريثِ الأطفالِ أمراضَهم ومآلاتِ
عنفهم. ولعلّه من النافِلِ القولُ بأن المأساة مضاعفةٌ عند الأطفال المُنْحَدِرِين
أصلاً من خلفيةٍ اجتماعيةٍ مُهَمَّشَةٍ، ما يُعَمِّقُ من المعاناة واللامساواة المُسْتَفْحِلَةِ
في "المجتمع السوري".
وفي سياق جمودٍ فكريٍّ ومؤسساتيٍّ يُخَيِّمُ على المنطقة،
تُعِيرُ قِلّةٌ من السوريين بالاً للآثار التي يتركها الصراع العنفي على الأطفال.
ففي سوريا جيلٌ مُثْقَلٌ بالرضوض النفسية والملوثات الفكرية، مع هُوَّةٍ أليمةٍ تتسع
يومياً على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والمعرفي. ومع ذلك لا نجد، بعد عامَيْن،
حِراكاً مَدَنِيَّاً متناسباً مع حجم الكارثة. نَلْحَظُ هذا التقصير على مستوى المبادرات
الدولية والإقليمية، أو على مستوى المبادرات السورية، سواء في مخيمات اللاجئين
خارج سوريا، أو في الداخل السوري. حيث تكاد هذه المبادرات أن تكون شبه غائبةٍ، وإن
وُجِدَتْ فمعظمها لا يَتَّصِفُ بالجدِّية، أو يميل إلى مُجَرَّدِ الاستعراض، أو
المُسَاوَمَة على الولاءات.
لا خلاف على أن أفضل استجابةٍ لهذا الوضع الكارثي هي في إيجاد
حلٍّ جذريٍّ للأزمة، لا الاكتفاء بتجميلها "إنسانياً" في صورة إغاثيةٍ عبر
مساعداتٍ من هنا وتبرعاتٍ من هناك؛ فالأعمال الإغاثية، على أهميتها، ليستْ سوى ردة
فعلٍ يُفْتَرَضُ أن تكون مؤقتةً، وهي بالتأكيد ليستْ بجوابٍ شافٍ ومُستدام. لكن
مثل هذا الحلِّ الجذري، المستند بَديهَةً إلى وقف العنف، في حاجةٍ إلى إرادةٍ
سوريةٍ مسؤولةٍ تَعْضُدُها عمليةٌ سياسيةٌ جادّة. هذا ما أفاد به التقرير الأخير للأخضر
الإبراهيمي، وهذا ما طَرَحَهُ الشيخ معاذ الخطيب في مبادرته التي تلتقي مع مساعي عددٍ
من قوى المعارضة (سوريا بين احتمالات التفاوض والتشظي، الحياة، 29 آذار/مارس
2013). وإلى أن تقتنع الأطراف العنفية (وأولها النظام)، أو تُجْبَرَ على أن تقتنعَ،
بالتخلّي عن أحلام الحسم العسكري، ستبقى هذه الصورة المثاليّة بعيدةً عن التحقيق،
وستبقى المأساة السورية مُرَشَّحَةً للاستفحال.
أطفالُ سوريا مسؤوليةٌ كبرى على عاتِقِ كلِّ سوريٍّ، وحمايتهم
وتحييدهم جسدياً ونفسياً عن فظاعات العنف، أوْلَى من تسجيل السوريين
"الكبار" لانتصاراتٍ عَبَثِيّةٍ على بعضهم، أو تحقيقهم لمكاسب بطوليةٍ
على خطوط الجبهة التي تُفَتِّتُ وتُدَمِّرُ الوطن. وأخيراً فعلى كلِّ حريصٍ على
سوريا أن يتذكر بأن استباحةَ الأطفال استباحةٌ للجيل الصاعد في سوريا؛ استباحةٌ تَذْبَحُ
بصَمْتٍ مستقبلَ وطنٍ يبحثُ عَبَثاً عن مستقبل.
تمكن قراءة المقال من موقع الصحيفة بالضغط هنا.
تمكن قراءة المقال من موقع الصحيفة بالضغط هنا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق