في فوقية الثورة وانتحارها - مقال منشور في ملحق تيارات في صحيفة الحياة



لقراءة المقال من المصدر يرجى الضغط هنا 

دبّت الروح في كلمة ’ثورة‘ لتجد طريقها من جديد إلى الفضاء العام منذ اندلاع الحدث التونسي عام 2010. وفي مواجهة تسمية المؤامرة، الموغلة في سلبيتها وانكسارها، تم شحن كلمة ’الثورة‘ بالصفات المشرقة والإيجابية المرتبطة بالتحرر والازدهار، حتى صارت الكلمة تعبيراً عن كل الطموحات التي طال كبتها.
في سوريا، ومع ارتفاع سوية العنف، تجاوزت  كلمة ’ثورة‘ موقعها الحالم، لتغدو دلالةً على انتماءٍ جديد: كلمةٌ تُقْصي حتى أولئك الذين استخدموا ألفاظاً أخرى لوصف ما يحدث في البلاد (كالانتفاضة أو الحراك الشعبي) - وكأن الحدث يفقد بريقه ومعناه إن لم نطلق عليه تسمية ’ثورة‘، وكأن نطق هذه الكلمة، بحدِّ ذاته، دليلٌ على امتلاك حقٍّ متعالٍ  قادرٍ على الإفحام دون الحاجة إلى براهين. حتى الموالاة، للمفارقة، لا ترفض فكرة ’الثورة‘ من حيث المبدأ، لكنها تعتقد أن ما يحدث في سوريا ليس ’ثورة‘ بل ’مؤامرة‘. وفي الحالتين تحيط هالةٌ من السحر والقداسة، في صورةٍ مسبقة، بمفهوم ’الثورة‘، فمن ذا الذي يتجرأ ويناقش هذا المفهوم العظيم؟
إلا أن أسئلةً أكثر عمقاً وجذريةً كان يجب أن تُطرح: ما هو مصدر السحر الذي يلازم تسمية ’الثورة‘؟ ولماذا هذا التقديس لمفهوم ’الثورة‘؟ ولماذا يتم وضع ’الثورة‘ خارج نطاق المساءلة والنقد والنقاش؟ ولماذا تغيب مثل هذه الأسئلة عن ساحة النقاش الفكري أصلاً؟
يبدو أن الهوس بالتسمية، والبعد العاطفي والتنزيهي ’للثورة‘، هو ملمحٌ من ملامح العفوية التي أحاطتْ بأحداث المنطقة عموماً، ومن ملامح التبسيط الذي طبع الحراك الفكري عند ’المثقفين‘ خصوصاً؛ أولئك الذين يفترض أن يتعاملوا مع الأحداث وفق رؤيةٍ إبداعيةٍ وخلاقة. ولكن لا بد من التنويه إلى أن الحراك الفكري السائد أسيرٌ لثقافةٍ تقليدية: ثقافةٍ يسود فيها الإقصاء المعتمد على الفكر الغيبي/الخلاصي وثنائيات المقدس/المدنس (حتى لو ادّعى القطيعة مع مرجعياته الثقافية). ولهذا، ومع إسقاط هذا الموروث الثقافي على الخطاب الثوري، أخذت ’الثورة‘ موقعاً استعلائياً يعكس عقلية المروّجين لخطابها. ونتيجةً لذلك تشكّل تلازمٌ ضمنيٌّ ومفترضٌ بين ’الثورة‘ وبين ’الحقيقة‘، لتتحول ’الثورة‘ إلى خطابٍ أيديولوجيٍّ متخشبٍ مستندٍ إلى ضدّه، إلى غطاءٍ لتقوقعٍ جديدٍ قُبَالَةَ ’الآخر‘، وإلى مقياسٍ لتخوين من ’تجرأ‘ على عدم الانضواء في صفوفها: وبالمحصلة تم تأسيس حالةٍ من ’فوقية الثورة‘. يتشابه هذا الخطاب الثوري مع نظيره في النظام المستبد الذي يعيش وَهْمَ التلازم المطلق مع ’الحقيقة‘، كما يستند كلا الخطابين إلى نهجٍ إقصائيٍ يشيع في القراءات المتطرفة للفكر الديني. ولعلّه من المؤسف أن نرى هذا التكامل بين التبسيط الذي رافق خطاب ’الثورة‘ وبين ضحالة الطرف النقيض من المعادلة؛ أي ضحالة خطاب ’المؤامرة‘.
