بين الكبة والفلسفة



حين كنت صغيراً كنت أطرح أسئلة غريبة كما هي الحال في معظم الأطفال: من خلق الله؟ من اخترع الملعقة؟ من اخترع التواليت؟ لماذا لا نلبس الكيلوت فوق البنطلون (مثل سوبرمان)؟ هل يمكن أن نزرع اللحم كي ينبت على الأشجار؟ إلخ … وكان للمأكولات نصيبٌ من هذه الأسئلة: جدو من اخترع الكبة؟ من اكتشف المحشي؟ 
الآن مضى أكثر من عقدين، إلا أنني أرى أن هذه الأسئلة، على بساطتها وطفوليتها، قد تستحق التأمل والإجابة. على سبيل المثال، بحق الآلهة كيف ابتكروا الكبة؟ كيف خطر لهم أن يعجنوا البرغل الناعم بالهبرة ليخرجوا علينا بهذه الأصناف المتعددة؟ من الذين قرروا تفريغ الكوسا والباذنجان من اللب؟ من الذين قرروا حشوه بالرز وتحويله إلى محشي؟ متى وكيف ولماذا حدث كل هذا؟ ما هي الجهات التي تقف وراء الخيارات العديدة التي تحيط بالملوخية: ورق أو مفروكة؟ مع لحم الدجاج أو لحم العجل أو الغنم؟
حالياً بتُّ أرى في اختراع المحشي والكبة والملوخية (والقائمة تطول) فلسفةً قائمةً بحد ذاتها، فلسفة غير مكتوبة، كنوع من التواصل غير المدون، كموقف مسجل تجاه الحياة والأشياء، كاحتفاء بالذائقة الجمالية، بالحياة، بالصخب، بالخصوبة، واحتجاج صامت ضد الموت والفناء. 
أما طقوس الطبخ المتكررة والمتوارثة عبر الأجيال فهي طقوسٌ للحفاظ على هذا الإرث الفلسفي العميق، لتناقله، للترويج له، لنشره وتحويله إلى رسالة سامية وقضية. ولا يقتصر هذا الإرث الفلسفي على عملية الابتكار والطبخ، بل يمتد إلى عملية التذوق. فتناول وجبة من الكبة أو المحشي ممارسة فلسفيةٌ أصيلة، ممارسة تشارك فيها شريحةٌ لا بأس بها من الأحاسيس والعضلات (أعرف أشخاصاً يرقصون فرحاً حين يتناولون هذه المأكولات) - شخصياً يمكنني ببساطة أن أتحول بصورة مؤقتة إلى فيلسوف بمجرد تناول صحن محشي، يمكنني أن أنطق بالكثير من الحكمة بمجرد شم رائحة الملوخية! 
لقد ولّد ذلك لدي قناعة نظرية بأن كل من يتناول المحشي والكبة وغيرها، و”يستمتع” بذلك، هو فيلسوفٌ حتى يثبت العكس (حتى لو لم يكن مُدركاً لذلك، وحتى لو لم يصرح بذلك). بناء على ما سلف فمن المفترض أن تكون بلادنا بلاداً متخمةً بالفلاسفة! من المفترض أن نراهم متخفين في المقاهي، في المدارس، وفي مواقف الباصات، في الزوايا والأزقة، وبين الواقفين على دور الخبز. 
لكن قناعتي النظرية تلك تصطدم بالواقع الأليم … بالله عليكم من أين خرج علينا كل هؤلاء القتلة؟ وكيف أمكن لهذه الحرب المجنونة أن تكون؟ كيف انهار الإرث الفلسفي للمطبخ الشرقي العتيد؟ ترى هل يكمن السبب في ’غياب الفلاسفة‘؟ أو العكس هو الصحيح؟ ألا تعتبر ’كثرة الفلاسفة‘ وصفةً أكيدةً للحرب؟ من يدري …

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق