مثال عن أغلفة الدفاتر المدرسية في سوريا في العقدين الأخيرين من القرن العشرين
الصورة مأخوذة من موقع حكابة ما انحكت
أذكرُ كيف كنتُ أحَدِّقُ، حين كنتُ طفلاً، في صورة حافظ
الأسد المطبوعة على أغلفة الدفاتر المدرسية: رأسٌ بشعرٍ مصفَّفٍ وجبهةٍ عريضةٍ،
ربطةُ عنقٍ متناظرة تتوسط قبة قميصٍ مكويٍّ بإتقان. صورةٌ ثابتةٌ لا تتغير، لا
تكبر ولا تهرم، لا تمرض ولا تسعل. صورةٌ طُبِعَ منها ملايينُ النُّسَخ لتتكاملَ مع
الصّور المعلَّقة على الجدران، وتتناغمَ مع نظيراتها على شاشة المحطة التلفزيونية
الوحيدة. صورةٌ أيديولوجيةٌ ترنو إلى الأفق البعيد القَابِـعِ ورائي، أنا الطفل
السوري، لتنطقَ باسم الحزب القائد الواحد/الأحد، وتُجَسِّدَ وحدة "الأمة"
وحريتها واشتراكيتها: حافظ الأسد، كما دُجِّنَتْ أجيالٌ من الأطفال السوريين،
مكافئٌ أبديٌّ لبطلٍ خارق.
لم يكن حضور حافظ الأسد فريداً من نوعه، فهو منتجٌ من
منتجات صناعة البطل، وتكرارٌ لأمثلةٍ مشابهةٍ لحضور الطغاة والديكتاتوريين في
التاريخ الحديث: الشوارب الكثّة في وجه ستالين، بذلة هتلر العسكرية الخالية من الأوسمة،
البشرة البلاستيكية لكيم إيل سونغ، السيجار الكوبي بيد صدّام حسين، الكرنفالية
الفاقعة لمعمر القذافي في خيمته.
صناعة البطل صناعةٌ قديمةٌ وتقليديةٌ أتقنها النوع
البشري على مرِّ العصور، كجزءٍ من طقوس التعبير عن السلطة، وكأداةٍ لخلق بطلٍ
يتوسط مشهداً بطولياً؛ كلٌّ منهما –أي البطل والمشهد- مغايرٌ لما هو عليه الحال في
الواقع. فما نعرفه عن البطل هو ما يُراد لنا أن نعرفه، وما نجهله هو ما يجب علينا
أن نجهله. وبين معرفة "البطل" والجهل به فسحةٌ لا يملؤها سوى ركامٌ من
الميثولوجيا والخداع.
تستند صناعة البطل إلى سلسلةٍ من عمليات التجميل/التشويه
وفبركة الخطاب، وإلى جمهورٍ من الكومبارس الطَّوْعي أو القهري، ولمسةٍ من الإخراج
الاحترافي أو الـمُبْتَذَل بإشراف أزلام السلطة، وعلاقاتٍ متبادلةٍ من الكذب، والترويج والاقتناع بالكذب. هنا يحمل
البطلُ المصنوعُ مزيجاً من الملامح المتناقضة: قداسةٌ مستعارةٌ من عالم اللاواقع،
وواقعيةٌ لا تتشكل إلا عبر تشويه الواقع. ومع مجيء الحداثة، أخذتْ صناعة البطل مساراً
استهلاكياً باعتمادها، شبه الكلّي، على الآلة والإعلام الكُتَلي، حتى بات الترويج
للبطولة مشابهاً لترويجٍ واسعٍ ومُبْتَذَلٍ لمساحيق الغسيل والعلكة.
ولا تقتصر صناعة البطل على حضوره لدى من يحيط به ويصفّق
له، بل تعمد إلى جعل كلِّ ما يحيط به جزءاً من المشهد البطولي. إذ تخلو الحياة
البشرية، المحيطة بالبطل، من كلِّ الأشياء القبيحة التي ترافق البشر؛ تخلو من
القمامة والملابس الداخلية الـمُتَّسِخة، من الأزقة المشبعة بآثار التبول والتغوط،
ورائحة الخضار الفاسدة والخبز العَفِن. لا أثر للتعرّق أو الألم. فالابتسامات تعلو
الوجوه، والفرح في كلِّ مكان: في أهازيج الفرح الشعبي العارم
بقدوم/مرور/ابتسام/فرح/انتصار البطل، في مظاهر البالونات والأعلام التي تختلج على
جانبي صفٍّ من السيارات السوداء المسرعة، في الجموع التي تقف مشرئبّةَ الأعناق نحو
شرفةٍ بعيدةٍ لتنتظر "إطلالة" البطل، وفي التسريبات والمصادر المسؤولة
التي "ترفض الكشف عن اسمها". أما الطبيعة، التي تحيط بالبطل، فهي طبيعةٌ
مُشَوَّهَةٌ ومُفَرَّغَةٌ من مظاهر الطبيعة: طبيعةٌ تخلو من الوحل والحشرات، تخلو
من الغيوم الرمادية والكوارث التي "قد" تعطِّلُ احتفالات النصر. وعليه يتكرَّسُ
واقعٌ جديدٌ، مُتَوَهَّمٌ ومُتَخَيَّل، واقعٌ مبثوثٌ في المشهد، لكنه واقعٌ مغايرٌ
للواقع الحقيقي: فالولادة، في سياق البطولة، ولادةٌ بلا مشيمةٍ أو دم، والطفلُ
الرضيعُ بلا تقيؤٍ، والفرسُ الأصيلُ بلا برازٍ أو ذباب، والانتصارُ بلا هزيمة،
والهزيمةُ إنْ حَصَلَتْ فهي انتصار!
الأبطال كائناتٌ خارقةٌ لا تخضع لقوانين الخسارة/الربح،
أو بالأحرى هكذا يريدون لصورتهم أن تبدو عند من يتلقاها. الأبطال، باختصار، أداةٌ
لتخدير الجموع، وترجمةٌ أرضيةٌ لمعنى الألوهية، وتجسيدٌ لها في سبيل شَخْصَنَةِ الحلم،
واختزاله في شخصٍ/إله. الأبطال موضوعٌ ثابتٌ في تاريخ السلطة، وعنصرٌ لتأكيد الثباتية
التي تقهر الزمن، ومحاولةٌ للتعالي على سيرورات الحياة، والتملّص من صفات الإنسان
العادي. فالبطل من لحمٍ ودم ولكنه لا يتفسّخ، ينتصر ولا يتأذّى، حتى ثيابه الـمَكْوِيّةُ
تبقى بلا غبار، وإن حَدَثَ واتّسختْ ثيابه "بدماء الأعداء/الأشرار" ففي
إطار صفقةٍ ينقذ بها البشرية من شرٍّ مستطير. البطلُ حيٌّ. والبطلُ إنْ مات، فإنه
لا يموت! فهو الاستثناء في كل شيءٍ عظيمٍ من كلِّ شيءٍ عاديٍّ، وفي حضوره تُمْحَى
الفوارقُ بين الحياة والموت؛ والتاريخ شاهد: من مومياءات الفراعنة إلى جثة لينين
الـمُحَنَّطَة، ومن شبح أتاتورك إلى قبر "القائد الخالد".
هنا يبرز الفن الهادف/المؤدلج كأداةٍ فعالةٍ تسهم في
صناعة البطل، بخاصة بعد أن يُحْشَرَ –أي الفن- في قوالب مسبقة الصنع، كناطقٍ باسم
النُّظُم السياسية/الاجتماعية التي يرتبط بها. فمن تسريحة الشَّعْر اللامع في نجوم
أفلام هوليود الأبيض والأسود، والجندي الأمريكي الذي إما أن "ينتصر" أو
أن "ينتصر"، إلى الرومانسية الاستعراضية والموغِلَةِ بالتناظر في
بوليود، وهواجس الكبت الجنسي والعنف والرقص الشرقي في السينما العربية. الظاهرة
ذاتها تتكرر في الأدب الروائي والملْحَمي، وفي فانتازيا الخيال العلمي، في رسومات
العصور الوسطى، وفي تماثيل العصر الكلاسيكي، والبوسترات الإيديولوجية التي ضَجَّتْ
بها عقود الحرب الباردة، في الأغاني الوطنية والحماسية، وفي قصائد التمجيد
والإشادة بحكمة "القائد الـمُلْهَم".
بالعودة بالذاكرة إلى مرحلة الطفولة، كان اعتقادٌ
يلازمني، كما هي الحال ربما عند كثيرٍ من الأطفال، بأن البطل يطير وينتصر، يعرف
الغَيْبَ، ويعاقب/يكافئ بناءً على الأداء الدراسي، أو طاعة الوالدين. فالأبطال ليسوا
مثلنا! وهل يعقل أصلاً أن يكونوا مثلنا؟ هل يتألم الأبطال؟ هل يخسر ويخطئ ويجوع
ويعطش الأبطال؟ وهل يستخدم الأبطالُ المراحيضَ؟
ودّعتُ مرحلة الطفولة، وودّعتُ معها هذه التساؤلات الساذجة،
وهذه التصورات الـمُشْبَعَة بالتنزيه. فالأبطال، سواء كانوا من أصحاب السيادة أو
الفخامة أو غيرهم، مثلهم مثل باقي الناس، لا يختلفون عنهم إلا في قدرتهم على تسخير
القوة والكذب في سبيل تقديم أنفسهم كأبطال، وفي قدرتهم على إقناع الآخرين، أو إجبار
من لم يقتنع على التسليم بأنهم أبطال. لا يمكن إدراك هذه الحقائق البَدَهِيّة إلا بتجاوز
مرحلة الطفولة (سواء طفولة الأفراد، أو طفولة المجتمعات): حينها فقط يَتَعَرَّى
الكذبُ المتبادلُ والـمُلازِمُ لصناعة البطل، وحينها فقط تسقط الفوارق الـمُتَوَهَّمة،
وتزول الحدود المصطنعة، بين البطل واللابطل.
رابط المقال:
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق