مقال جديد في ملحق تيارات في صحيفة الحياة بعنوان: "قراءة في هشاشة الوطنية السورية"
قراءة في هشاشة الوطنية السورية
طلال الميهني
الأحد ٢٦ مايو ٢٠١٣
يحار المرء في توصيف الفظاعة المستفحلة في المشهد السوري: نظام لا يتورع عن استخدام الطائرات والصواريخ ضد معارضيه، وتجمعات معارضة تنافس النظام استبدادياً على مزادات الدم السوري. ميليشيات محسوبة على السلطة القائمة ترتكب مذابح مذهبية، وكتائب تدعي معارضة النظام تقضي وقتها في السلب والنهب. انتعاش للمافيات في عموم سورية مع تسريبات عن تحالف مبطن بين ميليشيات موالية ومعارضة. قصف اسرائيلي على قاسيون دمشق، مع تهليل ومتاجرة أطراف سورية بهذا العدوان الأليم والمهين في سبيل تثبيت مهرجاني وبائس لمواقفها الكيدية من «الآخر السوري».
ظاهرة مؤلمة تبرز وسط هذا المشهد: «هشاشة الوطنية السورية» التي صار جلياً أنها لم تكن متشكلةً أو ناضجةً كما يجب؛ هشاشة يمكن تلمسها في فجاجة سفك السوري لدم السوري، وفي وجود سوري جلاد يمارس ساديته في حق سوري ضحية، في الانتشار المبتذل لثقافة التخوين بين السوريين، وفي وجود الاستبداد بالأساس، في السكوت الطويل على الاستبداد القديم الذي تجذر عبر عقود، وفي السكوت الحالي على الاستبداد الجديد الذي يتفاقم ويتغلغل.
لا بد، في سياق الحديث عن الوطنية السورية، من أن نشير إلى «الشعب» الذي يبقى مفهوماً متخيلاً إن لم يترجم عبر واقع ندعوه بـ «الدولة»؛ مع التأكيد أن «الدولة»، بحد ذاتها، بنية غير موجودة في الطبيعة، بل متشكلة كنتيجة لنشاط بشري تاريخي تراكمي وممزوج بالميثولوجيا الملحمية.
ولهشاشة الوطنية السورية جذور تعود إلى لحظات التأسيس الأولى لـ «الدولة السورية»، وإلى انعكاساتها على المكونات السكانية التي غدت جزءاً منها. فقد تم تشكيل «الدولة السورية»، في حدودها القائمة حالياً، من دون نضج الحد الأدنى من شروط تشكلها، وذلك على هامش اقتسام الكعكة العثمانية من جانب أطراف خارجية. ومع أن بعض النخب، التي قاتلت ضد النفوذ العثماني، كانت متصالحةً مع فكرة «أمة عربية» في ظل «المملكة العربية»، إلا أنها اصطدمت مع الواقع الذي فرضته اتفاقية آسيا الصغرى (أو ما يعرف بسايكس-بيكو)، ما أدى إلى تشكيل «شعب/وطن» مغاير «للشعب/الوطن الحلم».
وبالتوازي، وجدت الغالبية الساحقة من المكونات السكانية، التي لم تكن معنيةً بأي «حلم»، والتي لم تكن مساهمةً في رسم الجغرافيا السياسية في المنطقة، وجدت نفسها في ظل واقع سياسي غير مسبوق في تاريخ وعيها الجمعي: كمكونات سكانية «سورية»، وكجزء من بنية سياسية «سورية».
احتوى هذا الانتقال الفجائي من «سورية التاريخية» إلى «سورية السياسية» على ضحالة في البعد الميثولوجي؛ بسبب قرب لحظة التأسيس السياسي، والنفور الفطري من دور «الآخر» (الأطراف الاستعمارية)، مع تعدد المرجعيات الثقافية الضاربة في عمق التاريخ (والتي لم تستطع «سورية السياسية» منافستها سيادياً). كما اشتمل هذا الانتقال على إهمال الشروط اللازمة لنشوء «الدولة الحديثة» تدريجاً؛ وعلى رأسها النية الذاتية والواسعة بالتأسيس، والتي كان عليها أن «تسبق» لحظة التأسيس (وليس الموافقة «التالية» للتأسيس، الذي لم يعدو كونه أمراً واقعاً ومفروضاً لم يملك «السوريون» زمامه أصلاً).
ترك هذا الانتقال الفجائي رضوضاً على المكونات السكانية تجلت على كل المستويات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وغيرها، وخلف أثراً رجعياً لم تستطع الحماسة الوطنية ذات البعد الخطابي علاجه، وأعاق بالتالي الانسجام المفترض والضروري بين المجتمع، بمكوناته السكانية المختلفة، وبين الدولة. وهكذا تحولت هويات وانتماءات هذه المكونات السكانية إلى ساحة صراع لا واع بين مرجعيات سيادية مختلفة، وموضوع للتنازع: بين البعد الميثولوجي الباهت (باعتبارها مكونات منضوية – أو يفترض أن تنضوي - في ظل شعب/وطن)، وبين واقع حالها المتقوقع على محددات ومعايير تنتمي إلى مرحلة ما قبل «الدولة الحديثة».
وقد تعمقت هذه الرضوض بعد اقتطاع أجزاء من الدولة السورية المستحدثة، ورفض النخب السياسية السورية الاعتراف بالدولة كأمر واقع؛ فقد عمدت كل الحكومات السورية إلى الترويج لنظرة دونية تجاه الدولة القائمة، كمجرد مرحلة قطرية موقتة، على درب الانصهار في مشاريع/أحلام عابرة للحدود بنكهات إيديولوجية قومية أو إسلامية أو غيرها.
وقد تفاقم ما سبق في ظل تصحر سياسي مزمن، وغياب للبعد الخلاق في النظرية السياسية والفكر السياسي في المنطقة. حيث اقتصر النشاط السياسي، في أحسن الأحوال، على مقاربات توفيقية سطحية تحاول تحقيق حالة مشوهة من التطابق والتماثل مع «الآخر الغربي» أو «الاشتراكي السوفياتي»، أو مقاربات استرجاعية إلى ماض يتم انتقاؤه بتبسيط مفرط، وإظهاره في صورة وردية.
وعليه كان للحظات التأسيس الأولى للدولة السورية، وما رافقها وتبعها من أحداث وممارسات، دور أساسي في لجم سيرورة التشكل والنضج في الوطنية السورية. كما عمد الاستبداد الناصري/البعثي، الذي جاء كنتيجة متوقعة للهشاشة الوطنية، إلى التحول خلال عقود إلى عراب لاستفحال هذه الهشاشة (التي كانت أحد أسباب مجيئه) وذلك عبر كبت وقمع ممنهج للحريات والأفكار، وترسيخ لتراكمات معقدة وعادات بالية في إطار المسكوت عنه.
وقد سرع انطلاق الانتفاضة السورية من كشف «هشاشة الوطنية السورية» التي كانت محتجبةً تحت ركام كثيف من الخطابية الجوفاء (التي كانت، بدورها، هدنةً غير معلنة، ورد فعل للتغطية على هذه الهشاشة).
وفي شكل مضمر ومتلازم مع آثارها السلبية والآنية، تحمل هذه الهشاشة في الوقت ذاته آثارها الإيجابية والمستترة على المدى الطويل؛ لتغدو «هشاشة الوطنية السورية» نقطة انطلاق، وشرارةً قد تدشن مرحلةً جديدةً تعيد التفكير بـ «الوطنية السورية»: أليس إدراك الهشاشة هو الترياق الوحيد والكفيل بمقاربتها تمهيداً لإزالتها؟ وهل يمكن أصلاً ترسيخ «وطنية سورية» (بغض النظر عن صيغتها) من دون استيعابنا على مستوى «الذات الواعية» لضرورة القيام الفعلي بذلك (وليس مجرد الموافقة المنفعلة على ذلك)؟
لا شك في أن سورية (والمنطقة عموماً) تعيش زلزالاً حقيقياً قد يكون الأخطر منذ تدشين الجغرافيا السياسية في بدايات القرن المنصرم، ما سيضع المكونات السكانية أمام تحديات حقيقية وأليمة. وأخيراً يبقى الأمل في أن يطلق ما سبق «سيرورةً» تخضع فيها المسلمات اللامفكر فيها إلى تفكير وإعادة تفكير، بغية إبداع صيغ خلاقة وجديدة للتعاقد الاجتماعي/السياسي في منطقة بالغة التعقيد، والأهمية، والثراء الثقافي والبشري.
الفكْر كَضَحيّةِ للمزاج العام
http://www.almustaqbal.com/Nawafez.aspx?pageid=86836
الفٍكْر كَضَحٍيّةِ للمزاج العام
المستقبل - الأحد 19 أيار 2013 - العدد 4692 - نوافذ - صفحة 14
طلال المَيْهَني()
مصطلح «البُرْج العاجي» (باللاتينية: turris eburnea) ليس بمصطلحٍ مُسْتَجِدٍّ، فقد وَرَدَ ذِكْرُهُ في سفر نشيد الأنشاد في العهد القديم: «عُنُقُكِ كبُرْجٍ من العاج». وقد خضع معنى هذا المصطلح، المُرْتَبِط لاهوتياً ورَمْزِيّاً بالطُّهْر وبالسّيدة مريم، إلى تَبَدُّلٍ ملحوظٍ مع بدايات العصر الحديث، ليأخذ منحىً سلبياً، ويغدو مرتبطاً بـ «النخب الأكاديمية» المنعزلة، وغير العملية، والمُنْفَصِلَةِ عن الواقع وعن الحَدَثِ اليومي. وقد تَرَسَّخَ هذا التبدل في معنى المصطلح مع تَجَسُّدِه، على الأقل على مستوى الرأي العام الإنكليزي في القرن التاسع عشر، في «أبراج هاوكسمور Hawksmoor« البيضاء. حيث تُزَيِّنَ هذه الأبراج مبنى «كُلِّيَّةُ كُلِّ الأرواح All Souls College« التي تُعْتَبَرُ الأكثر نُخْبَوِيّةً على المستوى الأكاديمي بين الكليات الجامعية في أوكسفورد وكامبريدج، أو ما يسمى بـ «الأوكسبريدج Oxbridge«.
يشتمل هذا التبدُّل الذي أصاب المعنى إلى نظرةٍ سلبيةٍ ليس فقط تجاه النخب الأكاديمية، بل تجاه عُمُومِ النخب الفكرية Intelligentsia التي تَضُمُّ مجموع المثقفين من كُتّابٍ، وأكاديميين، وفلاسفة، ومُفَكِّرِين، أو من حَازَ على قَدْرٍ لا بأس به من المعرفة تُمَكِّنُه من الإنتاج الفكري. وتُعْتَبَرُ هذه النظرة السلبية تجاه «النخب الفكرية» جزءاً من تَوَجُّهٍ مُضادٍ للفكر Anti-Intellectualism. ويَتراوَحُ هذا التوَجُّه بين مواقف السخرية والاستهزاء بالفكر، إلى الذَّم والعداء الجزئي، إلى حالةٍ مُتَطَرِّفَةٍ من العداء الكامل، أو حتى إلى تحويل العداء الكامل للفكر إلى فضيلةٍ يُحَضُّ على ممارستها.
يمكن تتبع مواقف الاستهزاء بالفكر على مستوى التعامل اليومي في الثقافات السائدة. ومع أن لهذه المواقف حضوراً عالمياً إلا أن درجة وطبيعة الاستهزاء تختلف من مجتمعٍ إلى آخر. ففي مجتمعات الدول النامية والتقليدية التي خضعتْ لنير الاستبداد لفتراتٍ طويلةٍ يَنْدُرُ العثور أصلاً على مثيلٍ للمثقف الحقيقي ذي الآراء العَلَنِيَّة؛ إمّا لأنه غير شائع، أو لأنه مُكَبّلٌ وغير حرٍّ في تَوَاصُلِهِ مع الناس. ولهذا ففي هذه المجتمعات يبرز الاستهزاء بالفكر، في صورةٍ بريئةٍ، كنظرةٍ سلبيةٍ، مُوَجَّهٍ ضد أصحاب المِهَن والمهارات التقنية: الطبيب الجشع، أو المحامي اللص، أو المهندس الفاسد، أو الصحافي الذي يمكن شراء ولائه، أو أستاذ الجامعة الذي يبيع أسئلة الامتحان إلخ. بالتأكيد تُعَبِّرُ مواقف الاستهزاء، وما تَحْمِلُهُ من نظرةٍ سلبيةٍ، عن رفضٍ لممارساتٍ خاطئةٍ يراها ويشعر بها الناس في تعاملاتهم اليومية مع هؤلاء «المثقفين». لكن النَّفاذ إلى ما وراء هذه المواقف الاستهزائية، وإخضاعها إلى التحليل الهادئ، يُظْهِرُ أنها انعكاسٌ وتكريسٌ لحالة انفصالٍ يُوضَعُ فيها «عامة الناس» في جهة و»المثقفون» في جهةٍ أخرى، بعد أن يتم توظيفُ مُقَارَبَتَيْن مُتَنَاقِضَتَيْن. تنطلق المقاربة الأولى من «تقديرٍ خفيٍّ» للفكر الذي يتم إسقاطه في صورةٍ مفرطةٍ في المثالية على «المثقف». وعليه تَفْتَرِضُ الذهنية الجمعية في اللاوعي بأن «الفكر» قيمةٌ تتلازمُ ضِمْناً مع حسٍّ أخلاقيٍّ عال، وعلى هؤلاء «المثقفين» أن يكونوا أناساً أفضل وأقْوَم خُلُقاً (سواء بالمعنى العام، و/أو بالمعنى التقليدي الديني والالتزامي بطقوس العبادة إلخ). ويلعب هذا الدَّمج بين الفكر والأخلاق دوراً هامّاً في المجتمعات المحافظة والمُتَدَيِّنَة، حيث من النادر أن يُقَيَّمَ «المثقف» بناءً على قوله أو على مهارته المهنية والاحترافية، بل غالباً ما يلعب شَخْصُ «المثقف» ومواقفه من التقاليد الشائعة، ومدى التزامه بها وتماهيه معها، دوراً في هذا التقويم. يخلق هذا الوضع، وفي شكلٍ تلقائيٍّ، مسافةً بين العقلية السائدة و»المثقف»؛ خصوصاً «المثقف» الذي يسعى إلى تغييرٍ حقيقي في مجتمعه، وإلى الانعتاق من قيود العادات البالية. هنا يتحول «المثقف»، والفكر الذي يُرَوِّجُ له هذا «المثقف»، في نظر الثقافة السائدة، إلى موضوعٍ مشروعٍ للاستهزاء والسخرية بحجة مخالفته للعادات والتقاليد، أو افتراقه عن الأخلاق التي ترسمها هذه العادات والتقاليد.
وبعيداً عن جَدَلِيّةِ الأخلاق والفكر، وعلى عكس المقاربة الأولى (لكن بالتوازي معها)، تَعْمَدُ المقاربة الثانية إلى تقييم الفكر مادياً في إطارٍ منفعيٍّ بَحْتٍ، بعد إحداث قطيعةٍ كاملةٍ مع الأخلاق. يظهر الفكر هنا وكأنه مُجَرَّدُ سلعةٍ مُعَدَّةٍ للاستهلاك وخاضعةٍ لمنطق السوق. إلا أن تقييم «الفكر» من منظورٍ ماديٍّ نفعيٍ هو، بِحَدِّ ذاته، توجهٌ مضادٌ «للفكر»، حيث لا يجد أصحاب هذه المقاربة ضَيْراً في الاحتفاء بالجهل على سبيل المثال، طالما أن مردوده المادي أكبر من المردود المادي الآتي من خلال الفكر. يُضَافُ إلى ذلك أن هذه المقاربة تحمل ضمنيّاً إهانةً للفكر بعد تَجْرِيدِهِ من جوهره كفضيلةٍ قائمةٍ بِحَدِّ ذاتها، وتَعْرِيَتِهِ من بُعْدِهِ الإنساني.
وهكذا تنبعُ مواقف الاستهزاء بالفكر، على مستوى الثقافات السائدة في المجتمعات النامية والتقليدية، من هاتين المقاربتين: جدلية التلازم بين الفكر والأخلاق (التي تعطي الفكر صيغةً مثاليةً وطوباويةً من حيث تطابقه مع الثقافة السائدة حتى لو كانتْ هذه الثقافة مشبعةً بالعادات البالية)، والمقاربة الاستهلاكية المنفعية للفكر كسلعة (التي تعطي الفكر صيغةً ماديةً تجعل منه وسيلةً للكسب تتساوى في قيمتها الجوهرية مع كل الوسائل الأخرى).
أما المجتمعات التي تعيش في ظلِّ ما يُسَمَّى بالديموقراطية الغربية، فغالباً ما تكون مواقف الاستهزاء بالفكر موجهةً تجاه «المثقفين» المشتغلين في حقل السياسة والشأن العام (خاصةً في المجتمع الأميركي)، كما تبرز في شكلٍ بارزٍ المقاربة الاستهلاكية المنفعية للفكر. وقد تم إعطاء هذه المقاربة صيغةً رسميةً في قوانين الملكية الفكرية (هنا يَعْمَدُ القانون إلى «شَرْعَنَةِ» تَحَوُّلِ النتاج الفكري إلى سلعة، وترسيخ النظر إلى الفكر على هذا الأساس).
وفي عصر العَوْلَمَة، الذي حَوَّلَ الأرض إلى ما يشبه القرية الصغيرة، تميلُ المجتمعات إلى اتباع سُلُوكِيَّاتٍ متشابهةٍ بخاصةً على مستوى الجيل الصاعد. إذ غالباً ما يَعْمَدُ اليافعون والمراهقون إلى السعي وراء صورةٍ نمطيةٍ للشباب العصري و»الكول cool« الذي يمتاز بالأناقة والجمال واتِّبَاعِ الموضة والانغماس في طقوس الاستهلاك السطحي، مع تركيزٍ شبه معدومٍ على الناحية الفكرية واستهزاءٍ شبه مُطْلَقٍ بها. فقد اعتاد الطلبة في كل المجتمعات على إطلاق أوصاف «geek« أو «nerd« على المهووس بالكمبيوتر وكمُرادِفٍ لكلمة «دَرّيس»؛ أي الطالبِ المُجِدِّ الذي يُمْضي وقته في الدراسة والتحصيل. كما انتشرت في العقود القليلة الماضية ظاهرة الاستهزاء بالمعلمين والأساتذة في المدارس. وكمثالٍ آخر نذكر المحتوى السلبي الذي تحمله الثقافات السائدة في المجتمعات تجاه كلمة «فلسفة» المكافئة للفذلكة أو التغريد خارج السرب، ولا يخلو هذا التوصيف من لَمْزٍ، مُبَطَّنٍ أو ظاهرٍ، بالتحريم والتجريم الذي بدأ يتسع نطاقه حتى باتتْ كلمة «مثقف» شبه شتيمةٍ في بعض الأوساط.
وقد سَقَطَتْ فنون الرواية والسينما والرسوم المتحركة والدراما في فَخِّ الاستهزاء بالفكر، وساهمتْ في صورةٍ تبادليةٍ، بتعزيز هذا الاستهزاء. يبدو ذاك جَلِيّاً من خلال العَرْضِ التَّهَكُّمِيِّ والمتكررِ للمثقف (المفكر/العَالِم/الأكاديمي/الفيلسوف/إلخ) ذي الشَّعْرِ غير المُصَفَّف، والنظارات السميكة، والبلادة والانفصال عن الواقع، وغياب روح الدعابة، وغيرها من الصفات التي يتم إظهارها في حِلّةٍ سلبيةٍ، وحَشْرِها في صورةٍ نمطيةٍ، وتحويلها إلى موضوعةٍ متواترةٍ.
ففي الولايات المتحدة، وبين عامي 2005 و2008، بَثَّتْ قناة CW برنامج (من نوع برامج الواقع) بعنوان «الجميلة والدرّيس Beauty and the Geek«، مع إصداراتٍ بلغاتٍ مختلفةٍ في حوالي 15 دولة حول العالم (لا يوجد إصدارٌ عربيٌّ أو شرق أوسطي باستثناء تركيا). وتقوم فكرة البرنامج على متابعة تطور العلاقة الرومانسية بين «درّيس» (دائماً ذكر!) وبين إحدى الجميلات من المشاهير (دائماً أنثى)، مع تقديم نصائح للـ «دَرّيس» كي يغدو «إنساناً طبيعياً». ومع أن البرنامج يُجْري لقاءاتٍ جانبيةً مع الفتيات، اللواتي يُعَبِّرْنَ أحياناً عن إعجابهن بـ «الدَرّيس»، إلا أن فحوى الرسالة التي يُوَجِّهُهَا البرنامج تُرَسِّخُ الانفصال النَّمَطِيَّ والسطحي بين عَالَمَيْن: يَضُمُّ الأول «الدَرّيس/الذكر» كنوعٍ قائمٍ بحدِّ ذاته ومنفصلٍ ومختلفٍ جذرياً عَمّا يَضُمُّهُ العالم الثاني، أي عن «الجميلة/الأنثى».
وكمثالٍ آخر يمكنُ ذِكْرُ شخصية «روس Ross« (لعب الدور الممثل ديفيد شويمرDavid Schwimmer) في السلسلة الفكاهية «فريندز Friends« التي عُرِضَتْ نسختها الأصلية بين عامي 1994 و2004 على قناة NBC. ومؤخراً أخَذَتْ هذه الصورة النمطية دور البطولة الكاملة مع عرضِ سلسلةٍ جديدةٍ بعنوان «نظرية الانفجار العظيم The Big Bang Theory« على شاشة CBS. ويأخذ موقع البطولة في السلسلة الأخيرة، وفي قالبٍ فكاهيٍّ، عددٌ من الممثلين الذين يلعبون دور باحثين شباب في مجال الفيزياء والفلك والبيولوجيا، مع هَوَسٍ بألعاب الفيديو، والبرمجة، ومتابعة أفلام الخيال العلمي مثل Star Trek. وتدور الأحداث حول ما يواجهونه من مواقف مُحْرِجَةٍ للتأقلم مع المجتمع المحيط، ومن مصاعب وعقبات في حياتهم العاطفية.
وعلى مستوى العالم الناطق بالعربية تُقَدِّمُ مسرحية «مدرسة المشاغبين» من بطولة الراحل عادل إمام مثالاً صارخاً للسخرية من الفكر في قالبٍ كوميديٍّ وجذّاب. وبالتوازي نقع في الدراما السورية الكلاسيكية، في «صح النوم» أو «حمّام الهنا»، على ذلك التنافس الخَفِيّ بين غوار الطوشة الماكر (دريد لحام)، وحسني البورظان «المثقف» وضعيف الحيلة (الراحل نهاد قلعي).
ويظهر المَيْلُ ذاته في الرسوم المتحركة. ففي «السنافر Smurfs«، وهو فيلمٌ كرتونيٌّ بلجيكيٌّ للأطفال عُرِضَ بين عامي 1981 و1989، تمكن المقارنة بين «سنفور مفكر» و»سنفور شاطر» و»سنفور قوي». ففي حين يمتاز الأول بعدم قدرته على اجتراح أي حلولٍ عمليةٍ، يبدع الثاني في العمل اليدوي والتقني، في حين تكون الغلبة عادةً للثالث. يؤسس هذا الاختلاف لحاجزٍ يفصل، وفي شكل تعسفيٍّ، بين النظرية والاشتغال الفكري في جهة، وبين التطبيق العملي والعنف في جهةٍ أخرى. ويقف هذا التوجه، الذي يُظْهِرُ الفكر كنشاطٍ بشريٍّ خاملٍ وغير فاعل، في وضعٍ مناقضٍ لحدٍّ ما لما يطرحه أدب الخيال العلمي الذي يربط النتاج الفكري (والنتاج العلمي على وجه التحديد) بالشر والعنف: نهاية العالم بسبب حربٍ نوويةٍ، أو غزوٍ فضائيٍّ، أو استنساخٍ لحيواناتٍ مفترسةٍ أو حشراتٍ عملاقةٍ إلخ.
ويمكن وضع هذه الأدوار الشريرة، التي يَتَسَبَّبُ بها الفكر ويُمارِسُها المثقف، كامتدادٍ لأدب العصر الرومنطيقي والحداثي. وكأمثلةٍ على ذلك يُمْكِنُ ذِكْرُ رواية «الحالة الغريبة للدكتور جيكل ومستر هايد Strange Case of Dr. Jekyll and Mr. Hyde« لـ «روبرت ستيفنسون Robert Stevenson«، أو رواية «فرانكشتاين Frankenstein« لـ «ماري شيللي Mary Shelley«. وفي حالاتٍ أقل شيوعاً قد تأخذ الصورة النمطية «للمثقف» في السياق الأدبي الفني دوراً إيجابياً، إلا أنها على الأرجح، لن تكون في موقع البطولة؛ فالمثقف (العالم/المفكر/الحكيم/إلخ) يجلس على الهامش بعيداً عن الحَدَثِ، وهو حُكْماً ليس «البطل» وذلك على خلاف سوبرمان، أو الرجل الوطواط، أو «الدوق فليد» في السلسلة اليابانية غريندايزر إلخ (وعادةً ما يكون «البطل« مُقَنَّعاً أو مُرْتَدِياً لزيٍّ يُمَيِّزُهُ عن الجميع).
تبقى هذه المواقف الاستهزائية الفكاهية/الدرامية/التراجيدية مَحْصُورةً في نطاق الثقافات السائدة، وفي صيغةٍ فنيةٍ/إعلاميةٍ، لتتجلّى في صورةٍ غير عنفيةٍ بعيداً عن الإيذاء الجسدي المباشر للمُتَلَقّي. إلا أن هذه المواقف الاستهزائية، المُنْدَرِجَةِ في سياق التوجه المضاد للفكر، تطرح أسئلةً عن أسباب شيوع وانتشار وصعود مثل هذا التوجه أصلاً. فمع الاعتراف بأن لمثل هذه التوجه جذوراً قديمةً، إلا أن حضوره في الماضي لم يكن طَاغِياً كما هي الحال الآن، كما أن الكثير من ظواهره لم تكن موجودةً حتى في بدايات القرن الماضي (الاستهزاء بالمعلمين في المدارس من قِبَلِ التلاميذ على سبيل المثال).
ولهذا فلا بُدَّ من تشريح التبدلات الجذرية التي رافقتْ رياح النهضة والتنوير منذ نهاية العصور الوسطى، وما خَلَّفَتْهُ تلك التبدلات من آثارٍ عميقةٍ على المجتمعات وعلى المزاج العام، وعلى أدوات صناعة هذا المزاج العام (وخاصةً الإعلام). يَجْدُرُ التنويه أخيراً إلى أن التوجه المضاد للفكر ظاهرةٌ معقدةٌ لها ملامحها الخارجية السطحية، وجذورها البعيدة والمتشابكة. ولهذا يبقى أيُّ تحليلٍ هذه الظاهرة قَاصِراً دون الخَوْضِ، في دراسةٍ منفصلةٍ، في التبدلات المُوازية التي طَرَأَتْ على مواقف «النخب التقليدية»، وعلى احتكارها للمعرفة والفكر وغيرها من «علاقات القوة والهَيْمَنَة» مع انطلاق عصر النهضة والتنوير.
مصطلح «البُرْج العاجي» (باللاتينية: turris eburnea) ليس بمصطلحٍ مُسْتَجِدٍّ، فقد وَرَدَ ذِكْرُهُ في سفر نشيد الأنشاد في العهد القديم: «عُنُقُكِ كبُرْجٍ من العاج». وقد خضع معنى هذا المصطلح، المُرْتَبِط لاهوتياً ورَمْزِيّاً بالطُّهْر وبالسّيدة مريم، إلى تَبَدُّلٍ ملحوظٍ مع بدايات العصر الحديث، ليأخذ منحىً سلبياً، ويغدو مرتبطاً بـ «النخب الأكاديمية» المنعزلة، وغير العملية، والمُنْفَصِلَةِ عن الواقع وعن الحَدَثِ اليومي. وقد تَرَسَّخَ هذا التبدل في معنى المصطلح مع تَجَسُّدِه، على الأقل على مستوى الرأي العام الإنكليزي في القرن التاسع عشر، في «أبراج هاوكسمور Hawksmoor« البيضاء. حيث تُزَيِّنَ هذه الأبراج مبنى «كُلِّيَّةُ كُلِّ الأرواح All Souls College« التي تُعْتَبَرُ الأكثر نُخْبَوِيّةً على المستوى الأكاديمي بين الكليات الجامعية في أوكسفورد وكامبريدج، أو ما يسمى بـ «الأوكسبريدج Oxbridge«.
يشتمل هذا التبدُّل الذي أصاب المعنى إلى نظرةٍ سلبيةٍ ليس فقط تجاه النخب الأكاديمية، بل تجاه عُمُومِ النخب الفكرية Intelligentsia التي تَضُمُّ مجموع المثقفين من كُتّابٍ، وأكاديميين، وفلاسفة، ومُفَكِّرِين، أو من حَازَ على قَدْرٍ لا بأس به من المعرفة تُمَكِّنُه من الإنتاج الفكري. وتُعْتَبَرُ هذه النظرة السلبية تجاه «النخب الفكرية» جزءاً من تَوَجُّهٍ مُضادٍ للفكر Anti-Intellectualism. ويَتراوَحُ هذا التوَجُّه بين مواقف السخرية والاستهزاء بالفكر، إلى الذَّم والعداء الجزئي، إلى حالةٍ مُتَطَرِّفَةٍ من العداء الكامل، أو حتى إلى تحويل العداء الكامل للفكر إلى فضيلةٍ يُحَضُّ على ممارستها.
يمكن تتبع مواقف الاستهزاء بالفكر على مستوى التعامل اليومي في الثقافات السائدة. ومع أن لهذه المواقف حضوراً عالمياً إلا أن درجة وطبيعة الاستهزاء تختلف من مجتمعٍ إلى آخر. ففي مجتمعات الدول النامية والتقليدية التي خضعتْ لنير الاستبداد لفتراتٍ طويلةٍ يَنْدُرُ العثور أصلاً على مثيلٍ للمثقف الحقيقي ذي الآراء العَلَنِيَّة؛ إمّا لأنه غير شائع، أو لأنه مُكَبّلٌ وغير حرٍّ في تَوَاصُلِهِ مع الناس. ولهذا ففي هذه المجتمعات يبرز الاستهزاء بالفكر، في صورةٍ بريئةٍ، كنظرةٍ سلبيةٍ، مُوَجَّهٍ ضد أصحاب المِهَن والمهارات التقنية: الطبيب الجشع، أو المحامي اللص، أو المهندس الفاسد، أو الصحافي الذي يمكن شراء ولائه، أو أستاذ الجامعة الذي يبيع أسئلة الامتحان إلخ. بالتأكيد تُعَبِّرُ مواقف الاستهزاء، وما تَحْمِلُهُ من نظرةٍ سلبيةٍ، عن رفضٍ لممارساتٍ خاطئةٍ يراها ويشعر بها الناس في تعاملاتهم اليومية مع هؤلاء «المثقفين». لكن النَّفاذ إلى ما وراء هذه المواقف الاستهزائية، وإخضاعها إلى التحليل الهادئ، يُظْهِرُ أنها انعكاسٌ وتكريسٌ لحالة انفصالٍ يُوضَعُ فيها «عامة الناس» في جهة و»المثقفون» في جهةٍ أخرى، بعد أن يتم توظيفُ مُقَارَبَتَيْن مُتَنَاقِضَتَيْن. تنطلق المقاربة الأولى من «تقديرٍ خفيٍّ» للفكر الذي يتم إسقاطه في صورةٍ مفرطةٍ في المثالية على «المثقف». وعليه تَفْتَرِضُ الذهنية الجمعية في اللاوعي بأن «الفكر» قيمةٌ تتلازمُ ضِمْناً مع حسٍّ أخلاقيٍّ عال، وعلى هؤلاء «المثقفين» أن يكونوا أناساً أفضل وأقْوَم خُلُقاً (سواء بالمعنى العام، و/أو بالمعنى التقليدي الديني والالتزامي بطقوس العبادة إلخ). ويلعب هذا الدَّمج بين الفكر والأخلاق دوراً هامّاً في المجتمعات المحافظة والمُتَدَيِّنَة، حيث من النادر أن يُقَيَّمَ «المثقف» بناءً على قوله أو على مهارته المهنية والاحترافية، بل غالباً ما يلعب شَخْصُ «المثقف» ومواقفه من التقاليد الشائعة، ومدى التزامه بها وتماهيه معها، دوراً في هذا التقويم. يخلق هذا الوضع، وفي شكلٍ تلقائيٍّ، مسافةً بين العقلية السائدة و»المثقف»؛ خصوصاً «المثقف» الذي يسعى إلى تغييرٍ حقيقي في مجتمعه، وإلى الانعتاق من قيود العادات البالية. هنا يتحول «المثقف»، والفكر الذي يُرَوِّجُ له هذا «المثقف»، في نظر الثقافة السائدة، إلى موضوعٍ مشروعٍ للاستهزاء والسخرية بحجة مخالفته للعادات والتقاليد، أو افتراقه عن الأخلاق التي ترسمها هذه العادات والتقاليد.
وبعيداً عن جَدَلِيّةِ الأخلاق والفكر، وعلى عكس المقاربة الأولى (لكن بالتوازي معها)، تَعْمَدُ المقاربة الثانية إلى تقييم الفكر مادياً في إطارٍ منفعيٍّ بَحْتٍ، بعد إحداث قطيعةٍ كاملةٍ مع الأخلاق. يظهر الفكر هنا وكأنه مُجَرَّدُ سلعةٍ مُعَدَّةٍ للاستهلاك وخاضعةٍ لمنطق السوق. إلا أن تقييم «الفكر» من منظورٍ ماديٍّ نفعيٍ هو، بِحَدِّ ذاته، توجهٌ مضادٌ «للفكر»، حيث لا يجد أصحاب هذه المقاربة ضَيْراً في الاحتفاء بالجهل على سبيل المثال، طالما أن مردوده المادي أكبر من المردود المادي الآتي من خلال الفكر. يُضَافُ إلى ذلك أن هذه المقاربة تحمل ضمنيّاً إهانةً للفكر بعد تَجْرِيدِهِ من جوهره كفضيلةٍ قائمةٍ بِحَدِّ ذاتها، وتَعْرِيَتِهِ من بُعْدِهِ الإنساني.
وهكذا تنبعُ مواقف الاستهزاء بالفكر، على مستوى الثقافات السائدة في المجتمعات النامية والتقليدية، من هاتين المقاربتين: جدلية التلازم بين الفكر والأخلاق (التي تعطي الفكر صيغةً مثاليةً وطوباويةً من حيث تطابقه مع الثقافة السائدة حتى لو كانتْ هذه الثقافة مشبعةً بالعادات البالية)، والمقاربة الاستهلاكية المنفعية للفكر كسلعة (التي تعطي الفكر صيغةً ماديةً تجعل منه وسيلةً للكسب تتساوى في قيمتها الجوهرية مع كل الوسائل الأخرى).
أما المجتمعات التي تعيش في ظلِّ ما يُسَمَّى بالديموقراطية الغربية، فغالباً ما تكون مواقف الاستهزاء بالفكر موجهةً تجاه «المثقفين» المشتغلين في حقل السياسة والشأن العام (خاصةً في المجتمع الأميركي)، كما تبرز في شكلٍ بارزٍ المقاربة الاستهلاكية المنفعية للفكر. وقد تم إعطاء هذه المقاربة صيغةً رسميةً في قوانين الملكية الفكرية (هنا يَعْمَدُ القانون إلى «شَرْعَنَةِ» تَحَوُّلِ النتاج الفكري إلى سلعة، وترسيخ النظر إلى الفكر على هذا الأساس).
وفي عصر العَوْلَمَة، الذي حَوَّلَ الأرض إلى ما يشبه القرية الصغيرة، تميلُ المجتمعات إلى اتباع سُلُوكِيَّاتٍ متشابهةٍ بخاصةً على مستوى الجيل الصاعد. إذ غالباً ما يَعْمَدُ اليافعون والمراهقون إلى السعي وراء صورةٍ نمطيةٍ للشباب العصري و»الكول cool« الذي يمتاز بالأناقة والجمال واتِّبَاعِ الموضة والانغماس في طقوس الاستهلاك السطحي، مع تركيزٍ شبه معدومٍ على الناحية الفكرية واستهزاءٍ شبه مُطْلَقٍ بها. فقد اعتاد الطلبة في كل المجتمعات على إطلاق أوصاف «geek« أو «nerd« على المهووس بالكمبيوتر وكمُرادِفٍ لكلمة «دَرّيس»؛ أي الطالبِ المُجِدِّ الذي يُمْضي وقته في الدراسة والتحصيل. كما انتشرت في العقود القليلة الماضية ظاهرة الاستهزاء بالمعلمين والأساتذة في المدارس. وكمثالٍ آخر نذكر المحتوى السلبي الذي تحمله الثقافات السائدة في المجتمعات تجاه كلمة «فلسفة» المكافئة للفذلكة أو التغريد خارج السرب، ولا يخلو هذا التوصيف من لَمْزٍ، مُبَطَّنٍ أو ظاهرٍ، بالتحريم والتجريم الذي بدأ يتسع نطاقه حتى باتتْ كلمة «مثقف» شبه شتيمةٍ في بعض الأوساط.
وقد سَقَطَتْ فنون الرواية والسينما والرسوم المتحركة والدراما في فَخِّ الاستهزاء بالفكر، وساهمتْ في صورةٍ تبادليةٍ، بتعزيز هذا الاستهزاء. يبدو ذاك جَلِيّاً من خلال العَرْضِ التَّهَكُّمِيِّ والمتكررِ للمثقف (المفكر/العَالِم/الأكاديمي/الفيلسوف/إلخ) ذي الشَّعْرِ غير المُصَفَّف، والنظارات السميكة، والبلادة والانفصال عن الواقع، وغياب روح الدعابة، وغيرها من الصفات التي يتم إظهارها في حِلّةٍ سلبيةٍ، وحَشْرِها في صورةٍ نمطيةٍ، وتحويلها إلى موضوعةٍ متواترةٍ.
ففي الولايات المتحدة، وبين عامي 2005 و2008، بَثَّتْ قناة CW برنامج (من نوع برامج الواقع) بعنوان «الجميلة والدرّيس Beauty and the Geek«، مع إصداراتٍ بلغاتٍ مختلفةٍ في حوالي 15 دولة حول العالم (لا يوجد إصدارٌ عربيٌّ أو شرق أوسطي باستثناء تركيا). وتقوم فكرة البرنامج على متابعة تطور العلاقة الرومانسية بين «درّيس» (دائماً ذكر!) وبين إحدى الجميلات من المشاهير (دائماً أنثى)، مع تقديم نصائح للـ «دَرّيس» كي يغدو «إنساناً طبيعياً». ومع أن البرنامج يُجْري لقاءاتٍ جانبيةً مع الفتيات، اللواتي يُعَبِّرْنَ أحياناً عن إعجابهن بـ «الدَرّيس»، إلا أن فحوى الرسالة التي يُوَجِّهُهَا البرنامج تُرَسِّخُ الانفصال النَّمَطِيَّ والسطحي بين عَالَمَيْن: يَضُمُّ الأول «الدَرّيس/الذكر» كنوعٍ قائمٍ بحدِّ ذاته ومنفصلٍ ومختلفٍ جذرياً عَمّا يَضُمُّهُ العالم الثاني، أي عن «الجميلة/الأنثى».
وكمثالٍ آخر يمكنُ ذِكْرُ شخصية «روس Ross« (لعب الدور الممثل ديفيد شويمرDavid Schwimmer) في السلسلة الفكاهية «فريندز Friends« التي عُرِضَتْ نسختها الأصلية بين عامي 1994 و2004 على قناة NBC. ومؤخراً أخَذَتْ هذه الصورة النمطية دور البطولة الكاملة مع عرضِ سلسلةٍ جديدةٍ بعنوان «نظرية الانفجار العظيم The Big Bang Theory« على شاشة CBS. ويأخذ موقع البطولة في السلسلة الأخيرة، وفي قالبٍ فكاهيٍّ، عددٌ من الممثلين الذين يلعبون دور باحثين شباب في مجال الفيزياء والفلك والبيولوجيا، مع هَوَسٍ بألعاب الفيديو، والبرمجة، ومتابعة أفلام الخيال العلمي مثل Star Trek. وتدور الأحداث حول ما يواجهونه من مواقف مُحْرِجَةٍ للتأقلم مع المجتمع المحيط، ومن مصاعب وعقبات في حياتهم العاطفية.
وعلى مستوى العالم الناطق بالعربية تُقَدِّمُ مسرحية «مدرسة المشاغبين» من بطولة الراحل عادل إمام مثالاً صارخاً للسخرية من الفكر في قالبٍ كوميديٍّ وجذّاب. وبالتوازي نقع في الدراما السورية الكلاسيكية، في «صح النوم» أو «حمّام الهنا»، على ذلك التنافس الخَفِيّ بين غوار الطوشة الماكر (دريد لحام)، وحسني البورظان «المثقف» وضعيف الحيلة (الراحل نهاد قلعي).
ويظهر المَيْلُ ذاته في الرسوم المتحركة. ففي «السنافر Smurfs«، وهو فيلمٌ كرتونيٌّ بلجيكيٌّ للأطفال عُرِضَ بين عامي 1981 و1989، تمكن المقارنة بين «سنفور مفكر» و»سنفور شاطر» و»سنفور قوي». ففي حين يمتاز الأول بعدم قدرته على اجتراح أي حلولٍ عمليةٍ، يبدع الثاني في العمل اليدوي والتقني، في حين تكون الغلبة عادةً للثالث. يؤسس هذا الاختلاف لحاجزٍ يفصل، وفي شكل تعسفيٍّ، بين النظرية والاشتغال الفكري في جهة، وبين التطبيق العملي والعنف في جهةٍ أخرى. ويقف هذا التوجه، الذي يُظْهِرُ الفكر كنشاطٍ بشريٍّ خاملٍ وغير فاعل، في وضعٍ مناقضٍ لحدٍّ ما لما يطرحه أدب الخيال العلمي الذي يربط النتاج الفكري (والنتاج العلمي على وجه التحديد) بالشر والعنف: نهاية العالم بسبب حربٍ نوويةٍ، أو غزوٍ فضائيٍّ، أو استنساخٍ لحيواناتٍ مفترسةٍ أو حشراتٍ عملاقةٍ إلخ.
