بلاد الموت والنار



ذنبهم أنهم أشرف، ذنبهم أنهم أجرأ، ذنبهم أنهم أجمل. شبابٌ قضوا بعيداً عن الأهل، بعيداً عن الشمس، بعيداً عن الحق، وعنا بعيداً رحلوا، وصاروا هناك قرب الله. هل من عقلٍ يستوعبُ؟ هل من قلبٍ يحتملُ؟ لا عزاء لنا والضمير موؤود، والدم مسفوح، والعدالة مفقودة، والجلاد الحقير الدنيء يتربع على عرشٍ من الدم. 

هذا الوطن له سقفٌ من غربانٍ ودخان، له جدرانٌ من ألمٍ وجماجم. هذا الوطن الذي ظنناه وطناً ليس بوطن. هو ساحةٌ للموت، مشنقةٌ ومقصلة، نارٌ وقيح، وقبرٌ تحكمه طغمةٌ من الجلادين. 

مدنسةٌ هي الأرض الي تحكمها طغمةٌ من الجلادين. مدنسةٌ هي الأرض التي تحمل بشراً تصفق لطغمةٍ من الجلادين. والله لا يرحم من لا يرحم، والملائكة لا تتنزل على أرضٍ مدنسة، وأنا العبد الفقير إلى مثل تلك الأرض لا أنتمي، وإلى مثل تلك الأرض لا أرحل أو أعود. 

الاستبداد الحديث: صناعة القبح واغتيال الجمال - مقال منشور في ملحق تيارات في صحيفة الحياة



لقراءة المقال من موقع الصحيفة يرجى الضغط هنا

مـــر عـــلى المنـــطقة الجغرافـيـــة المتــعارف على تسميتها سورية كثير من الدول والسلالات الحاكمة عبر التاريخ. وبعيداً من الاستبداد السياسي والثقافي الذي حكم المنطقة لقرون عدة، تراكم الكثير من الأوابد والآثار والشواهد المعمارية التي تعكس الفترات التاريخية التي تنتمي إليها، حيث يمكن الحديث عن العمارة في العهد الزنكي أو الأيوبي أو المملوكي أو العثماني أو حتى فترة الاستعمار الفرنسي... إلخ، لكن على خلاف الحقب السابقة يبرز سؤال عن البصمة المعمارية في ظل الدولة السورية الحديثة، وعن إمكان الإشارة إلى ملامح تميز هذه الحقبة المعاصرة على مدى العقود القليلة الماضية.
في مثال بسيط من حلب من حقبة ليست بالبعيدة، وفي العقود الأولى من القرن العشرين، زرع القائمون على بلدية المدينة حديقة غناء من الورد الجوري تمتد في الباحة الخلفية من مبنى المحافظة الذي كان يقع قبالة قلعة حلب الشهيرة (للأسف تم تدمير هذا المبنى الأثري ذي العمران البديع في تفجير واسع عام ٢٠١٤). وقد خصصت البلدية آنذاك موظفين مهمتهم الصباحية هي إعداد باقات من الورد وتوزيعها على دوائر الدولة ومكاتب الموظفين وقاعات انتظار المراجعين في عموم حلب! هذه اللفتة البسيطة تعكس ذائقة جمالية كانت تميز القائمين على الدولة السورية الناشئة ذات الملايين الثلاثة، في زمن طموح كان التخطيط العمراني والانفتاح الاقتصادي في أوجه، وكان فيه للقاضي وقاره، وللمعلم مكانته، وللموظف (الأفندي) مركزه.
في نظرة سريعة إلى الواقع العمراني في «سورية الأسد» ستبرز قبالتنا العشوائيات وأحزمة الفقر كعنوان عريض ينتشر كالسرطان، في استباحةٍ بصريةٍ تخفي بين حواريها الموحلة، ووراء حيطانها المتهالكة، وتحت أساساتها المغشوشة، بؤساً وألماً وفقراً وظلماً وغضباً مكبوتاً، وأخباراً عن تزاوجٍ مرعبٍ بين تجار البناء المخالف، والقائمين على الفروع الأمنية في البلاد: شبكة ضخمة من المافيا التي تسهر على قهر المواطن وإفشاء القباحة.
ستصدمنا كتل البناء الأسمنتية الكالحة، والمشبعة بالإرث السوفياتي/ الكوري الشمالي، والتي تخلق حالةً من المساواة المجحفة على المستوى المعماري والجمالي. فالمدارس الابتدائية والمراكز الصحية في سورية لا تختلف من حيث البنية والشكل الخارجي عن السجون ومقرات الاعتقال وفروع المخابرات ومعسكرات الجيش.
أما الوزارات والدوائر العامة والحكومية في سورية، التي يفترض بها أن تكون واجهةً تعكس هيبة الدولة وكرامة المواطن، فهي مجسمات للكآبة والضحالة الفنية وانعدام الذائقة والنظافة، سواء على مستوى العمران الخارجي أو العمران الداخلي فضلاً عن التعامل الخدمي السيئ والمنسجم مع روح المكان.
يتنافر هذا الفقر المعماري مع ما قد يحيط به من أوابد تاريخية تحفل بها سورية: هناك تنافر جارح ومؤلم بين الماضي القريب والبعيد وبين الحاضر بما يحمله من أزمات. فوسط هذه الفوضى البصرية تبدو المدينة القديمة، على سبيل المثال، بما تحتوي عليه من عراقة وآثار، حالةً من التضاد، رغبةً في القطيعة، أو شاهداً على العار المعاصر.
للمفارقة، فهذا الوضع المزري عمرانياً وجمالياً للحيز العام لا يتوافق مع جنون العظمة الذي يتمتع به الديكتاتور الذي يفترض به أن يترجم جنونه في عظمةٍ معمارية، كما كان يفعل أسلافه وأقرانه ممن عاشوا نشوة السلطة واستبدوا بها. لكن يبدو أن الديكتاتورية السورية المعاصرة تعاني من همجية ثقافية وفقر مريع في الذائقة الجمالية. وهذا ما قد يفسر جانباً من الفراغ المدقع في البصمة العمرانية خلال السنوات الستين الماضية، وحالة الخواء الموحشة في المشهد البصري على امتداد المدن والأرياف وحتى الغابات والأحراش السورية، حتى يخال المرء أن الديكتاتور المعاصر فنان يتقن اجتثاث الجمال وتدميره، وحياكة القباحة وتعميمها وتحويلها إلى قباحة مزمنة تنتشر لتصيب حتى من يعارضها.
فعوضاً من تجميل الحيز العام كان هاجس الديكتاتورية السورية المعاصرة هو تشويه هذا الحيز، مصادرته، الاستيلاء عليه، واحتلاله والإعلان عن ملكية حصرية وأبدية للوطن الذي بات مزرعة يتم توريثها: صور الديكتاتور معلقة على الحيطان، وتماثيله منصوبة في الساحات والطرقات، ولافتات التأييد في الحواري والأزقة. لم تسلم من كل هذا حتى البيوت ودواخلها: فمن دفاتر المدرسة وكتب القراءة ومناهج التعليم إلى الإعلام الرسمي والعملات الورقية والأغاني والهتافات. لا يهم إن كانت صورة القائد الرمز معلقة على أنقاض مدينة تم قصفها، ولا يهم إن كانت شعارات الوفاء للديكتاتور مرسومة على حائط شهد إعداماً ميدانياً لشباب بعمر الورود، المهم أن يستمر هذا التطويع والتسخير الهائل للمجال البصري والسمعي في الداخل والخارج لخدمة استبداد الديكتاتور.
وهكذا تم مسخ الحيز العام في سورية من مساحة وفرصة جماعية للقاء المواطنين، إلى هامش منكمش ومتقلص يتم فيه تقيؤ الأيديولوجيا المتخشبة، وتذكير المواطن التعيس والخائف بتعاسته وخوفه، وبضرورة الصمت والحذر في ظل سلطة تختصر قيمة الإنسان في زنزانة للتعذيب وقبو للمخابرات.
ولعله من المثير ان نلاحظ التشارك في انعدام الذائقة الفنية وعداء العمران عند أنصار الفكر الأيديولوجي المتخشب، سواء كان ذا صيغة دينية أو لادينية. إذ يتم النظر إلى العمارة المتحضرة والمتميزة على أنها مصدرٌ للتلوث قد يؤثر على النقاء الاجتماعي الرتيب في مجتمعٍ قائمٍ على تمجيد رمزٍ أوحد. وتبعاً للتوجه الأيديولوجي تتنوع التبريرات: العمران علامةٌ على التفاوت الطبقي والاجتماعي بحسب التفسير الشيوعي، أو صورةٌ من صور البرجوازية وفق المبادئ الاشتراكية، أو تأثرٌ بالبدع أو بالغرب الكافر وفق القراءة الدينية المتطرفة!
هذا الموقف المشترك بين دعاة التطرف، والمشيطن لجمالية العمران وروح الحضارة، كفيلٌ بتفريغ ضمير القتلة من أي شعورٍ بالتأنيب تجاه البشاعة القائمة، وتجاه التخريب المؤلم والممنهج والإجرامي الذي نشهده كل يوم ضد العمران والإنسان، من دمشق إلى بغداد ومن حلب إلى الموصل. وهكذا يموت الشعب ويموت الوطن ويموت الجمال، من أجل خواء قبيح يحكمه ديكتاتور أجوف.

مساهمة منشورة في مجلة "التايمز للتعليم العالي": حول سوريا والعلم والمنفى



ملاحظة: لقراءة المساهمة من موقع تايمز التعليم العالي (بالإنكليزية) يرجى الضغط هنا.

المنفى: لقد كانت الاستجابة غير كافية. نحن بحاجة إلى إرادةٍ حقيقية، وخطط للعمل.
للتعليم حضورٌ بارزٌ لدى الطبقة الوسطى السورية.
بدلاً من الاستسلام للتشاؤم، يجب علينا التمسك بإيماننا بالخير المبثوث في الجنس البشري.

في ذلك اليوم، كنتُ أشاهد مقابلةً على قناة سكاي نيوز مع سيدةٍ من سوريا اسمها رشا. كانت عالقةً على الحدود المجرية-الصربية مع زوجها وابنتها البالغة من العمر ست سنوات. قالت رشا: "كل [المهاجرين] يريدون الذهاب [إلى أوروبا] من أجل أطفالهم، وليس من أجل أنفسهم أنفسهم. أوكي. خذ طفلتي إلى ألمانيا، لا مشكلة عندي. وسوف أعود إلى سوريا. حقي في أن أعيش حياة آمنة؟ أنا لا أريد هذا الحق، ولكن أريده لطفلتي، كي تذهب إلى المدرسة، هذا حق بسيط، أليس كذلك؟"(يمكن متابعة المقابلة عبر الضغط هنا)
للتعليم حضورٌ بارزٌ لدى الطبقة الوسطى السورية. فمنذ إنشائها عام 1918، شهدت سوريا تزايداً في معدلات الإلمام بالقراءة والكتابة، وتميزت بنظامٍ تعليمي معقول، وبوجود مدارس وجامعات عامة. ومع ذلك، فإن السلطات السورية المتعاقبة تعاملت مع النظام التعليمي كأداة لتوريد البيروقراطيين والفنيين والتقنيين، وليس من أجل إثراء البحث والتفكير النقدي والحياة الفكرية. وقد أصبح هذا النهج "النفعي" أكثر وضوحاً بعد مجيء حزب البعث السلطة عام 1963، حيث قَمَعَ حرية التعبير، وفَرَضَ القيود الأيديولوجية على العلوم الاجتماعية والإنسانية، واستخدمَ المدارس والجامعات كمؤسساتٍ للدعاية الحزبية.
في العقد الماضي، تم إدخال إصلاحات على القطاع التعليمي العالي، بما في ذلك رواتب أفضل للأكاديميين وزيادة في تمويل البحوث العلمية. في ذلك الوقت، كنتُ محاضراً مساعداً في جامعة حلب. بعدها وأثناء إقامتي في المملكة المتحدة للتحضير للدكتوراه، ساهمت في إنشاء وحدة أبحاث السرطان في جامعة حلب عام 2011. ولكن الحماس بإطلاق وحدة أبحاث السرطان كان ممزوجاً بشعور بأن المشروع غير قابل للاستمرار، فالإصلاحات كانت جزئية ومقتصرة فقط على قطاع التعليم العالي، مع تجاهلها للقيود المفروضة على المجتمع السوري ككل في ظل الاستبداد.
لقد تركت الأزمة السورية، والتي بدأت في العام نفسه، وأدت إلى ما يقدر بـ 250،000 حالة وفاة و 12 مليون نازح. وبالتأكيد في ظل هذه الأوضاع فقد تضررت القطاعات الأكاديمية والتعليمية، ولم تكن في منأى من الآثار التدميرية. أما الأبحاث العلمية، بما في ذلك وحدة أبحاث السرطان التي أغلقت عام 2012، فقد أصبحت ترفاً لا يمكن التفكير فيه في سياق الأزمة الإنسانية القائمة. لقد تضرر الطلاب والعاملون في القطاع الأكاديمي والتعليمي، واضطر الكثير منهم إلى ترك البلاد بسبب التهديدات المباشرة أو غير المباشرة على حياتهم، وكنتُ واحداً من هؤلاء السوريين، وهذا ما أدى إلى قراري في أن استقر في المملكة المتحدة عام 2012.
للأسف فإن استجابة العالم تجاه الأزمة السورية غير كافية، غير منظمة، وغير مستدامة. المملكة المتحدة يمكن لها، ويجب عليها، بذل المزيد من الجهد. فلدى المملكة المتحدة الموارد المادية، والمسؤولية الأخلاقية، إضافة إلى تاريخ حافل بدعم اللاجئين. يمكن للمملكة المتحدة مثلاً دعم مشاريع السلام، ودعم أبحاث مكثفة عن جذور الأزمة السورية، والدفع نحو حلول حقيقية. يمكن للجامعات في المملكة المتحدة أن تلعب دوراً هاما أيضاً من خلال تقديم المنح الدراسية والزمالات لدعم الباحثين والخريجين السوريين. كما يمكن وضع برامج مشتركة مع الجامعات في تركيا ولبنان والأردن، والمساهمة في لإقامة جامعات ومدارس موقتة للاجئين السوريين في دول الجوار. ما نحتاج إليه هو الإرادة الحقيقية، وخطط العمل.
من المؤسف أن البشر لم يبتكروا طرقاً لتسوية النزاعات دون اللجوء إلى الحرب والدمار. ومع ذلك، وبدلاً من الاستسلام للتشاؤم، يجب علينا التمسك بإيماننا بالخير المبثوث في الجنس البشري. حينها، يمكن أن تأتي الفرصة للشتات السوري المتزايد، بما في ذلك الأكاديميين المغتربين من أمثالي، كي يعودوا إلى وطنهم السوري مرة أخرى.

طلال الميهني: باحث في قسم العلوم العصبية السريرية في جامعة كامبردج، ويشغل منصب مدير مركز دراسات الفكر والشأن العام.

لقراءة المساهمة من موقع تايمز التعليم العالي (بالإنكليزية) يرجى الضغط هنا.

مجلة التايمز للتعليم العالي: كيف تعاملت الأكاديميا الأوروبية مع أزمة اللائجين






مادة الغلاف الرئيسية لعدد تشرين الأول/أوكتوبر من مجلة تايمز التعليم العالي الصادرة في لندن بعنوان: "نداء من أجل العمل: كيف تعاملت الأكاديميا الأوروبية مع أزمة اللاجئين". المادة من تحرير جون جيل، وقد ساهم فيها كلٌّ من:

-       جاك جروف مراسل مجلة التايمز للتعليم العالي
-       البروفسور مايكل لافاليت من جامعة ليفربول هوب
-       أكاديمية سورية لم تشأ الإفصاح عن اسمها
-       الدكتور بيتر هينينغسن من الجامعة التقنية في ميونيخ
-       الدكتور فرانك دوفيل من جامعة أوكسفورد
-       الدكتور طلال الميهني من جامعة كامبريدج

أنا ومنال والجرذان







منال هي رفيقتي حين كنتُ في الصف الثالث الابتدائي. كان لمنال عيونٌ كبيرةٌ ورأسٌ مدوّر، شعرٌ قصيرٌ ومسترسلٌ مع ابتسامةٍ شبه دائمة. كل صباح، يوصلني الباص إلى المدرسة قبل بدء الدوام بحدود نصف الساعة، فأقضي الوقت وأنا أمشي في الباحة.
في أحد أيام الخريف وجدتُ منال جالسةً على الدرج، وهي تنظرُ يميناً وشمالاً، وكأنها تبحثُ عن شيءٍ ما. جلستُ بجانبها، وسألتُ: عماذا تبحثين؟ فأجابتْ: أبحث عن الجرذان! ورغم الغرابة في جوابها، إلا أننا ومنذ تلك اللحظة صرنا أصدقاء، وأصبحنا نجتمع كلَّ يومٍ كي نتحدث في موضوعنا الشيق: "موضوع الجرذان" (أو "الجرادين" كما كنا نقولها باللهجة العامية). كانت حنجرةُ منال تلفظ كلمة "جرادين" بصورةٍ مميزة: حرف الدال يبدو وكأنه حرف الضاد، والجيم مخففةٌ كما في الإفرنسية، أما الكلمة عموماً فكان لها رنينٌ موسيقيٌّ متدحرجٌ وانسيابيٌّ، بخاصة حين تختلط مع مغامرات منال مع الجرادين، وحكاياتها عن قدرة هذه الكائنات على الهرب، والاختباء، والابتعاد عن دواليب السيارات المسرعة، والدخول في الشروخ الضيقة في الأبواب والجدران.
حتى تلك المرحلة من حياتي لم أشاهد جردوناً رؤي العين، واقتصرتْ معرفتي بـ "الجرادين" على التلفزيون وبعض الصور في الكتب. فالجرادين كائناتٌ سوداء بعيونٍ حمراء، تعيش في الكهاريز، قبيحةٌ ومتسخة، وكلما كبر حجم الجردون كلما كان أكثر قبحاً وأكثر قدرة على نشر الأوساخ. علمتُ فيما بعد أن الجرادين تساهم في نشر مرض الطاعون، وأن كلمة جردون شتيمةٌ أصيلةٌ ترتبط بالوضاعة والخسة، وأن لحم الجردون وجبةٌ مفضلةٌ عند بعض الشعوب، وأن بعض الثقافات تقدس الجرادين!
أما منال فكانت محظوظةً أكثر مني، إذ قلّما يمر يومٌ لا تشاهد فيه جردوناً! تحت السيارة، في بهو المدرسة، على الدرج الذي اعتدنا الجلوس عليه، في المطبخ، في الحديقة، وفي الغسالة أو حتى داخل البراد! لم أكن أصدقها، كيف يمكن هذا؟ كانت منال تقسمُ على ذلك مراتٍ عديدة، إلى أن يقرع جرس المدرسة ونتوجه إلى الصف، وأنا حالةٍ من التفاجؤ وعدم الاقتناع.
أذكرُ مرةً كانت فيها منال تحاول وصف جردونٍ كبيرٍ شاهَدَتْه في زاوية الشارع، كانت تفتح ذراعيها، كانت تمدُّهُما بكلِّ ما أُوتِيَتْ من قوةٍ، كي تَصِفَ لي كتلة الجردون الضخمة. كنتُ أعيشُ الدهشة في كل التفاصيل، منطلقاً بخيالي، وأنا أحاول رسم ملامح جردونٍ بلونٍ رماديٍّ غامقٍ، بشعرٍ خشنٍ ومنتصب، بأسنان حادة وجارحة، بعيونٍ نصف مغمضة وخبيثة، وبحجمٍ يتجاوز حجم حقيبتي المدرسية التي كانت تهدُّ كتفي الصغير. هل يعض؟ هل له صوت؟ هل له رائحة؟ هل صحيحٌ أن لأرجله لونٌ زهريٌّ باهت؟ أسأل بفضولٍ عميقٍ ممزوجٍ بشيءٍ من الخوف.
كان يتخلل حديثنا الشيق والمستمر تصريحات منال بأن أهلها سوف يهاجرون إلى كندا، وأن عليها أن تذهب معهم. كانت تقولها بكثيرٍ من الحيادية، بلا مشاعر حزنٍ أو فرح. وكنتُ أستمع إليها باهتمامٍ بكثيرٍ من الحيادية، بلا مشاعر حزنٍ أو فرح. في تلك الأيام، كانت كندا بالنسبة لي بلداً بعيداً وبارداً يمتلئ بالثلج. وبطبيعة الحال كان السؤال الملح لكلينا: هل في كندا جرادين؟
أسأل نفسي الآن، بعد سبعةٍ وعشرين عاماً، ترى ما السبب الذي يدفع بطفلين كي يتحدثا عن الجرادين؟ هل هو شكل الجرادين؟ هل هو شعور القرف منها؟ أو هو تأثيرٌ من الأهل والمدرسة؟ لا أدري. لكن الأكيد أنه كان للجرادين حضورٌ عميقٌ في وعينا، أنا ومنال، نحن تلاميذ الثالث الابتدائي.
في الفصل الثاني لم أعد أرى منال. غابت عن المدرسة. لقد اختفتْ دون أن تودّعني. ربما لأنها قد هاجرت إلى كندا التي ما تزال، بالنسبة لي، بلداً بعيداً وبارداً يمتلئ بالثلج. أما أنا فبقيتُ وحدي، أجلسُ على الدرج، بجانب المكان الذي كانت تجلس فيه منال، دون أن يشاركني أحدٌ في موضوع الجرادين.
وها أنا ذا، بعد أكثر من سبعةٍ وعشرين عاماً، أكتبُ عن منال، التي لا أدري أين هي الآن، وأكتبُ عن "الجرادين" التي ما زالت تسرح وتعيث فساداً في كهاريز بلادنا، وتنشر الطاعون فوق الأرض وتحت الأرض. أكتبُ عن كل هذا، لا لشيء، ربما فقط كي أتذكر ذاك الزمان الجميل والوديع، زمان طفولةٍ بريئةٍ أريدها أن تبقى وتستمر، دون أن تضيع أو تهاجر.