مقال منشور في صحيفة الحياة بعنوان: في الجدل الطبي حول زراعة الرأس/الجسد





طرح فيلم "الشيء ذو الرأسين"، من إنتاج عام 1972، فكرة وصل رأسٍ آدميٍّ مقطوعٍ بجسم شخصٍ آخر، ليتشكل كائنٌ بشريٌّ برأسين! يندرجُ موضوع الفيلم في باب الخيال العلمي، لكن لهذه الفكرة جذوراً في الميثولوجيا القديمة والسرديات الدينية. إذ كما تخبرنا الآثار التاريخية، فقد كان الإنسان مُولعاً بابتكار أنماط متخيلة من علاقة الرأس/الجسد: فعند اليونان القدماء نجد جانوس برأسين (أو وجهين)، وهيكاتي بثلاثة رؤوس، وعند الهندوس فالإله براهما بأربعة رؤوس، هذا فضلاً عن المخلوقات الأسطورية التي تملك رأس إنسان وجسد حيوان (كما في المانتيكور وأبو الهول)، أو العكس (أنوبيس والمينوتور مثلاً). وبعيداً عن الخيال العلمي والميثولوجي والديني، يحفل الأدب الطبي بحالاتٍ ولاديةٍ موصوفةٍ ونادرة لتوائم غير منفصلة، حيث يتبارز رأسٌ ثانٍ من الكتف أو الظهر أو الرقبة (كما في التوأم الأمريكي أبيغيل وبريتاني هينسيل).
في كل هذه الأمثلة تأخذ العلاقة بين الرأس/الجسد أشكالاً مخالفة للنمط الطبيعي الشائع، لكن يبدو أن هذه العلاقة على وشك أن تدخل مساراً مختلفاً وغير مسبوق؛ فقد أعلن الشاب الروسي فاليري سبيريدونوف (30 عاماً)، المصاب بداءٍ عصبيٍّ نادرٍ من الضمور العضلي، عن رغبته في أن يتم فصل رأسه عن جسده المشلول، ووصله بجسد متبرع. جاء هذا الإعلان الفريد من نوعه بعد أن أطلق الجراح سيرجيو كانافيرو، وهو من مركز الدراسات العصبية المتقدمة في تورين الإيطالية، مشروعاً طموحاً في مقالٍ منشورٍ في مجلة الجراحة العصبية الدولية عام 2013.
تناقلت الصحافة ووسائل التواصل الاجتماعي هذا الخبر بخليطٍ من التبسيط والتهويل، مشيرةً إلى أنه من المقرر أن يتم إنجاز العملية عام 2017. وكما هو متوقع فقد تناقضت ردود الأفعال والمواقف التي تراوحت بين الإيجابية والسلبية، والمتحمسة والرافضة. لكن بعيداً عن المفاجأة التي أثارها هذا لخبر المعاصر، فقد يكون من المفاجئ أكثر أن نعلم بأن الفكرة ليست بجديدة، إذ طالما كان الرأس البشري موضوعاً للفُضول العلمي. فمنذ اندلاع الثورة الفرنسية والاستخدام الواسع للمقصلة التي حصدتْ آلاف الرؤوس، برزت تساؤلاتٌ عن قدرة الرأس البشري المقطوع على الشعور، والبقاء على قيد الحياة والوعي بعيد انفصاله عن الجسد (وإن كان ذلك لثوانٍ معدودة). وقد لخّص الألماني صموئيل فون سوميرينغ هذه التساؤلات في رسالةٍ حظيت بانتشار واسع عام 1795، ما أدّى إلى إطلاق سلسلةٍ من الاختبارات بهدف الإجابة على هذا الانتقاد. ولعل أغرب هذه الاختبارات ما قام به الرسام البلجيكي أنطوان ويرتس في بروكسل عبر استخدام التنويم المغناطيسي كي يعيش "الحالة" التي يعيشها المحكوم بالإعدام لحظة انفصال رأسه.
لم يكن الهدف من هذه الاختبارات زرع الرؤوس المقطوعة، إلا أنها أشارت إلى أن إبقاء الرأس المقطوع حياً ممكنٌ –نظرياً- في حال تم توفير الدم والأكسجين. تبع ذلك محاولةٌ على يد طبيب الأعصاب تشارلز إيدوارد براون-سيكوارد الذي أجرى، في منتصف القرن التاسع عشر وباستخدام أنابيب بدائية، أول محاولة لإحياء رؤوس مقطوعة من الكلاب.
ومع مطلع القرن العشرين وتطور الجراحة الوعائية تمكن تشارلز غوثري من إجراء محاولات لزرع الرأس في حيوانات التجربة. إلا أن أهم الاختبارات في هذا المجال كانت قد أجريت في الاتحاد السوفييتي ضمن مشروع "تجارب في إحياء الكائنات الميتة"، حيث برز اسم رائد زراعة الأعضاء الجراح الروسي فالديمير ديموخوف الذي نجح جزئياً في الخمسينيات من القرن الماضي في "تصنيع" كلبٍ برأسين بعد زرع رأسٍ مفصولٍ من كلبٍ ثانٍ. أما الجراح الأميريكي روبرت وايت من كليفلاند، فقد أجرى عدة عمليات لزرع رأس قرد في جسد قردٍ آخر مع نجاحٍ مقبول، حيث استطاعت الرؤوس المزروعة أن تصحو من أثر المخدر، وأن تبقى على قيد الحياة لعدة ساعات.
بكل الأحوال فقد كانت عمليات الزرع المذكورة محكومةً بالفشل، لأنها أجريت في فترة لم تكن فيها الأدوية المثبّطة للمناعة متوفرة بعد (بدون إعطاء هذه الأدوية فإن عدم الانسجام بين الأعضاء سيدفع الجهاز المناعي للجسد إلى مهاجمة العضو المزروع، ما يؤدي إلى التهابه وتفسخه). لكن هذا الأمر قد تم تجاوزه الآن، بعد أن باتت مثل هذه الأدوية متوفرة على نطاقٍ واسع.
وبالعودة إلى خبر الشاب الروسي فاليري سبيريدونوف، فإن الدكتور كانافيرو، في سعيٍ لشرح تفاصيل العملية، يعتزم إلقاء محاضرة في مؤتمر الأكاديمية الأمريكية لجراحي الأعصاب والعظام في حزيران/يونيو القادم. وفي خطوة استباقية، تعبر عن عدم التأييد لخطة كانافيرو الطموحة، فقد أعلن رئيس الأكاديمية بأنها لا تتبنى آراء كانافيرو، ولكنها تعطيه الحق في استخدام منبرها كي يعبّر عن آرائه العلمية.
طبعاً تعترض مثل هذه العملية الكثير من العقبات التقنية، على مستوى الوصلات الوعائية وتبريد الرأس خلال فترة نقله من جسدٍ إلى آخر. إلا أن أكبر هذه العقبات التقنية تكمن في وصل النخاعين الشوكيين. صحيح أن الدكتور كانافيرو قد تحدث عن استخدام مواد حيوية جديدة كي تكون جسراً يصل النخاعين الشوكيين مع بعضهما، لكن فعالية هذه المواد غير مثبتة النتائج على المستوى السريري العملي بعد.
كما أن عقابيل العملية لا ترتبط فقط بحالة الشلل المتوقعة للجسد، وبالموت المحتمل للمريض فاليري، بل بالحالة التي يمكن أن يعيشها الرأس وهو مثبتٌ وحيداً على جسدٍ غريب؛ حالةٌ غير مسبوقةٍ من اللاانتماء، من الاغتراب البيولوجي، حالةٌ فريدةٌ في رعبها، وفريدةٌ بمشاعرها التي ستتدفق في رأسٍ واعٍ لكن غير قادر على الحركة.
هل نحن أمام عملية زرع رأسٍ في جسد؟ أو زرع جسدٍ في رأس؟ من هو الشخص الذي سيتكون كنتيجة لهذه العملية؟ ماذا عن هوية ذلك الشخص؟ ماذا عن وضعه القانوني والوراثي؟ ماذا لو بات قادراً على الزواج والإنجاب؟ وماذا لو تم تركيب رأس ذكر على جسد أنثى؟ أو العكس؟ هذه أمثلةٌ من الأسئلة التي تطرحها مثل هذه العملية التي لا تقتصر عقباتها على المجال التقني الطبي فقط، بل تشمل مجالاتٍ أخلاقية وقانونية وفلسفية عميقة، ما قد يؤدي إلى إعادة تفكير جذرية في مفهوم الإنسان الحي.
لا تعلّق الأوساط العلمية آمالاً على نجاح مثل هذه العملية الإشكالية والطموحة، وذلك بسبب محدودية التقنيات المتوافرة في الوقت الحالي. لكن في لحظةٍ ما في المستقبل يمكن أن تغدو هذه العمليات جزءاً من الروتين الطبي في المجتمعات البشرية. ومع أننا قد لا نعيش لندرك تلك اللحظة، لكن المؤكد أن تلك المجتمعات البشرية لن تكون، في أي حال، مشابهةً لمجتمعاتنا الحالية التي ستصبح جزءاً من التاريخ. 
 لقراءة المقال من موقع الصحيفة يرجى الضغط هنا

التاريخ المثقوب




لقراءة المقال من موقع الصحيفة يرجى الضغط هنا

يمارس هؤلاء الفتية، بوجوهٍ حنطيةٍ متغضّنة، دورهم بإتقانٍ على خشبة المسرح الصغير: إما قاتلٌ أو مقتول، أو ينتظرون كي يأخذوا في نهاية المطاف دور القاتل أو المقتول! لا يشترط في المقتول أن يموت حقيقةً، فالموت المجازي معروفٌ ومنتشر: إنسانٌ يتنفس ويأكل ويتغوّط ويتناسل، ولكنه في حُكم المقتول بالفقر والمرض والجهل والظلم والعسف. وبالتوازي لا يشترط في القاتل أن يتمتع (ويستمتع) بصناعة الموت الحقيقي، فهناك القتل المجازي: الذبح بنطق الكلمة، أو بالصمت عن الكلمة، أو بالعويل.
تكتمل أركان الحبكة التراجيدية حين يقفز القاتل والمقتول مُضَرَّجَيْن بالدماء على المسرح الصغير، المسرح الصغير موضوعٌ على خشبةِ مسرحٍ كبير، والكبير على خشبةِ مسرحٍ أكبر؛ وهكذا تتكاثر المسارح وخشباتها، وتنمو حجماً، تنمو ألماً، تنمو قهراً، رُغماً عن التاريخ والتجربة.
من مأساة المواطن السوري العادي في أصغر وأبعد بقعةٍ في سوريا، مروراً بالغليان الذي يكتسح منطقة الشرق الأوسط، والفظاعات التي ترتكب في إفريقيا وشرق آسيا وأمريكا الوسطى، يتابع الناس أخبار مجازر الأمس، وهم يترقبون أخبار مجازر الغد. وفي غمرة بقع الدم، وازدحام التفاصيل والأشلاء، ومع تبلّد الأحاسيس واعتياد التوحّش في عصر الديجيتال، نغفل عن إدراك ما تكرر ويتكرر دون أن نتعلم، وكأن الطبيعة البشرية مولعةٌ بخطيئة ابنيْ آدم الأولى. لكننا أيضاً نغفل عن مشاهدة الصورة الكبرى: فوسط كل هذا يبرز فراغٌ مخيفٌ؛ فراغٌ يلفُّ هذا العالم المعاصر بملياراته السبعة، ليترك آثاره على رقعٍ جغرافيةٍ اعتدنا على تسميتها بالدول الحديثة.
بدأت إرهاصات هذا الفراغ في الحرب الباردة في خمسينيات القرن الماضي؛ حربٌ بين قطبين يتسابقان لنيل لقب الأكثر جنوناً وهيمنة. ومع بداية الثمانينيات حصل تقدمٌ لأحد القطبين، وبسقوط الاتحاد السوفييتي تم الإعلان عن الفائز، لنبدأ رحلة السقوط في الفراغ! في هذا الفراغ تحطمت الأحلام، بعد أن تحولت الأيديولوجيات الوردية إلى أنظمةٍ شموليةٍ بامتياز، وبدأ البائسون يدركون بؤسهم بشكل مختلف وأكثر عمقاً عبر إعلامٍ مسموعٍ ومرئيٍّ وإنترنت (لكن دون أن يملكوا طبعاً أي أدواتٍ لتغيير هذا البؤس). في هذا الفراغ تبرز "العولمة" كعنوانٍ عريض. إلا أن هذه "العولمة" التي أفرزت تشابهاً على مستوى المظاهر السطحية والاستهلاكية في "شموليةٍ ثقافية" عابرةٍ للحدود وعابرةٍ الهويات، قد أدّت إلى إيقاظ وصعود "ثقافاتٍ شمولية" عابرةٍ للحدود ومتقوقعةٍ على الهويات! وبين "شموليةٍ ثقافيةٍ" تفرض نكهةً واحدةً على شعوب الأرض، و"ثقافاتٍ شموليةٍ" تسعى إلى رفض هذا الوضع، طغى خطابٌ جديد ينفصل عن الدولة الحديثة، ليعود إلى ما قبلها موقظاً هوياتٍ أولية وما قبل حداثية. وفي خضم الأصوليات الصاعدة، وصراع الأيديولوجيات التي رحلت ولم ترحل آثارها، وحين يصل الترف والضجر واليأس والإحباط إلى مداه، فلا بد من حرب!
لا يختلف ما سبق عما حدث ويحدث في منطقتنا، فقد تدحرجت الأنظمة التقدمية، التي حكمتْ بالحديد والنار، دون أن تنجح بتوفير الحد الأدنى من العيش الكريم لشعوب المنطقة، وها هي ترحل. تهاوت العروبة وضعفت الدولة الوطنية، وأفسحت المجال أمام صعودٍ غير مسبوق للسُّعار الطائفي، وبرزت أزمة الهوية كمصدرٍ لأزماتٍ تُدَمِّرُ المنطقة التي امتلأت باللاعبين والمرتزقة.
من سيملأ الفراغ؟ سؤالٌ قد لا نعيش كي نشهد جواباً له، ففي العالم المعاصر فراغٌ كبير، ثقبٌ يتوسع ليحاكي توسع ثقب الأوزون، وفي كلا الثقبين تكمنُ نهايةٌ تعيسة؛ ثقب التاريخ سيؤجج المزيد من العنف على يد من يهرول كي يملأ الفراغ مدفوعاً بشهوة السلطة، وثقب الأوزون ينذر بكارثةٍ بيئيةٍ قادمة تصيب الإنسان والزرع والحيوان. نهايةٌ تعيسةٌ تقترب وسط حالةٍ مخيفةٍ من اللامبالاة، تقترب دون أن نشعر بها، أو بالأحرى دون أن نرغب في أن نشعر بها، ودون أن تكون هناك نيةٌ بالحد الأدنى للتعامل معها على مستوى المنظومة الدولية القائمة.
أما منطقتنا (وهنا لا بد من تسجيل تحفّظٍ على "نا" الدالة على الجماعة) فستكون الضحية الأولى التي ستعلن تلك النهاية التعيسة، فهي المؤهلة أكثر من غيرها للانقراض بهدوءٍ دون أن يشعر بها، أو يتعاطف معها أحد.