ويمكن وضع هذه الأدوار الشريرة، التي يَتَسَبَّبُ بها الفكر ويُمارِسُها المثقف، كامتدادٍ لأدب العصر الرومنطيقي والحداثي. وكأمثلةٍ على ذلك يُمْكِنُ ذِكْرُ رواية «الحالة الغريبة للدكتور جيكل ومستر هايد Strange Case of Dr. Jekyll and Mr. Hyde« لـ «روبرت ستيفنسون Robert Stevenson«، أو رواية «فرانكشتاين Frankenstein« لـ «ماري شيللي Mary Shelley«. وفي حالاتٍ أقل شيوعاً قد تأخذ الصورة النمطية «للمثقف» في السياق الأدبي الفني دوراً إيجابياً، إلا أنها على الأرجح، لن تكون في موقع البطولة؛ فالمثقف (العالم/المفكر/الحكيم/إلخ) يجلس على الهامش بعيداً عن الحَدَثِ، وهو حُكْماً ليس «البطل» وذلك على خلاف سوبرمان، أو الرجل الوطواط، أو «الدوق فليد» في السلسلة اليابانية غريندايزر إلخ (وعادةً ما يكون «البطل« مُقَنَّعاً أو مُرْتَدِياً لزيٍّ يُمَيِّزُهُ عن الجميع).
تبقى هذه المواقف الاستهزائية الفكاهية/الدرامية/التراجيدية مَحْصُورةً في نطاق الثقافات السائدة، وفي صيغةٍ فنيةٍ/إعلاميةٍ، لتتجلّى في صورةٍ غير عنفيةٍ بعيداً عن الإيذاء الجسدي المباشر للمُتَلَقّي. إلا أن هذه المواقف الاستهزائية، المُنْدَرِجَةِ في سياق التوجه المضاد للفكر، تطرح أسئلةً عن أسباب شيوع وانتشار وصعود مثل هذا التوجه أصلاً. فمع الاعتراف بأن لمثل هذه التوجه جذوراً قديمةً، إلا أن حضوره في الماضي لم يكن طَاغِياً كما هي الحال الآن، كما أن الكثير من ظواهره لم تكن موجودةً حتى في بدايات القرن الماضي (الاستهزاء بالمعلمين في المدارس من قِبَلِ التلاميذ على سبيل المثال).
ولهذا فلا بُدَّ من تشريح التبدلات الجذرية التي رافقتْ رياح النهضة والتنوير منذ نهاية العصور الوسطى، وما خَلَّفَتْهُ تلك التبدلات من آثارٍ عميقةٍ على المجتمعات وعلى المزاج العام، وعلى أدوات صناعة هذا المزاج العام (وخاصةً الإعلام). يَجْدُرُ التنويه أخيراً إلى أن التوجه المضاد للفكر ظاهرةٌ معقدةٌ لها ملامحها الخارجية السطحية، وجذورها البعيدة والمتشابكة. ولهذا يبقى أيُّ تحليلٍ هذه الظاهرة قَاصِراً دون الخَوْضِ، في دراسةٍ منفصلةٍ، في التبدلات المُوازية التي طَرَأَتْ على مواقف «النخب التقليدية»، وعلى احتكارها للمعرفة والفكر وغيرها من «علاقات القوة والهَيْمَنَة» مع انطلاق عصر النهضة والتنوير.
مقال منشور في ملحق تيارات في صحيفة الحياة بعنوان: "مأساة الطفولة في المشهد السوري"
http://alhayat.com/Details/510072
مأساة الطفولة في المشهد السوري
طلال المَيْهَني
الأحد ٥ مايو ٢٠١٣
طفلٌ سوريٌّ مَحْمُولٌ على الأكتاف يهتفُ بعبارات التهديد والوعيد بالقتل. طفلٌ ثانٍ يَرْوي على أسماعنا، في تَمَاسُكٍ مُدْهِشٍ وسَرْدٍ رهيبٍ ودموعٍ مَكْبُوتَةٍ، كيف تَحَوَّلَ أفراد عائلته إلى مُجَرَّدِ أشلاء. وثالثٌ يعمل مُمَرِّضاً ومساعداً طبياً في عمليات بَتْرِ الأطراف في مشفىً ميدانيٍّ مُهَدَّدٍ بالقصف في أيِّ لحظة. وطفلٌ آخر يرتدي أمشاط الرصاص، ويحمل سلاحاً أطول من قامته الغَضّة، وفي يمينه سيجارةٌ يدخّنها، لتَتَصَدَّرَ صُورَتُه صفحات الجرائد الأجنبية.
تَخْلُو الصور ومقـاطع الفـيـديو المَذْكُورة من مشـاهدِ الموتِ الفَجِّ، إلا أنها تـعـبقُ بالموت الـمُضـْمَـرِ، في أقـسى مـشاهِدِه المُتـَخَيَّلَة، مع قاسمٍ مُشْتَرَكٍ يجعلها اســتمراراً تـراجــيدياً لأطـفال درعا: الاستباحة الهَمَجِيّة والأليمة لـ «الطفل السوري»، الذي انْتُزِعَ من المدرسة وباحة اللعب وأقلام التلوين، ليُرْمَى به وسط هذا الجحيم الأرضي. فأيُّ طفولةٍ تلك التي تُحْرَمُ من أبسط مُقَوِّمَاتِ الطفولة؟
في هذا السياق، أصْدَرَتِ «يونيسيف» في آذار (مارس) 2013، تقريراً حَمَلَ عنوان «أطفال سورية: جيلٌ ضائع». يسردُ التقرير توَزُّعَ الأطفال في المناطق الساخنة ودول الجوار، مع عَرْضٍ لأوضاعهم العامة والصحية، وتعدادٍ لـ «إنجازات» المنظمات الدولية في استجابتها الباهتة للأزمة الإنسانية التي تعاني منها سورية. كما يحفل التقرير بكثيرٍ من الإحصائيات المؤلمة، مُشِيراً، على سبيل المثال، إلى أن الأطفال يُشَكِّلُون 50 في المئة من اللاجئين السوريين خارج البلاد، وأن مليونين من الأطفال في حاجةٍ إلى مساعداتٍ عَاجِلَةٍ تبلغ نفقاتها حدود 200 مليون دولار (تَمَّ تأمينُ خُمْسِها فقط!).
يُعْتَبَرُ الأطفالُ عُرْضَةً لكل أشكال الاستغلال المادي-الجسدي، خصوصاً في سياق العنف والفوضى. وفي ظلِّ الاقتتال المُسْتَعِرِ في سورية، والخراب الذي طَاولَ المناطق السكنية في المدن والبلدات والقرى (منها ما سُوِّيَ بالأرض)، بلغ عدد الضحايا من الأطفال ما يزيد على ستة آلاف، عدا عشرات الآلاف من الجرحى والمصابين. وفي أعنف الأشكال الراديكاليَّة، يغدو الطفل أداةً وجزءاً من الصراع العنفي؛ إنْ على مستوى التجنيد كعنصرٍ مقاتلٍ مُقْبِلٍ على الفناء على خطوط «الجبهة»، أو على مستوى «الجسد» المُسْتَبَاح أولاً بالقتل، والمُسْتَبَاح تالياً بالحَمْل على الأكُف؛ في فعلٍ استعراضيٍّ فظيعٍ يتكاملُ مع فظاعة الموت؛ وكأن وحشيّة قاتل الطفل لا يُمْكِنها أن تتجلّى إلا عبر العرض الوحشي لجسد الطفل-الضحية.
أما الأطفال الناجون من الموت، ومن وحشية تجار الحروب، فسوف «يعيشون» في ظلِّ الفقر والتشريد، مع حرمانٍ شبه كاملٍ من الرعاية الصحية، والتغذية المتوازنة، وغيرها من المستلزمات الأساسية للحياة والنمو السليم.
يجب التوقف عند عُمْقِ الرضوض المعنوية-النفسية التي تتركُ آثارها في ذهنية الطفل وتحفر في ذاكرته. فالطفل السوري ينام ويستيقظ على وَقْع أصوات الرصاص والمدافع والمفخخات والصواريخ، وعلى مشـاهد الدم المـَعْـروضـة على الشاشات. ومع تزايد عدد الأيتام الذين فقدوا الأهل، يزداد العبء النفسي الناجم عن الحرمان العاطفي وفقدان الـشعور بالأمان. تُضافُ إلى ما سَـبَقَ فجوةٌ عميقةٌ على مسـتوى التـحصيل المعرفي بعد تَشَتُّتِ الكادر التعليمي، وتدمير آلاف المدارس، أو تحويلها إلى مقار للنازحين أو حملة السلاح أو للاعتقال والـتعذيب. وبَرَزَتْ أخيراً، في الـشـمال السوري، ظاهرةُ المدارس التي تتبنّى قراءةً متعصبةً للفكر الديني، وتُطَبِّقُ مناهج مؤدلجةً (قد لا تختلف كثيراً، من ناحية المبدأ، عن المناهج الإيديولوجية البعثية التي كانتْ تُدَرَّسُ على مدى عقود). كما يجب ألا نُقَلِّلَ من شأن الأحقاد التي يَسْكُبُها «الكبار» سَكـْباً، علـى مـستوى الـحوارات اليومية، في مسامع الأطفال وأبـصارهم وقلوبهم، كأن هؤلاء «الكبار» لا يَكْتَفُون بالفظاعات التي يَرْتَكِبُونَها، بل يُصِرُّون على توريثِ الأطفالِ أمراضَهم ومآلاتِ عنفهم. ولعلّ من النافِلِ القولُ إن المأساة مضاعفةٌ عند الأطفال المُنْحَدِرِين أصلاً من خلفيةٍ اجتماعيةٍ مُهَمَّشَةٍ، ما يُعَمِّقُ المعاناة واللامساواة المُسْتَفْحِلَة في «المجتمع السوري».
وفي سياق جمودٍ فكريٍّ ومؤسساتيٍّ يُخَيِّمُ على المنطقة، تُعِيرُ قِلّةٌ من السوريين بالاً للآثار التي يتركها الصراع العنفي على الأطفال. ففي سورية جيلٌ مُثْقَلٌ بالرضوض النفسية والملوثات الفكرية، مع هُوَّةٍ أليمةٍ تتسع يومياً على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والمعرفي. ومع ذلك، لا نجد، بعد عامَيْن، حِراكاً مَدَنِيَّاً متناسباً مع حجم الكارثة. نَلْحَظُ هذا التقصير على مستوى المبادرات الدولية والإقليمية، أو على مستوى المبادرات السورية، سواء في مخيمات اللاجئين خارج سورية، أو في الداخل السـوري، حـيث تكـاد هذه المـبادرات أن تكون شبه غائبةٍ، وإن وُجِدَتْ فمعظمها لا يَتَّصِفُ بالجدِّية، أو يميل إلى مُجَرَّدِ الاستعراض، أو المُسَاوَمَة على الولاءات.
لا خلاف على أن أفضل استجابةٍ لهذا الوضع الكارثي هي في إيجاد حلٍّ جذريٍّ للأزمة، لا الاكتفاء بتجميلها «إنسانياً» في صورة إغـاثيةٍ عبر مــساعداتٍ من هنا وتبرعاتٍ من هناك. فالأعـمال الإغاثية، على أهميتها، ليـستْ سـوى رد فـعلٍ يـُفْتَرَضُ أن يكون موقـتاً، وهي بالـتأكيـد لـيستْ بـجـوابٍ شــافٍ ومُـسـتدام. لكن مثــل هذا الـحلِّ الجذري، المـستند بَديهَةً إلى وقف العنف، في حاجةٍ إلى إرادةٍ سـوريةٍ مسـؤولةٍ تَعْضُدُها عـمليةٌ سـياسـيةٌ جادّة. هـذا ما أفـاد به التقرير الأخـير للأخضر الإبراهيمي، وهذا مـا طَرَحـَهُ الشـيخ معاذ الخـطـيب في مبادرته التـي تلتقي مع مـساعي عـددٍ من قوى المعـارضـة. وإلى أن تقتنع الأطراف العنـفية (وأولها النظام)، أو تُجْبَرَ على أن تـقتنعَ، بالـتخلّي عـن أحلام الحسم العسكري، ستبقى هذه الصورة المثاليّة بعيدةً عن الـتـحقـيق، وسـتبقى المأســاة الســـورية مُرَشَّــحـَةً للاســـتفحال.
أطفالُ سورية مسؤوليةٌ كبرى على عاتِقِ كلِّ سوريٍّ، وحمايتهم وتحييدهم جسدياً ونفسياً عن فظاعات العنف، أوْلَى من تسجيل السوريين «الكبار» لانتصاراتٍ عَبَثِيّةٍ على بعضهم، أو تحقيقهم مكاسب بطوليةٍ على خطوط الجبهة التي تُفَتِّتُ الوطن وتُدَمِّرُه.
وأخيراً، على كلِّ حريصٍ على سورية أن يتذكر أن استباحةَ الأطفال استباحةٌ للجيل الصاعد في سورية؛ استباحةٌ تَذْبَحُ بصَمْتٍ مستقبلَ وطنٍ يبحثُ عَبَثاً عن مستقبل.
مقال منشور في ملحق نوافذ بعنوان: "الشعب/النُّخَب: أطروحةٌ في رَفْضٍ الثنائيّة القُطْبيّة"
المستقبل
- الأحد 28 نيسان 2013 - العدد 4674 - نوافذ - صفحة 11
السطورُ
التاليةُ استكمالٌ على هامشِ مقالٍ مُطَوَّلٍ نسبياً تم نشره بعنوان «في هجاء
الشعبوية» (ملحق نوافذ، جريدة المستقبل، 14 نيسان/أبريل 2013). إذ يَكْثُرُ
الحديثُ، على مستوى الحوارات اليومية والثقافة المنتشرة، عن حالةٍ من «التقسيم»
بين «الشعب» و»النُّخَب»، وكأننا قُبالة أشياء أو أحياز مُتَنَافِرَةٍ
ومَحْشُورَةٍ في «ثنائيةٍ قطبيةٍ» ذاتِ حَدَّيْن لا ثالثَ لهما. ويَسْتَدْعِي هذا
موقفاً من حالة «التقسيم» وما يَتَوَلَّدُ عنها، ومن اعتبار «الشعب» و»النخب»
وكأنها كينوناتٌ مُنْفَصِلَةٌ ومعزولةٌ عن بعضها.
- 1 –
كما هي
الحال مع معظم «الثنائيات القطبية»، يميلُ العقل البشري إلى أن يُسَوِّدَ (أي
يَمْنَحَ السيادة) أحَدَ حَدَّيْ الثنائية، عبر تطعيمه بصفاتِ الخير المَحْضِ،
ليغدو الحَدُّ الآخر، في شكلٍ تلقائيٍّ أو مقصودٍ، مَصْدَراً للشرور ومِشْجَباً
تُعَلَّقُ عليه الأخطاء. وفي هذا السياق المُسْتَقْطَب والمُشَوَّه مفاهيمياً
يُعْلِنُ «دعاة الشعبوية» انْحِيَازَهُم إلى صفِّ «الشعب»، والدفاع عنه في وجه
«النخب الشريرة»؛ وفي خِضَمِّ هذه النظرة المتجانسة والشمولية تبرز ضَحِيّتان؛
الأولى: «الإنسان/الفرد»، أما الضحية الثانية: «الشعب» باعتباره مجموع الأفراد.
- 2 –
«دعاة
الشعبوية» في الغالب محسوبون على «نخبٍ» استطاعت الإفادة من حالة «التقسيم»، ثم
انفصلتْ عن «النخب» شَكْلِيّاً لتعودَ وتَتَسَلَّلَ وتَدّعِي شعبوياً النُّطْقَ
باسم «الشعب» والدفاع عنه ضد «النخب». هذا الانحياز الخطابي الشكلي إلى صفِّ
«الشعب»، الذي تمارسه «النخب الشعبوية»، هو انحيازٌ ظاهريٌّ كونه يؤدي، في شكلٍ
غير مباشرٍ، إلى تكثيف امتلاكها للقوة، وممارستها لدورٍ وصائيٍّ ومُسْتَتِرٍ على
«الشعب». ويَتَرَسَّخُ هذا الانحياز الظاهري عبر سَعْي «النخب الشعبوية»، قولاً
وفعلاً، إلى المحافظة والترويج للصورة النمطية «للشعب»: الفقر، الجهل، البؤس،
الشقاء إلخ. حيث تَمْنَحُ الاستمراريةُ المَلْحَمِيّةُ لهذه الصورة النمطية
الفرصةَ لتقويل «الشعب» ما يُرادُ له أن يقول، مع تَجْذيرِ حالة «التقسيم» بين «الشعب»
و»النخب». «دعاة الشعبوية» طلّابُ سلطةٍ في صيغةٍ مُخَاتِلَةٍ: تجسيدٌ صارخٌ
«للحَرْبَاء» في سياق الشأن العام، وإهانةٌ صريحةٌ وتشويهٌ عميقٌ للسياسة
باعتبارها فَنّاً بشرياً.
- 3 –
تختلف
ممارسات «النخب الشعبوية» عن التفكير الماركسي التقليدي الذي يَسْعَى، نَظَرِيّاً
على الأقل، إلى إلغاء أو اجتثاث «النخب»؛ فهي ليستْ مصدراً للشرور فقط: هي الشرور
ذاتها! «فالنخب» مفرزاتٌ للرأسماليةِ المَقِيتَةِ التي تَسْتَغِلُّ البروليتاريا
وتُعيقُ تطورها. كما تختلفُ «النخب الشعبوية» عن اليمين النخبوي الاستعلائي الذي
يُعْلِي من «النخب» (السلطوية، الأهلية، المالية إلخ) ويزدري «جموع الشعب» التي
تغدو هي الشرور ذاتها، وعليها بالتالي أن تلتزمَ الصمت وتُظْهِرَ طقوس الطاعة
«للنخب» التي تكفلُ وحدها كَبْتَ الشرور. هذه الممارسات التي تتبعها «النخب
الشعبوية»، أو التي تسعى إليها بعض الأجندات اليسارية واليمينة، غير دقيقةٍ كونها
تَعْتَبِرُ حالة «التقسيم» بين «الشعب» و»النخب»، و»الثنائية القطبية»
المُتَوَلِّدَة عنها، وكأنها مُسَلّمَاتٌ صحيحةٌ لا تُمْكِنُ مُساءَلَتُها. بل
تتعاملُ مع كلِّ ذلك وكأنها ظواهر أزلية/أبدية وثابتة ومنقوشة في نظام الطبيعة.
- 4 –
بالتأكيد
فهذه الظواهر (حالة «التقسيم» بين «الشعب» و»النخب»، و»الثنائية القطبية») جزءٌ من
الواقع؛ لكنه «واقعٌ سائدٌ»: وأنْ يكونَ الواقعُ «واقعاً سائداً» لا يجعلُ منه
مرجعيةً مطلقةً تقاسُ من خلالها الحقيقة. «الواقع السائد» مُصْطَنَعٌ ومُتَوَلِّدٌ
كنتيجةٍ لنشاطٍ بشريٍّ تراكميٍّ هو، بِحَدِّ ذاته، رَدَّةُ فعلٍ على أزماتٍ
تاريخيةٍ عميقةٍ تترك آثارها في المجتمعات. وتنشأ نتيجة ذلك فئاتٌ
تَعْتَقِدُ/يُعْتَقَدُ أنها مضطهدةٌ تكون عُرْضَةً لاستغلال فئاتٍ
تَعْتَقِدُ/يُعْتَقَدُ أنها أكثر قوة. ويتطور هذا الاعتقادُ الأوّليُّ
والمَوْهُومُ بالاختلاف إلى اختلافٍ حقيقيٍّ. ثم يتزاوجُ الاختلافُ في امتلاكِ
القوة مع الخَلَلِ في تنظيم استخدامها، ليدفعَ بالبشر إلى خَلْقِ وتَصَوُّرِ
أحيازٍ اعتباطيةٍ وتعسفيةٍ ومتخيلةٍ «للتأقلم» مع المُعاش والمحسوس (عِوَضاً عن
تغييره أو محاولة تغييره). وتلعب العلاقةُ التبادليةُ، على مستوى الأفراد
والجماعات، دوراً أساسياً في هذه السيْرورة المعقدة - فبعد خلق الأحياز، وبعد
فرضها، والقبول بها (طَوْعاً أو كُرْهاً)، لا بُدَّ لهذه الأحياز من أن تَسْتَمِر
عبر تواطؤٍ مُضْمَرٍ ولا واعٍ على القبول بهذا الاستمرار؛ ما يعني ضِمْناً عَدَمَ
المَسَاسِ بالأزماتِ العميقة التي تبقى في تفاعلٍ وتَضَخُّمٍ تحت الرماد، وبعيداً
عن أيِّ نقد (هذا إذا افترضنا أن التفكير النقدي متاحٌ أصلاً).
- 5 –
وهكذا
يتم، وفقاً لمناهجَ مَوْهُومَةٍ، خلقُ حالةِ «تقسيمٍ» بين «الشعب» و»النخب»، ثم ترسيخ
حالة «التقسيم» في «ثنائيةٍ قطبيةٍ» وفَرْضِها عبر قبولٍ تواطؤيٍّ بها من قِبَلِ
«الشعب» و»النخب»، يتلوه سَعْيٌ إلى المحافظة عليها كجزءٍ لا يتجزأ من «الواقع
السائد»، وكأنها عنصرٌ من عناصر الذات، ومُكَافِئٌ للحقيقة (أو ما يُرادُ له أن
يبدو وكأنه مُكَافِئٌ للحقيقة). وفي بعض الأحيان تنطلقُ «ثوراتٌ» من هنا ومن هناك،
لكنها تبقى مَحْصُورَةً في حدود «الثنائية القطبية»، لتهدف إلى مُجَرَّدِ تبادلٍ
في المواقع القطبية والامتيازات المرتبطة بها، أو إلى انتزاع مزيدٍ من الحقوق مع
الإبقاء على المواقع القطبية. هذه «ثوراتٌ» مبتورةٌ لأنها تكتفي بالانتفاض في وجه
ظواهر «الواقع السائد»، دون أن تعالج جذور هذه الظواهر، ودون أن تتجرأ على إحداث
تغييرٍ حقيقيٍّ عبر التصَدّي للأزمات العميقة التي كانت السبب الجوهري في إنتاج
«الواقع السائد» في الأصل.
- 6 –
لهذا
فعِوَضاً عن الرفض الخطابي لهذا «الواقع السائد» والقبولِ المُضْمَرِ به، وبَدَلاً
من الانطلاق منه والبناء عليه وكأنه حقيقةٌ مطلقةٌ (كما تفعل الشعبوية ومعظم
المقاربات الفكرية)، لا بد من رفضه فعلاً وقولاً، ورفض التسليم به، ورفض المحافظة
عليه أو الانحياز إلى أحد ظواهره أو أطرافه. لا بد من الخروج من أسْرِ «الثنائية
القطبية»، والابتعاد عنها كي يَتَسَنَّى للمُراقِبِ النَّظَرُ والتمَعُّنُ في كامل
المشهد. وسيسمح ذلك بإدراك «الثنائية القطبية» كتظاهُرٍ على مَسْرَحِ التجربة
البشرية المتراكمة، ويُمَهِّدُ بالتالي لتفكيكها دون الالتزام المُبَسَّط بأيٍّ من
حَدَّيْها. «فالنخب» جزءٌ من «الشعب»، ومقياسٌ ظاهرٌ لهذا «الشعب»، وانعكاسٌ
لتَوَاطُؤِ أفراد «الشعب» على القبول بهذه «النخب» كحَيِّزٍ مَوْهُومٍ ومنفصلٍ
عنه. أما «الثنائية القطبية» فهي، أولاً وأخيراً، منتجٌ مغلوطٌ يسبح في فضاء
«الواقع السائد»، وعَرَضٌ جانبيٌّ لأزماتٍ عميقةٍ يتم السَّعْيُ، في اللاوعي، إلى
إبقائها مُسْتَتِرَةً.
- 7 –
تقع
مسؤولية هذا الرفض على كَاهِلِ جميع الأفراد وخصوصاً «المثقف» الذي استفاد عملياً
من «الثنائية القطبية»، وامْتَلَكَ، عبر الاستفادة منها، الأدوات اللازمة
لتفكيكها. «المثقف» الذي لا يَتَّخِذُ من الثقافة لصاقةً للتفاخر والتمييز، بل
يُحَوِّلُها إلى وازعٍ إنساني وواجبٍ مفروضٍ عليه، ويعتبرها فضيلةً أصيلةً
وفِطْرِيّةً تَجِبُ مشاركتها مع الجميع. يُفْتَرَض بهذا «المثقف» أن يبني
ويُحَدِّدَ مواقفه بعيداً عن الإعلان عن اصْطِفَافِهِ المُبَسَّطِ مع أحد طرفي هذه
«الثنائية القطبية» (أو غيرها). بل عليه الغَوْصُ عميقاً في تفكيكه «للواقع
السائد» وظواهره بعد أن يتخلّى عن سطحية الطرح الشعبوي أو الاستعلائي الساذج، وبعد
أن يتجاوز الصورة التقليدية للتنوير الهَرَمي المُتَّجِه من القمة إلى القاعدة. كلُّ
ذلك في سبيل إعادة التعيين لظواهرِ «الواقع السائد»، والكشف عن تهافت واعتباطية
«الثنائية القطبية»، والعمل المُخْلِص على إلغائها، وعلى رَدْمِ الهُوَّة
المَوْهُومة والمصطنعة بين «الشعب» و»النخب».
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)