يمتلئ المشهد السوري
المدمّى بكثيرٍ من الظواهر القبيحة، ومن هذه الظواهر الكم الهائل من الكذب الذي أسهم
ويسهم في تدمير سوريا وسفك دماء أبنائها. يمكن تتبع
هذا
الكذب في كل مكانٍ: في وجوه أعضاء الوفود، في كلماتهم،
في
تصريحاتهم، في تهييج الإعلاميين، في أقلام الصحفيين، في نجوم الشاشة والميدان، وفي
التسريبات والمصادر المسؤولة، أو في التنبؤ المثير للشفقة بتدخلٍ خارجيٍّ، أو انتصاراتٍ
ساحقةٍ تحت مسميات التحرير والتطهير. ولم تسلم من الكذب ملفات الضحايا وأخبار المجازر، فصار تبادل الاتهامات
والتباري الكاذب في إثباتها على الطرف الآخر حديث الساعة.
ليست الغاية من إثارة
هذه القضية (الكذب) الدخول في حالةٍ سجاليةٍ حول الطهرانية الأخلاقية، أو مثاليات المدينة
الفاضلة، بل التنويه إلى الأثر الدموي والهدّام الذي تتركه هذه القضية على مجتمعٍ مكلومٍ
يعيش حالةً من الألم العميق. فعلى مدار ثلاث سنواتٍ غدا بيعُ الوهم تجارةً رائجةً يمارسها
المتحمسون والهواة والمتسلقون والسذَّج، أما الزبائن فأشتاتٌ موزَّعون على بقاع الأرض
السورية، ممن ينتظر فرجاً ينتشله من جحيم معاشه اليومي. لا يدرك مرتكبو الكذب،
من مدمني الأحلام والمتاجرين بها، أنه خبزٌ مسمومٌ، يعيش على أوْده الكثيرون كي يستشعروا
به أملاً موهوماً، قبل أن يترك آثاره، حين تتكشف الحقيقة،
في
إحباطٍ ويأسٍ عميم.
ويمكن التنويه بخاصة
إلى الكذب الذي مارسته، وتمارسه، أكبر ’القوى السياسية‘ الموجودة
في
الساحة السورية (على مستوى الضخ الإعلامي والمادي):
الائتلاف
والنظام.
مثلاً تلتزم ’مبادئ‘ الائتلاف، على حدِّ
قوله، بثوابت الثورة حيث تنص على أن "لا حوار أو تفاوض مع
النظام".
فالتفاوض
في عِرف الائتلاف، وفي عِرف سلفه المجلس الوطني، خيانةٌ للثورة ودماء الشهداء. هذا ما تم الترويج له
منذ بداية الحدث السوري من على غالبية المنابر المعارضة. إلا أن المفارقة قد
تجلّت حين رأينا الائتلاف، بعد كل هذا، يحضر جنيف2 رغم عقده في ظروفٍ بالغة السوء ومحكومةٍ
بالفشل، ليتحدث عن بنود جنيف1 الذي تم رفضه عام 2012 (مع أن الحنكة السياسية
تقول أن الظروف الدولية كانت أوْلى بأن تستثمر عام 2012).
أما النظام، متمثلاً
بسلطةٍ تبحث عن شرعيةٍ على حساب شيطنة المعارضة وقمعها، فهو حالةٌ ميؤوسٌ منها. فقد باتت السلطة، رغم
كل المزاودات الخطابية البائسة والخارجة عن كل الأعراف الدبلوماسية، أسيرةً
لإرادةٍ
دوليةٍ وإقليميةٍ تتحكم بمصيرها، ما يجعل الحديث المشروخ
عن السيادة الوطنية، وبكل أسفٍ، موضوعاً معجوناً بالكذب ومثيراً للتهكّم. لكن قمة الكذب في خطاب
النظام تتجلّى في حديثه الدائم -منذ بداية الأحداث- عن أنه يقاتل إرهابيين
متطرفين.
صحيحٌ
أن تطرف القاعدة وأشباهها منتشرٌ حالياً في مناطق عدة في سوريا (وهو نتيجة للبيئة العنفية
التي يتحمل مسؤوليتها النظام وركود الفكر الديني وغياب العدالة)، إلا أنه من الملاحظ
أن النظام لم يُقْدِم، إلا فيما ندر، على استهداف مقرّات ’داعش‘ على سبيل المثال،
مع
العلم أن تجمعات هذه الجماعات في الرقة وريف حلب ودير الزور معروفة. وبدلاً من ذلك نرى وبكلِّ
ألم البراميل والقنابل تسقط على مدنيين فقراء، ذنبهم أنهم ولدوا
في سوريا في هذا الزمن اللئيم.
لن تقف آثار الكذب الممارس
عند حدود المرحلة الراهنة، بل ستتعداها كي ترسخ على المدى البعيد فكرةً مشوهةً -وموجودةً
مسبقاً- عن العمل السياسي الذي أصبح مكافئاً للكذب. فإنْ كانت القوى السياسية،
في مراحل التغيير الكبرى، مدمنةً على الكذب والخداع فكيف يمكن أن نؤسس لعقدٍ اجتماعيٍّ
جديدٍ ومرحلةٍ جديدةٍ في سوريا؟ وكيف يمكن لقول الحقيقة أن يصمد وسط ’تشبيح‘ من أدمن الكذب؟ وهل
من عتبٍ على الناس إن كرهوا العمل بالسياسة وابتعدوا عن المساهمة في الشأن العام؟ وأيُّ
تغييرٍ سياسيٍّ ينتظر سوريا التي يبتعد أبناؤها عن العمل السياسي الجاد؟
تجدر الإشارة هنا إلى
أن هذه الممارسات وغيرها كثير ليست وليدة الحدث الآني، بل هي مظهرٌ من مظاهر الإرث الكريه
الذي تجذّر وبكل أسفٍ في العقلية السائدة. إذ لا يمكن فصل الكذب
المستشري على مستوى الصراع القائم في البلاد عن الكذب المستشري على المستوى
الثقافي والاجتماعي العام. فقد تم تدجين شرائح واسعة من السوريين من قبل النظام
المستبد، على مدى عقودٍ، على تجاوز القوانين والاستخفاف بها، وعلى اتباع أساليب
الفساد والمحسوبية والانتهازية والاحتيال. وقد أخذ كلُّ ذلك مظهراً ثقافياً
اجتماعياً على مستوى الأفراد والأسر والجماعات، تحت مُسميات الفهلوية والشطارة
والحربقة، وكل هذا تحت رعاية ’العين الساهرة‘
للسلطة التي حرصتْ على تغييب حكم القانون.
لقد رسّختْ أنظمة
الاستبداد المهترئة تقاليد الكذب على الذات والهروب من مواجهة الحقيقة الـمُـرَّة.
وهذا ما قد يُفَسِّرُ حالة الإنكار السائدة، والإصرار على حَشْرِ كل التجلّيات
الأليمة في إطار المسكوت عنه، أو إلى المسارعة في وصف الحديث عنها بالترف الذي لا
يجدر التفكير فيه. وهذا ما يبرر سَوْق الحجج، حتى لو كانت كاذبة، لتبرير هذه
المواقف: كي لا تُشَقَّ وحدة الصف الذي لم يتوحّد يوماً، أو كي لا يتم التشويش على
’المعركة‘ التي يجب أن تستمر في طحنها العبثي
للحجر والبشر. وفي أفضل الأحيان تُرمى كل هذه البلايا في خانة النظام هروباً من
عبء المسؤولية وتأنيب الضمير، في ترسيخٍ للتنصُّل من مواجهة الحقيقة: إحدى القيم
الفاسدة التي كانت السبب في مجيء هذا النظام أصلاً واستمراره حتى اللحظة. وبالمحصلة، فهذا الإرث البائس هو واحدٌ من التركات
العفنة التي زرعتها ورعتها وتواطأت عليها مجتمعاتنا مع الأنظمة
المستبدة التي تسلّطت عليها، حتى صار الخلاص منها عمليةً شاقةً، وثنائية الاتجاه،
وطويلة الأمد.
يفترض بالتغيير
الإيجابي أن يبتدئ بتشخيص القيم السلبية تمهيداً لتجاوزها، فإن أعاد تكريس ما كان
سائداً من سلبياتٍ فهو مسمارٌ يُدَقُّ في نعش أي تغييرٍ منشود قبل أن
يولد. ويبقى الأمل في أن نتعلم نحن السوريين من أخطائنا، علّنا ندرك استفحال
ثقافة
الكذب في المشهد الأليم، ونستوعب الأثر الهدّام لهذه الثقافة المشوّهة على حاضر
ومستقبل بلادنا، ونحن نبحث عن إجابةٍ على السؤال التالي: هل يمكن لوطنٍ أو مجتمعٍ يدمن
الكذب أن يصمد عند قول الحقيقة؟
لقراءة المقال من المصدر يرجى الضغط هنا
لقراءة المقال من المصدر يرجى الضغط هنا