بالتوازي مع ما سبق، ينطلق الخطاب الثوري السائد، الذي يؤسس لـ ’فوقية الثورة‘، من اعتقادٍ بأن التاريخ مسيرٌ نحو الأعلى، نحو التقدم والترقي (على خلاف خطاب النظام الذي يتوهم تاريخاً جامداً يدور في فلكه). وعليه تبدو ’الثورة‘، وفق هذا الاعتقاد، كمكافئٍ مجازيٍّ للمصير العظيم والسعيد، وللقَدَرِ الأكيد والمحتوم، وللمضي قُدُماً في دربٍ صاعدٍ: نحو الانعتاق والتحرر. هذه النظرة الرومانسية، التي يفترض ألا تكون تقليدية، هي للمفارقة نظرةٌ موغلةٌ في تقليديتها: إذ تستند إلى مقاربةٍ غَيْبِيَّةٍ/قَدَرِيّة للعالم، وتستحضر، في صورةٍ انتقائية، مسلّماتٍ وسيناريوهاتٍ وشواهد تاريخية سابقة، وتميل دون أن تدري إلى السعي نحو ’التماثل‘ مع نماذج مُعَدَّة سلفاً، مع ما يعكسه ذلك من محدوديةٍ إبداعيةٍ عند مثقفيها وصنّاع خطابها. ومع تدهور الأوضاع، وبسبب عدم القدرة على تحقيق هذا ’التماثل‘ المفترض، تنزلق ’الثورة‘، وبطبيعة الحال الأنظمة القمعية، نحو خلق بيئةٍ عنفيةٍ مع وصفةٍ أكيدةٍ للفاشية ونظريات المؤامرة - في تناقضٍ مع البعد الرومانسي التقدمي الذي يبقى ملازماً نظرياً لمفهوم ’الثورة‘. سعى بعض عُتاة ’الديكتاتوريين الثوريين‘ إلى تحقيق هذا ’التماثل‘ المفترض مع أفكارٍ ونماذج مسبقة في سبيل ’هندسة مجتمعاتهم‘: كما في حكم الإرهاب بُعَيْدَ الثورة الفرنسية، الحرب الأهلية البولشفية، العهد الستاليني، نظام البول بوت في كمبوديا، وغيرها. فالهدف الرئيسي في كل هذه الحالات هو تطهير المجتمع و’خلق‘ (أو ’نحت‘، حسب تعبير موسوليني) أجيالٍ جديدةٍ قادرةٍ على الانعتاق من وحل التخلف (طبعاً بعد أن تتم قولبة هذه الأجيال وفق ما تريده السلطة صاحبة الغلبة). وقد أدى الاستيراد اللامبالي –واللاواعي ربما- لهذا السعي المحموم نحو ’التماثل‘، من قِبَلِ النظام والمعارضة في السياق السوري، إلى كلفةٍ بشريةٍ وماديةٍ هائلة، مع خلق أرضٍ خصبةٍ لهدر الإنسان الذي بات كائناً هامشيّاً أمام الأيديولوجيا، كائناً زائداً عن الحاجة في ساحة حربٍ خلاصية: كائنٌ ’يجب‘ أن يموت في سبيل مستقبلٍ ما، يُعْتَقَدُ أنه سيكون مشرقاً!
لا تبشّر معطيات الواقع الأليم بتحقيق الطموحات المفترضة ’للثورة‘، بل على العكس سيستمر تفريغ مفهوم ’الثورة‘ من محتواه، مع الإبقاء على رومانسية التسمية، وستزيد الفجوة بين الواقع والحلم يوماً بعد يوم. ولردم هذه الفجوة، وبدلاً من مواجهة الواقع، يعمد كثيرون إلى ارتكاب فعل التجميل والنكران، والعيش في توهُّمٍ متفاقمٍ يعيد تأكيد ’فوقية الثورة‘، ويُغني موقتاً عن إدراك القباحة.
يبدو أن الفكاك من هذا الوضع الكارثي مرتبطٌ، في جانبٍ منه على الأقل، بتأسيس عقليةٍ جديدة، وبجهودٍ ذاتيةٍ نابعةٍ من صميم شعوب المنطقة: عقليةٍ تبتعد عن منطق التأليه، وتتحرر من حمى التقليد والتماثل، ومن أسر التسميات (ثورة أو سلطة أو غيرها). أما تحويل الثورة إلى ’وثنٍ‘ يحاول التماثل مع نماذج سابقة فهو كبحٌ للنقد والإبداع، وتضخيمٌ لمصادرة ’الحقيقة‘، مع إعادة تشكيل ’الثورة‘، عاجلاً أو آجلاً، في بنيةٍ مُصْمَتَةٍ تشابه المستبد الذي تثور عليه. ’فوقية الثورة‘، باختصار، وصفةٌ أكيدةٌ لانتحار أي ’ثورة‘.







ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق