منال هي رفيقتي حين كنتُ في الصف الثالث الابتدائي. كان لمنال عيونٌ
كبيرةٌ ورأسٌ مدوّر، شعرٌ قصيرٌ ومسترسلٌ مع ابتسامةٍ شبه دائمة. كل صباح، يوصلني الباص
إلى المدرسة قبل بدء الدوام بحدود نصف الساعة، فأقضي الوقت وأنا أمشي في الباحة.
في أحد أيام الخريف وجدتُ منال جالسةً على الدرج، وهي تنظرُ يميناً
وشمالاً، وكأنها تبحثُ عن شيءٍ ما. جلستُ بجانبها، وسألتُ: عماذا تبحثين؟ فأجابتْ:
أبحث عن الجرذان! ورغم الغرابة في جوابها، إلا أننا ومنذ تلك اللحظة صرنا أصدقاء،
وأصبحنا نجتمع كلَّ يومٍ كي نتحدث في موضوعنا الشيق: "موضوع الجرذان"
(أو "الجرادين" كما كنا نقولها باللهجة العامية). كانت حنجرةُ منال تلفظ
كلمة "جرادين" بصورةٍ مميزة: حرف الدال يبدو وكأنه حرف الضاد، والجيم
مخففةٌ كما في الإفرنسية، أما الكلمة عموماً فكان لها رنينٌ موسيقيٌّ متدحرجٌ
وانسيابيٌّ، بخاصة حين تختلط مع مغامرات منال مع الجرادين، وحكاياتها عن قدرة هذه
الكائنات على الهرب، والاختباء، والابتعاد عن دواليب السيارات المسرعة، والدخول في
الشروخ الضيقة في الأبواب والجدران.
حتى تلك المرحلة من حياتي لم أشاهد جردوناً رؤي العين، واقتصرتْ
معرفتي بـ "الجرادين" على التلفزيون وبعض الصور في الكتب. فالجرادين كائناتٌ
سوداء بعيونٍ حمراء، تعيش في الكهاريز، قبيحةٌ ومتسخة، وكلما كبر حجم الجردون كلما
كان أكثر قبحاً وأكثر قدرة على نشر الأوساخ. علمتُ فيما بعد أن الجرادين تساهم في
نشر مرض الطاعون، وأن كلمة جردون شتيمةٌ أصيلةٌ ترتبط بالوضاعة والخسة، وأن لحم
الجردون وجبةٌ مفضلةٌ عند بعض الشعوب، وأن بعض الثقافات تقدس الجرادين!
أما منال فكانت محظوظةً أكثر مني، إذ قلّما يمر يومٌ لا تشاهد فيه
جردوناً! تحت السيارة، في بهو المدرسة، على الدرج الذي اعتدنا الجلوس عليه، في
المطبخ، في الحديقة، وفي الغسالة أو حتى داخل البراد! لم أكن أصدقها، كيف يمكن
هذا؟ كانت منال تقسمُ على ذلك مراتٍ عديدة، إلى أن يقرع جرس المدرسة ونتوجه إلى
الصف، وأنا حالةٍ من التفاجؤ وعدم الاقتناع.
أذكرُ مرةً كانت فيها منال تحاول وصف جردونٍ كبيرٍ شاهَدَتْه في
زاوية الشارع، كانت تفتح ذراعيها، كانت تمدُّهُما بكلِّ ما أُوتِيَتْ من قوةٍ، كي
تَصِفَ لي كتلة الجردون الضخمة. كنتُ أعيشُ الدهشة في كل التفاصيل، منطلقاً
بخيالي، وأنا أحاول رسم ملامح جردونٍ بلونٍ رماديٍّ غامقٍ، بشعرٍ خشنٍ ومنتصب،
بأسنان حادة وجارحة، بعيونٍ نصف مغمضة وخبيثة، وبحجمٍ يتجاوز حجم حقيبتي المدرسية
التي كانت تهدُّ كتفي الصغير. هل يعض؟ هل له صوت؟ هل له رائحة؟ هل صحيحٌ أن لأرجله
لونٌ زهريٌّ باهت؟ أسأل بفضولٍ عميقٍ ممزوجٍ بشيءٍ من الخوف.
كان يتخلل حديثنا الشيق والمستمر تصريحات منال بأن أهلها سوف
يهاجرون إلى كندا، وأن عليها أن تذهب معهم. كانت تقولها بكثيرٍ من الحيادية، بلا
مشاعر حزنٍ أو فرح. وكنتُ أستمع إليها باهتمامٍ بكثيرٍ من الحيادية، بلا مشاعر
حزنٍ أو فرح. في تلك الأيام، كانت كندا بالنسبة لي بلداً بعيداً وبارداً يمتلئ
بالثلج. وبطبيعة الحال كان السؤال الملح لكلينا: هل في كندا جرادين؟
أسأل نفسي الآن، بعد سبعةٍ وعشرين عاماً، ترى ما السبب الذي يدفع
بطفلين كي يتحدثا عن الجرادين؟ هل هو شكل الجرادين؟ هل هو شعور القرف منها؟ أو هو
تأثيرٌ من الأهل والمدرسة؟ لا أدري. لكن الأكيد أنه كان للجرادين حضورٌ عميقٌ في
وعينا، أنا ومنال، نحن تلاميذ الثالث الابتدائي.
في الفصل الثاني لم أعد أرى منال. غابت عن المدرسة. لقد اختفتْ دون
أن تودّعني. ربما لأنها قد هاجرت إلى كندا التي ما تزال، بالنسبة لي، بلداً بعيداً
وبارداً يمتلئ بالثلج. أما أنا فبقيتُ وحدي، أجلسُ على الدرج، بجانب المكان الذي
كانت تجلس فيه منال، دون أن يشاركني أحدٌ في موضوع الجرادين.
وها أنا ذا، بعد أكثر من سبعةٍ وعشرين عاماً، أكتبُ عن منال، التي
لا أدري أين هي الآن، وأكتبُ عن "الجرادين" التي ما زالت تسرح وتعيث
فساداً في كهاريز بلادنا، وتنشر الطاعون فوق الأرض وتحت الأرض. أكتبُ عن كل هذا، لا
لشيء، ربما فقط كي أتذكر ذاك الزمان الجميل والوديع، زمان طفولةٍ بريئةٍ أريدها أن
تبقى وتستمر، دون أن تضيع أو تهاجر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق