لقراءة المقال من موقع الصحيفة يرجى الضغط هنا
مـــر عـــلى المنـــطقة الجغرافـيـــة المتــعارف على تسميتها سورية كثير من الدول والسلالات الحاكمة عبر التاريخ. وبعيداً من الاستبداد السياسي والثقافي الذي حكم المنطقة لقرون عدة، تراكم الكثير من الأوابد والآثار والشواهد المعمارية التي تعكس الفترات التاريخية التي تنتمي إليها، حيث يمكن الحديث عن العمارة في العهد الزنكي أو الأيوبي أو المملوكي أو العثماني أو حتى فترة الاستعمار الفرنسي... إلخ، لكن على خلاف الحقب السابقة يبرز سؤال عن البصمة المعمارية في ظل الدولة السورية الحديثة، وعن إمكان الإشارة إلى ملامح تميز هذه الحقبة المعاصرة على مدى العقود القليلة الماضية.
في مثال بسيط من حلب من حقبة ليست بالبعيدة، وفي العقود الأولى من القرن العشرين، زرع القائمون على بلدية المدينة حديقة غناء من الورد الجوري تمتد في الباحة الخلفية من مبنى المحافظة الذي كان يقع قبالة قلعة حلب الشهيرة (للأسف تم تدمير هذا المبنى الأثري ذي العمران البديع في تفجير واسع عام ٢٠١٤). وقد خصصت البلدية آنذاك موظفين مهمتهم الصباحية هي إعداد باقات من الورد وتوزيعها على دوائر الدولة ومكاتب الموظفين وقاعات انتظار المراجعين في عموم حلب! هذه اللفتة البسيطة تعكس ذائقة جمالية كانت تميز القائمين على الدولة السورية الناشئة ذات الملايين الثلاثة، في زمن طموح كان التخطيط العمراني والانفتاح الاقتصادي في أوجه، وكان فيه للقاضي وقاره، وللمعلم مكانته، وللموظف (الأفندي) مركزه.
في نظرة سريعة إلى الواقع العمراني في «سورية الأسد» ستبرز قبالتنا العشوائيات وأحزمة الفقر كعنوان عريض ينتشر كالسرطان، في استباحةٍ بصريةٍ تخفي بين حواريها الموحلة، ووراء حيطانها المتهالكة، وتحت أساساتها المغشوشة، بؤساً وألماً وفقراً وظلماً وغضباً مكبوتاً، وأخباراً عن تزاوجٍ مرعبٍ بين تجار البناء المخالف، والقائمين على الفروع الأمنية في البلاد: شبكة ضخمة من المافيا التي تسهر على قهر المواطن وإفشاء القباحة.
ستصدمنا كتل البناء الأسمنتية الكالحة، والمشبعة بالإرث السوفياتي/ الكوري الشمالي، والتي تخلق حالةً من المساواة المجحفة على المستوى المعماري والجمالي. فالمدارس الابتدائية والمراكز الصحية في سورية لا تختلف من حيث البنية والشكل الخارجي عن السجون ومقرات الاعتقال وفروع المخابرات ومعسكرات الجيش.
أما الوزارات والدوائر العامة والحكومية في سورية، التي يفترض بها أن تكون واجهةً تعكس هيبة الدولة وكرامة المواطن، فهي مجسمات للكآبة والضحالة الفنية وانعدام الذائقة والنظافة، سواء على مستوى العمران الخارجي أو العمران الداخلي فضلاً عن التعامل الخدمي السيئ والمنسجم مع روح المكان.
يتنافر هذا الفقر المعماري مع ما قد يحيط به من أوابد تاريخية تحفل بها سورية: هناك تنافر جارح ومؤلم بين الماضي القريب والبعيد وبين الحاضر بما يحمله من أزمات. فوسط هذه الفوضى البصرية تبدو المدينة القديمة، على سبيل المثال، بما تحتوي عليه من عراقة وآثار، حالةً من التضاد، رغبةً في القطيعة، أو شاهداً على العار المعاصر.
للمفارقة، فهذا الوضع المزري عمرانياً وجمالياً للحيز العام لا يتوافق مع جنون العظمة الذي يتمتع به الديكتاتور الذي يفترض به أن يترجم جنونه في عظمةٍ معمارية، كما كان يفعل أسلافه وأقرانه ممن عاشوا نشوة السلطة واستبدوا بها. لكن يبدو أن الديكتاتورية السورية المعاصرة تعاني من همجية ثقافية وفقر مريع في الذائقة الجمالية. وهذا ما قد يفسر جانباً من الفراغ المدقع في البصمة العمرانية خلال السنوات الستين الماضية، وحالة الخواء الموحشة في المشهد البصري على امتداد المدن والأرياف وحتى الغابات والأحراش السورية، حتى يخال المرء أن الديكتاتور المعاصر فنان يتقن اجتثاث الجمال وتدميره، وحياكة القباحة وتعميمها وتحويلها إلى قباحة مزمنة تنتشر لتصيب حتى من يعارضها.
فعوضاً من تجميل الحيز العام كان هاجس الديكتاتورية السورية المعاصرة هو تشويه هذا الحيز، مصادرته، الاستيلاء عليه، واحتلاله والإعلان عن ملكية حصرية وأبدية للوطن الذي بات مزرعة يتم توريثها: صور الديكتاتور معلقة على الحيطان، وتماثيله منصوبة في الساحات والطرقات، ولافتات التأييد في الحواري والأزقة. لم تسلم من كل هذا حتى البيوت ودواخلها: فمن دفاتر المدرسة وكتب القراءة ومناهج التعليم إلى الإعلام الرسمي والعملات الورقية والأغاني والهتافات. لا يهم إن كانت صورة القائد الرمز معلقة على أنقاض مدينة تم قصفها، ولا يهم إن كانت شعارات الوفاء للديكتاتور مرسومة على حائط شهد إعداماً ميدانياً لشباب بعمر الورود، المهم أن يستمر هذا التطويع والتسخير الهائل للمجال البصري والسمعي في الداخل والخارج لخدمة استبداد الديكتاتور.
وهكذا تم مسخ الحيز العام في سورية من مساحة وفرصة جماعية للقاء المواطنين، إلى هامش منكمش ومتقلص يتم فيه تقيؤ الأيديولوجيا المتخشبة، وتذكير المواطن التعيس والخائف بتعاسته وخوفه، وبضرورة الصمت والحذر في ظل سلطة تختصر قيمة الإنسان في زنزانة للتعذيب وقبو للمخابرات.
ولعله من المثير ان نلاحظ التشارك في انعدام الذائقة الفنية وعداء العمران عند أنصار الفكر الأيديولوجي المتخشب، سواء كان ذا صيغة دينية أو لادينية. إذ يتم النظر إلى العمارة المتحضرة والمتميزة على أنها مصدرٌ للتلوث قد يؤثر على النقاء الاجتماعي الرتيب في مجتمعٍ قائمٍ على تمجيد رمزٍ أوحد. وتبعاً للتوجه الأيديولوجي تتنوع التبريرات: العمران علامةٌ على التفاوت الطبقي والاجتماعي بحسب التفسير الشيوعي، أو صورةٌ من صور البرجوازية وفق المبادئ الاشتراكية، أو تأثرٌ بالبدع أو بالغرب الكافر وفق القراءة الدينية المتطرفة!
هذا الموقف المشترك بين دعاة التطرف، والمشيطن لجمالية العمران وروح الحضارة، كفيلٌ بتفريغ ضمير القتلة من أي شعورٍ بالتأنيب تجاه البشاعة القائمة، وتجاه التخريب المؤلم والممنهج والإجرامي الذي نشهده كل يوم ضد العمران والإنسان، من دمشق إلى بغداد ومن حلب إلى الموصل. وهكذا يموت الشعب ويموت الوطن ويموت الجمال، من أجل خواء قبيح يحكمه ديكتاتور أجوف.